تكريم فريق مولودية بوسالم للكرة الطائرة بعد بلوغه الدور النهائي لبطولة إفريقيا للأندية    مارث: افتتاح ملتقى مارث الدولي للفنون التشكيلية    تحذير من هذه المادة الخطيرة التي تستخدم في صناعة المشروبات الغازية    كرة اليد: الترجي في نهائي بطولة افريقيا للاندية الحائزة على الكؤوس    وزيرة التربية : يجب وضع إستراتيجية ناجعة لتأمين الامتحانات الوطنية    حريق بوحدة تصدير التمور يُخلّف خسائر مادية بدوز الشمالية    سيدي بوزيد: انطلاق فعاليات الدورة التاسعة للمهرجان الدولي الجامعي للمونودراما    تونس تحتل المرتبة الثانية عربيا من حيث عدد الباحثين    الداخلية تشرع في استغلال مقر متطور للأرشيف لمزيد إحكام التصرف في الوثائق    سليانة: أسعار الأضاحي بين 800 دينار إلى 1100 دينار    كاردوزو: سنبذل قصارى جهدنا من أجل بلوغ النهائي القاري ومواصلة إسعاد جماهيرنا    هطول كميات متفاوتة من الامطار خلال الاربع والعشرين ساعة الماضية    باجة: تهاطل الامطار وانخفاض درجات الحرارة سيحسن وضع 30 بالمائة من مساحات الحبوب    الڨصرين: حجز كمية من المخدرات والإحتفاظ ب 4 أشخاص    قيس سعيّد يتسلّم أوراق اعتماد عبد العزيز محمد عبد الله العيد، سفير البحرين    الرئيس الفرنسي : '' أوروبا اليوم فانية و قد تموت ''    جريمة شنيعة: يختطف طفلة ال10 أشهر ويغتصبها ثم يقتلها..تفاصيل صادمة!!    قبلي : اختتام الدورة الأولى لمهرجان المسرحي الصغير    جندوبة: 32 مدرسة تشارك في التصفيات الجهوية لمسابقة تحدي القراءة العربي    تتويج السينما التونسية في 3 مناسبات في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة    عاجل/ انتشال نحو 392 جثمانا من مجمع ناصر الطبي ب"خان يونس" خلال خمسة أيام..    القيروان: القبض على مقترفي عمليّة سرقة قطيع أغنام    روح الجنوب: إلى الذين لم يبق لهم من عروبتهم سوى عمائمهم والعباءات    لعبة الإبداع والإبتكار في رواية (العاهر)/ج2    الحمامات: وفاة شخص في اصطدام سيّارة بدرّاجة ناريّة    قضية سرقة وتخريب بمصنع الفولاذ بمنزل بورقيبة: هذا ما تقرر في حق الموقوفين..#خبر_عاجل    المهدية : غرق مركب صيد على متنه بحّارة...و الحرس يصدر بلاغا    Titre    التونسي يُبذّر يوميا 12بالمئة من ميزانية غذائه..خبير يوضح    خدمة الدين تزيد ب 3.5 مليارات دينار.. موارد القطاع الخارجي تسعف المالية العمومية    رئيس الجمهورية يجدّد في لقائه بوزيرة العدل، التاكيد على الدور التاريخي الموكول للقضاء لتطهير البلاد    بطولة كرة السلة: النتائج الكاملة لمواجهات الجولة الأخيرة من مرحلة البلاي أوف والترتيب    الكيان الصهيوني و"تيك توك".. عداوة قد تصل إلى الحظر    شهداء وجرحى في قصف صهيوني على مدينة رفح جنوب قطاع غزة..#خبر_عاجل    ماذا يحدث في حركة الطيران بفرنسا ؟    بطولة مدريد للماسترز: اليابانية أوساكا تحقق فوزها على البلجيكية غريت    الترجي يطالب إدارة صن داونز بالترفيع في عدد التذاكر المخصصة لجماهيره    اليوم: عودة الهدوء بعد تقلّبات جوّية    شهادة ملكية لدارك المسجّلة في دفتر خانة ضاعتلك...شنوا تعمل ؟    قفصة: تورط طفل قاصر في نشل هاتف جوال لتلميذ    كأس ايطاليا: أتلانتا يتغلب على فيورينتينا ويضرب موعدا مع جوفنتوس في النهائي    لا ترميه ... فوائد مدهشة ''لقشور'' البيض    كتيّب يروّج للمثلية الجنسية بمعرض تونس للكتاب..ما القصة..؟    أكثر من نصف سكان العالم معرضون لأمراض ينقلها البعوض    "تيك توك" تتعهد بالطعن على قانون أميركي يهدد بحظرها    الجزائر: هزة أرضية في تيزي وزو    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    سعيد في لقائه بالحشاني.. للصدق والإخلاص للوطن مقعد واحد    "انصار الله" يعلنون استهداف سفينة ومدمرة أمريكيتين وسفينة صهيونية    اتحاد الفلاحة ينفي ما يروج حول وصول اسعار الاضاحي الى الفي دينار    وزارة الصناعة تكشف عن كلفة انجاز مشروع الربط الكهربائي مع ايطاليا    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    اسناد امتياز استغلال المحروقات "سيدي الكيلاني" لفائدة المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لهذه الأسباب تم اختياره عضوا عاملا بمجمع اللغة العربية بالقاهرة
من رموز العلم والإصلاح التربوي الأستاذ الحجّة المجتهد العلاّمة:محمد الطّاهر بن عاشور في ذكراه (34): (1296 1393ه) (1877 1973م)
نشر في الشعب يوم 08 - 09 - 2007

لقد أدركته في أوّل فجر الاستقلال وقد بلغ من الكبر عتبا (80 سنة) وأنا في السنة الخامسة من التعليم الثانوي الزيتوني يوم كنت نازلا بالمدرسة الشمّاعية في سوق البلاغجية قرب جامع الزيتونة وأدرس بجامع سيدي البشير في باب الفلّة المواد السمعيّة من فقه وأصوله وتفسير مذاهبه وحديثه ورجاله والمواد الكتابيّة الأخرى في مكتب ابن عبد اللّه معهد ابن رشد حومة الصبّاغين وهي الرياضيات والعلوم الطبيعية والتّاريخ والجغرافيا والفرنسية وفنون العربية نحوًا وصرفًا وبلاغة،
وكنت أتردّد في غير أوقات الدّراسة على المكتبة العبدليّة للمطالعة وهي الكائنة على يمين الداخل من الباب الرئيسي الشرقي لجامع الزيتونة من صحن الجنائز وكان الجامع قبل ذلك العام معمورًا بأهله من فحول العلماء والمشائخ الأجلاّء وتلاميذهم النجباء من شباب تونس المتوثبة والجزائر المناضلة وغيرهم، وقد كان رحمه الله يتردّد على تلك المكتبة في قسمها الداخلي (المقصورة) لضبط واحصاء وصيانة المخطوطات الثمينة المتراكمة فيها، فكنّا ونحن تلاميذ لم نتجاوز العقد الثاني من العمر نرمُقه وهو يجتاز صفوف المطالعين في صمت عنيف وحيويّة لا تناسب 80 سنة كالحبّة المارقة من الذّخيرة الحيّة، وكان في ذلك الوقت قد أُزيح عن مشيخة الجامع وفروعه لتحلّ محلّه وزارة التربية الوطنية التي جمعت تحت أنظارها جميع أصناف التعليم الموجودة طيلة عهد الاستعمار البغيض الذي جاء بإدارة العلوم والمعارف الفرنسية لتوجه التعليم الرسمي الحكومي (الفرنكو غرب) بطريقة الفرنكفونية الاستعمارية الراسخة، فلمّا توحّد التعليم بحكم استقلال البلاد كان التعليم الأصلي بمراحله كلّها بالعاصمة والدواخل هو كبش الفداء لهذا التوحيد بحيث ألغي كلّيا شكلا ومضمونا وحوته وزارة المعارف فأفرغت أصله وسمّت فروعه المعاهد الثانوية الزيتونية وأوقفت مددها من التلاميذ في انتظار أن تُكمّل مشوارها بمن فيها من التلاميذ والمدرّسين، أمّا تعليمه العالي فقد أُحدثت له (الكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين) وجُعل مقرّها موضع إدارة الأوقاف المنحلّة والكائنة في نهج جامع الزيتونة الآن قبالة مكتبة النجاح وقد كان يسمّى (نهج الكنيسة) لأنّ فرنسا فتحت به كنيسة صغيرة هي الآن فرع بلدي لبلدية العاصمة وعُيّن على رأس هذه الكلّية التي كادت تكون فارغة تماما في أوّل أمرها لأنّ كل المتخرّجين من طلبة وتلاميذ الجامع وحتّى فروعه بشهادة التحصيل أو (الأهلية) كلّهم وغيرهم قد استوعبتهم الأماكن الشاغرة ضمن الوظائف الحكومية بحكم استقلال البلاد وخروج الأجانب منها في التعليم وخاصّة الابتدائي لما فيه من احداثات واسعة والأمن بقسميه والجيش الوطني والعدلية والمالية والبلديات.. الخ.. ممّا جنّب وقوع البلاد في بدء استقلالها في أي عجز إداري أو تسيير ذاتي عكس ما وقع في الجزائر المجاورة الخالية من مثل جامع الزيتونة إلاّ من بعض محظوظي أبنائها الدارسين بالجامع في تونس، والفضل كلّه للّه وحده ولأسلافنا وأجدادنا الفضلاء الذين حافظوا وعملوا بالفكر وبالساعد على استمرارية العمل الدؤوب بهذا المعقل الأصيل للتعليم والتربية طيلة ما يزيد عن ألف سنة بداية من 114 ه في عهد الوالي الأموي عبد الله بن الحبحاب ثمّ ما لبث أن أصبح يؤدّي دوره التعليمي الأصيل إلى جانب دوره التعبّدي المقدّس الأوّل عبر العصور والدول إلى عهد الاستعمار الفرنسي (75 عاما) الذي حاول بكلّ جهده أكثر من مرّة وضع يده عليه وتسييره كما يسيّر بقيّة المعاهد التعليمية الأخرى فلم يتمكّن من ذلك إلى أن جاء عهد الاستقلال المجيد فعطّل المسيرة وأسقط التعليم الأصلي بالضربة القاضية والنهائية وأظهر التعليم الرسمي الذي كان امتدادا لتعليم إدارة العلوم والمعارف الفرنسية تقريبا ورئيسها الاستعماري العريق القادم من الجزائر المستشرق الماكر «ماشويل» وقد كان لشيخنا الوقور صولات وجولات إصلاحية مشهودة لتعليم هذا المعهد العريق منذ مطلع القرن 20 عقب تخرّجه من الدراسة فيه حيث كان شابّا نشيطا متشبّعا علما ومعرفة ونضجا وطنيّا وغيرة على الأصالة والإسلام والمسلمين في هذه الربوع يعمل مدرّسا ناجحا في المعهدين الأصيلين جامع الزيتونة والمعهد الصادقي المحدث لمؤازرة ودعم التعليم الزيتوني من عهد خير الدين باشا الذي كان يلتهب شوقا ويندفع حماسا لخدمة الأمّة وتحقيق مناعتها في وجه الغاصبين المتربّصين بها من كل جانب مثله في ذلك مثل جمال الدين ورفيقه محمد عبده بمصر وثالثهما عبد الرحمان الكواكبي بدمشق الشام وكلّهم سواء في مقارعة الخطوب المحيطة بالأمّة ومقاومة طبائع الاستبداد والمعضلات الاجتماعية والسياسية المعرقلة للتقدّم الشامل وتحقيق نتائجه البعيدة الأثر والمتسامية عن مظاهر الانحلال ونشر الفساد، ولقد قضّى معظم حياته وعمره الطويل المبارك في التعليم والتربية برحاب كعبة العلوم والمعارف الشرعية واللّغوية والأدبيّة، وكان مغرما بالآداب العربية وفقه لغتها والتفنّن في أسرارها العميقة واشتقاقاتها المتشعّبة في صرفها ونحوها وبيانها وبديعها شعرا ونثرا، وشعاره هو: لا تلمني في هواها.. أنا لا أهوى سواها، ما لقومي ضيّعوها.. فدهاهم ما دهاها.. وكان مهتمّا خاصّة بشرح (ديوان الحماسة) للبحتري فقد أبدى فيه ضلاعة وامتيازا دلّتا على سموّ الذّوق وعمق التحليل وسعة الإطلاع، يقول أحد تلاميذه ومريديه (كنّا نفزع الى حلقة دروسه وكُلّنا آذان صاغية مبهوتين بمتانة اللّغة وسلامة العبارة وحسن الانتقاء والاستشهاد بما يدعم رأيه ويعزّز مذهبه في الشرح والبيان... فكان طرازا جديدا علينا يشدّنا الى متابعته ويهزّنا بصرامة إلقائه واستشهاداته البليغة الفصيحة من الشعر الجيّد والنثر المتين الذي يحفظه من ديوان الحماسة وشروحه... ودرسه كان يستمر دون انقطاع مُدّة تربو عن الساعتين لا يرجع إلى ورقة ولا إلى كتاب معه في تسلسل ممتع وأسلوب رائق عميق يناقش المؤلّفين والمفسّرين والشرّاح ويقرع حججهم بحجّته ويردّ تخريجاتهم يُلقيها من عنده بعد أن يصقلها صقلا عجيبا... الخ) من كتاب أعلام من الزيتونة ج 1 بداية من ص 240، وهو أوّل ما ظهر في موضوعه سنة 1996 ت: الشيخ القاضي محمود شمّام. وإلى جانب التّدريس بالمعهدين الأصيلين (الزيتونة والصادقية) كان لا يفتأ يشارك في نشاط الجمعيات الثقافية بالمحاضرات والتوجيه فكانت محاضراته على منبر جمعية قدماء الصادقية (ت 1875م) والجمعية الخلدونية (ت 1886م) لا تكاد تتوقّف أو تنقطع إلى جانب التحرير في الصّحف والمجلاّت السيّارة... حتّى طارت شهرته لا بين الطلبة والأساتذة فقط بل في أوساط الشعب ونُخبه المثقفة بل حتّى خارج البلاد فقد وقع اختياره عضوا عاملا رسميّا بمجمع اللّغة العربيّة بالقاهرة والمجمع العلمي بدمشق الشام بعد أن عيّنته حكومة الباي في تونس عضوا قارّا في (النظارة العلمية) السّاهرة على سير وإصلاح التعليم الأصلي في جامع الزيتونة وكانت هذه فرصته المرتقبة للإصداع بآرائه الإصلاحية للتعليم عموما من حيث المناهج والمحتوى وللتعليم الزيتوني خاصّة من حيث الطّرق والممارسة فكان همّه الشاغل أن يُحوّله إلى مؤسسة علمية عصريّة مستنيرة وأصيلة وشاملة لتوجّهات الحياة ومستجيبة لمطالب الأمّة وحاجاتها المستحدثة دون تنكّر لعراقتها ومجدها الرّاسخ وقد دوّن آراءه الإصلاحية هذه في كتابه المفقود الآن (أليس الصبح بقريب) وفيه من الإيحاء بمطالب الناشئة التونسية الزيتونية بالخصوص ما يستحق التوقّف والاهتمام كالخروج من عتمة التزمّت العلمي والعيش في بطون الكتب الصّفراء وتحت أقبيّة الجوامع والأماكن العتيقة والمتداعية إلى آفاق الحداثة الواعية والفضاءات الصحّية اللاّئقة بعمر الشباب وحياة العصر ونهضته.
المشروع الإصلاحي القويم:
هو الذي يجذّر أصالة التعليم والثقافة ويُبقي على مقوّمات الهويّة ويعمّق الإحساس بالانتماء الحضاري للعروبة والإسلام في هذه المنطقة وغيرها... وهذا ما عمل على تحقيقه شيخنا الطاهر بن عاشور رمز الدعوة الإصلاحية التعليمية في زمانه بتونس خصوصا بعد زيارة الداعية المربّي الشيخ محمد عبده الأولى والثانية حيث حاضر على منبر الخلدونية داعيا إلى هذا المشروع الإصلاحي التربوي الشامل للتعليم بالأزهر والزيتونة في ذلك الوقت وطارت شهرة شيخنا الكريم بدعوته الملحّة إلى إصلاح برامج التعليم الزيتوني وطرق تدريسه وأساليب نهضته وتوعيّة رجال التعليم فيه الذين يمثّلون في نظر الشيخ حجر الزاوية في هذا الإصلاح المنشود ضاربا صفحا عن عرقلة المتزمّتين والمتحجّرين منهم المتشبّثين بإبقاء ما كان على ما كان...، وإصلاح التعليم عند الشيخ ينطلق في حياة الطفل ابتداء من ترسيخ تعليم اللّغة العربيّة وتثبيت قواعدها والغوص مع اشتقاقها وفنونها والاستمتاع بآدابها لتكون الأداة الطيّعة لفهم الدين الإسلامي عقيدة وشريعة ومعاملة من مصادره الأساسية والإبحار في فسيح مقاصد الشريعة وأصول التشريع الإسلامي... بما يضمن للمسلم المعاصر الصلاح والفوز بل الرّيادة والمناعة والتقدّم في الحياة الدّنيا والآخرة، وهذا حق ثابت ومشروع لكل مسلم في هذا المغرب الإسلامي المتوثّب نحو العزّة والسيادة. يعني ترسيخ ثوابت الهويّة من اللّغة والدين في مهجة الطفل ثمّ العروج به إلى آفاق العلوم التجريبية والصحيحة بطرق بيداغوجية سليمة تُعطي كل شيء ما يستحق من الوقت والعناية سواء من طلاّب العلم أو رجال التعليم، وقد انتشرت هذه الأفكار في صفوف الزيتونيين عامّة ورسّخت في نفوسهم الرّغبة الملحّة في الإصلاح والتطوّر والنهوض بمؤسّستهم في كل الأحوال...، وسرعان ما تحوّلت الأماني والخطب إلى حركة طالبيّة منظّمة نشيطة تشنّ الاضرابات عن الدّروس احتجاجا وتناوِيء الحكومة بمطالبها تهديدا وهذا ما أكسبها عطف الشعب ومساندة رموز الحركة التحريريّة الواسعة، واشتدّت مظاهر الهيجان في صفوف طلبة الجامع فأبعد الشيخ بن عاشور عن مهام التّدريس والاحتكاك بالطلبة وعُيّن قاضي قضاة المالكية ثمّ شيخ الإسلام لكامل المملكة، غير أنّ تفاقم الوضع بجامع الزيتونة ونجاح الطلبة في تنظيم اضراب عن الدّروس مع الاعتصام عن الطعام بالجامع ومظاهرات صاخبة في الشارع، الأمر الذي أنطق أمير الشعراء خزندار رحمه الله فقال:
الحال في المعهد الديني مُنصدع ... يرثى لحاله حتّى حامل الوزر
الحال في جامع الزيتونة اضطربت ... تفاقم الأمر عن طيّ وعن نشر... الخ.
ومع تنامي الحركة الوطنية وتزايد الوعي بأهمّية الإصلاحات الزيتونية كأحسن ردّ على ما تقدّم به القطب الاستعماري الفكري المستشرق الفرنسي الماكر الذي عيّنته دولته على (إدارة العلوم والمعارف) الفرنسية في اجتماع اللجنة الحكومية لإصلاح التعليم التي يرأسها الوزير الأكبر تقدّم بمساع لإدخال التعليم الزيتوني تحت أنظار إدارته، لأنّ بلاده الدولة الحامية كما يقول تعتبر جامع الزيتونة معقلا يقف صامدا في وجه انتشار وتغلغل الحضور الفرنسي في تونس فيجب ترويضه وتطويعه تحت إدارة المعارف للدولة الحامية مثل معهد الصادقية والعلويّة ولكن العناصر البارزة في اللجنة مثل الشيخ سالم بوحاجب ومحمد مناشو واضرابهما الذين يريدون المحافظة على هذا المعهد الديني الأصيل بعيدا عن دنس الأيدي الأجنبية ومن ورائها الاستعمار الفكري والثقافي الخبيث تصدّت لهذه المساعي بقوّة حتّى بقيت إدارة الجامع تابعة مباشرة للوزارة الكبرى تحت أنظار الباي ولا صلة لها إطلاقا بإدارة المعارف الفرنسية، ومع تنامي الحكومة الإصلاحية وتزايد الوعي الوطني والقومي عامّة بفضل كثافة التواصل الإعلامي أثناء الحرب العالمية الثانية أقدمت حكومة الباي في خطوة جريئة على إعادة تعيين الشيخ ابن عاشور على رأس إدارة التعليم بالجامع الأعظم وفروعه في العاصمة وخارجها فتقبّل المهمّة الشاقّة قَبولاً حسنا وأنبتها نباتا حسنا بجدارة واقتدار، وعُدّ ذلك نصرا للحركة الإصلاحية ونجاحا لنشاط الشبيبة الزيتونية، ولمّا هدأت الحرب ومخاطرها في تونس شرع في تنفيذ برنامجه الاصلاحي وانضمّ إلى صفّه المدرّسون اللاّمعون بالجامع بزعامة نجله الأغرّ وهو الأستاذ القدير والمناضل النقابي المؤسّس المعروف بغيرته الصادقة على محارم الإسلام وتراث المسلمين أينما كانوا والمجاهر بعمق مشاعره الوطنية نحو جامع الزيتونة ورجاله وطلاّبه والتصدّي بحزم لكل من يروم المساس بحقوقهم وأعني به الوطني الصادق والعلاّمة البحر محمد الفاضل بن عاشور برّد اللّه ثراه وجعل الجنّة مأواه (ت 1970)، ونقاط هذا المشروع الجاد نجملها في (3):
أ التوسيع من نطاق الفروع الزيتونية لتشمل كامل أنحاء القطر فضلا عن العاصمة التي بها الجامع الأعظم مركز التعليم الأصلي وثلاثة فروع في الجامع الحفصي وفي الجامع اليوسفي وجامع صاحب الطابع، وفعلا ظهرت الفروع الزيتونية في أهم المدن بالدواخل التونسية حسب الامكانيات المتاحة والمتواضعة، ففي كل جامع كبير من كل بلدة معتبرة في الساحل والوسط والجنوب تركّز معهد تعليمي أصيل يدعى (الفرع الزيتوني) لإيواء طلبة وتلاميذ الجهة في غالب الدواخل التونسية بل تجاوزتها إلى القطر الجزائري الشقيق حيث ركّز فرع زيتوني أو أكثر في عمالة قسنطينة شرقي القطر الشقيق رغم محاصرة قوى الاستعمار الباغية هنا وهناك. ومن تلك الفروع العاملة والنشيطة الفرع الزيتوني بمدينة مساكن التي لا تبعد عن مركز الولاية والمدينة الضخمة سوسة التي بها فرع زيتوني أسبق لا تبعد أكثر من 12 كم وكذلك في مدينة جمّال والمكنين القريبتين من مدينة المنستير مركز الولاية التي بها فرع سابق أيضا.. ولقد كان فرع مساكن أرحبها وأنشطها وأنجحها وأفيدها لأهالي المنطقة وما جاورها من مشيخات وأرياف بعيدة يقدم تلاميذها للدراسة بالجامع الكبير المنتصب في قلب المدينة مع الاستقرار والسكنى بالزوايا المحيطة به إحاطة السوار بالمعصم مثل زاوية سيدي علي الزرلي وزاوية سيدي علي بن خليفة وزاوية ابن عبد الله والصغير وجامع هلال... الخ، وكان أهل البرّ والإحسان من البيوت الموسرة لا يتأخّرون عن مساعدة هؤلاء التلاميذ القادمين من عروش الهمامة والمرازيق والسواسي والجلاص فضلا عن العمادات القريبة والمحيطة بمدينة مساكن مثل الكنائس والبرجين وبني كلثوم والمسعدين وسكّان الغروس وغابة مساكن، يُقدّمون لهم عطايا الصدقات والزكاوات ليستعينوا على تكاليف الدراسة والحياة ويرتّبون لهم الوَجبات الغذائية الجاهزة في الصباح والمساء لعلمهم أنّ الانفاق على طلاّب العلم والمغتربين من أهمّ وأنفع أبواب الإنفاق في سبيل اللّه و (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه كمثل حبّة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مائة حبّة واللّه يُضاعف من يشاء واللّه واسع عليم) 261 البقرة وكان هدف الشيخ من تعميم الفروع الزيتونية التي تجاوز عددها سنة 1956 الاستقلال 26 فرعا تضم في العاصمة وكامل القطر ما يزيد عن 26 ألف تلميذ وتلميذة بين العاصمة والدواخل في حين أنّ تعداد الشعب التونسي لا يكاد يتجاوز (2,5) مليون، كان هدفه قطع الطريق على مدارس ومعاهد الفرنكو غرب التي تسيّرها وتنفق عليها وترغّب التلاميذ في دخولها بالهدايا والمساعدات المادية من ملابس وأحذية (إدارة المعارف الفرنسية برئيسها الأخير سطون باي) تفعل ذلك كي تتمكّن من فرنسة وتغريب أكبر عدد ممكن من الناشئة التونسية تحبّبهم في لغتها ونهضتها وتاريخها تنمّقه كما تشاء وتظهر أبطالها وعلماءها وثقافتها... وتطمس في نفوسهم معالم بلادهم وتاريخها وأمجادها الغابرة وتزرع في عقولهم أنّهم في حماية ورعاية الإمبراطورية الفرنسية المترامية من بلاد الإفرنج إلى ما وراء البحار... واستمرّ هذا المدّ المبارك ببعث الفروع الزيتونية منذ تولّي الشيخ إدارة الجامع ثانية سنة 1945 إلى بداية عهد الاستقلال حيث توقّف انبعاثها ونشاطها وتبدّل حتّى اسمها فأصبح الواحد منها يسمّى: المعهد الثانوي الزيتوني، وأُلغيت إدارة مشيخة الجامع الأعظم وفروعه لتدخل تحت وزارة المعارف الوطنية في تونس المستقلّة وذلك ضمن مشروع توحيد التعليم بجميع أصنافه ومراحله تحت سلطة الوزارة المذكورة. وهكذا أضاع التعليم الأصلي وفروعه الذي كان يملأ ذكره الدنيا ويشغل الناس في الداخل والخارج، لأنّ الرئيس السابق حضرة المجاهد الأكبر وأعضاده الميامين استخفّ قومه فأطاعوه بعد أن استلب أمنهم وأمانهم واسترق ثقتهم فأخذ يعدهم ويمنّيهم فاتّبعوه وصفّقوا له حتّى عَلاَ في الأرض أرض الوطن وجعل أهلها شِيعًا وأحزابا يستضعف طائفة منهم هم أبناء الزيتونة بشيبهم وشبابهم، واللّه سمعتها بأذني من فم شيخ طاعن في السنّ بلغ أعلى مراتب سلّم القضاء التونسي الآن، قال: لمّا استوى الأمر لبورقيبة ومسك بمقاليد الأمور كلّها أوصى جميع دواوين الحكومة وأقسام الوظيفة العمومية بوضع حرف (ز) أمام اسم كل موظف زيتوني مهما كان وفي أيّ مجال، وأحسب أنّ هذا ما كان يفعله مدير إدارة (العلوم والمعارف الفرنسية) منذ نشأتها على أساس الحقد والتّضييق على التعليم الزيتوني وأبنائه. أليس هذا من علامات الجهاد الأكبر الذي كان (رئيسنا المحبوب) يصرّ على أن يُنادى به ؟.
ب : النقطة الثانية من المشروع الإصلاحي العاشوري الذي ساد ثمّ أُبيد، هي إلحاق إدارات تلك الفروع الناشئة في بدايتها كمشروع أهلي خيري أي بمجهود المتطوّعين من الأهالي الحريصين على مصلحة أبنائهم وتعليمهم التعليم الأصلي بما أوتوا من إمكانيات فإذا مشى المشروع وأخذ طريقه أُلحق بإدارة المشيخة من الناحيتين التنظيمية والتّسيير الإداري من قبول التلاميذ وتنظيم امتحاناتهم وضبط برامج تعليمهم وتعيين المدرّسين وخلاص أجورهم وإجراءات عملهم ونقلهم وتفقّدهم وترسيمهم وترقيتهم.. الخ. وكان التعليم بتلك الفروع على قسمين: قسم الشعبة العلميّة التي تكاد تكون حسب المناهج الأولى العاديّة في التعليم الزيتوني، وقسم الشعبة العصريّة التي يركّز منهجها على توفير حصص الرياضيات والعلوم الطبيعيّة (علم الإنسان والحيوان والنّبات) واللّغات الأجنبيّة فرنسية وأنليزيّة، كلغة فقط أي لا يُدرّس بها أي مادّة في البرنامج. ويستمرّ التعليم في هذه الفروع 4 سنوات تختم بامتحان شهادة (الأهليّة) فمن فاز بها يصبح أهلا لمواصلة المرحلة الثانية من التعليم الزيتوني بالعاصمة أي (3 سنوات) تختم بشهادة (التحصيل) والفائز بها بإمكانه أن يدخل معترك الحياة العمليّة أو يلتحق بالتعليم الجامعي داخل أو خارج البلاد، .. الخ. وشهادة التحصيل بنوعيها العلمي والعصري تخوّل لحاملها الدّخول إلى أيّ كلّية من جامعات الشرق العربي إلى أن يحصل على الأستاذية أو الإجازة في العلوم الإنسانية مثل الآداب واللّغة والفلسفة والتاريخ والجغرافيا والتربية وعلم النّفس الخ.. أو العلوم التجريبية مثل الفيزياء والكيمياء والعلوم الطبيعية والرياضيات (الحساب والجبر والهندسة) وفعلا ذهبوا إليها ودرسوا في القاهرة وبغداد ودمشق وبيروت ورجعوا بالإجازة كلّ في اختصاصه وباشروا التّدريس كأساتذة مجازين في التعليم الثانوي بكل كفاءة واقتدار ومازالت ذكرياتهم وصُورهم عالقة بالأذهان فأفادوا واستفادوا وبتحقّق الاستقلال المجيد انقلبت الآية وتبدّلت لغة التّدريس وتفرْنَسَتْ أسماء المواد فوجد هؤلاء أنفسهم على هامش العمل فالتحق من التحق بالجزائر أو بليبيا لأنّ تعليمهما عربي اللّسان في جميع مراحله لأنّ وباء الفرنكوفونية أخطأهم ولم يصبهم رغم الدّاء والأعداء، والتحق البعض بوظائف إداريّة مختلفة.
ج : النقطة الثالثة في هذا المشروع الإصلاحي التربوي هي تحوير البرامج التعليمية الزيتونية أو تطعيمها بما يضمن نجاعتها وجدواها في الحياة العملية الحديثة، فقد كانت مواد التعليم طيلة العقود السابقة بالزيتونة مركّزة بالخصوص على مواد الفقه وأصوله وتاريخ التشريع الإسلامي ومصادره والتفسير وعلومه والحديث ومصطلحه مع الأدب العربي وعصوره واللّغة العربيّة وفنونها.. وعلوم الكلام والتوحيد والمنطق ولكل هذه المواد كتب محدّدة بأسمائها ومؤلّفيها ومرتّبة ترتيبا تصاعديا حسب تصاعد سنوات الدراسة بالجامع وفروعه وأكثرها عتيقة جدّا مضت عليها قرون وقرون ومتداولة في الأزهر والزيتونة وفي فاس بالمغرب الأقصى منذ عهد الأندلس وما بعده... فلمّا جاء المشروع الإصلاحي العاشوري قلّص من عدد تلك المواد المتشابهة وحصصها لإفساح المجال للمواد العلمية الحديثة مثل: علم الإنسان وعلم الحيوان وعلم النبات والرياضيات كلّها وتاريخ البلاد وجغرافيتها البشريّة والطبيعيّة وكلّها تدرس بلغة عربية سليمة في كتب مبسّطة وبأقلام وخبرات تونسية أو عربية مع دراسة اللّغة الفرنسية كلغة فقط وكذلك الأنليزيّة في الشعبة العصرية المستحدثة. وكلّ ذلك في نطاق التفتّح على واقع الحياة وإزالة مظاهر الرّجعيّة والتمسّك بالمُحنّطات ومسايرة الحياة الحديثة، الذي هو في الحقيقة الشغل الشاغل لطلاّب الزيتونة منذ القدم من أجله قاموا بإضراباتهم ومظاهراتهم وتأسّست لذلك لجنتهم العتيدة (لجنة صوت الطالب الزيتوني) ورئيسها الشيخ محمد البدوي العامري التي كانت مرفوعة الرّأس مسموعة الكلمة في أوساط الطلبة أينما كانوا تنطق بألسنتهم وتطالب بحقوقهم وتقود مسيرتهم التعبوية ومظاهراتهم الاحتجاجية التي كان لها دويٌّ يهزّ أرجاء العاصمة فترتعد منها القوى الباغيّة وتردّ على التحرّك السلمي المدني المنظّم بقوّة الحديد والنّار يعقبها القمع الشديد والسّجن والتعذيب، كما حصل في مظاهرة 15 مارس 1954 التي سقط فيها الطالبان النّجيبان محمد المرزوقي ومحمد حمزة عدا الجرحى والمقبوض عليهم...، وقد أعطت تلك الجهود النّضاليّة والتضحيات الطالبيّة ثمرتها فاستجابت الحكومة إلى بعض مطالب الحركة وبنت (الحيّ الزيتوني) بالعاصمة ، معهد ابن شرف الآن كمبنى عصري ضخم لسكنى ودراسة التلاميذ... ثمّ أذنت الحكومة بالشروع في البناية الفخمة الكبرى لتكون مقرّ الجامعة الزيتونية بمختلف كلّياتها المبرمجة في المكان المرتفع بشارع (9 أفريل الآن) المسمّاة كلّية الآداب والعلوم الإنسانية وقد وضع حجر الأساس فضيلة الشيخ الطاهر بن عاشور في حفل طالبي مشهود، ولمّا تمّ انجاز الجناح القبلي الجنوبي من البناء الفخم بطابقيه انتقل إليه تلاميذ الجامع وأعطي إسم معهد ابن خلدون الثانوي الزيتوني يديره الأستاذ القدير الشيخ محمد العربي العنّابي رحمه الله وهذا المعهد هو الذي أكملنا فيه دراسة المرحلة الثانية من التعليم الثانوي حتّى شهادة التحصيل العلمي، ولمّا انتهى التعليم الزيتوني بجميع مراحله ثمّ إنجاز بقية الأجنحة من البناء غربا وشرقا وشمالا لتصبح كما هي الآن مقرّ الجامعة التونسية الأولى، والملاحظ أنّ طرق التربية والتعليم وأسماء المواد في الثانوي والعالي فقدت لغتها وعروبتها وتَفَرنَسَتْ كل تلك المواد العلميّة وغيرها... التي كنّا درسناها جميعا وامتحنّا فيها ونجحنا بحمد الله بلغة عربية سليمة ومازالت كتبها العربية عندنا وأسماء وصور أساتذتها حيّة ماثلة في الذاكرة وأصبحت الرياضيات بأقسامها الثلاثة والكيمياء والفيزياء والعلوم الطبيعية بأنواعها كلّها بالفرنسية حتّى بعض المواد الإنسانية مثل التاريخ الإسلامي وجغرافيّة البلاد العربية والفلسفة وعلوم التربية وعلم النّفس، بل انّ الأدب العربي ولغته تستدعي لهما الجامعة الناشئة المستعرب الفرنسي الماكر (بلاشير). قيل لأنّ السيد وزير التربية درس عليه في السربون فأراد أن يكرّمه في آخر أيّامه وقد فقد بصره وجهده فكانت تأتي به وترجع طائرة على حساب الجامعة يعني كمن يودّ الحصول على العسل البلدي من ناب أفعى رقطاء، وقديما قيل: لكل داء دواء يستطب به ... إلاّ الحماقة أعيت من يداويها. أمّا رجال تلك المواد العربية من المدرّسين الكبار فأحيل منهم على التقاعد والصغار تحوّلوا إلى الجزائر وليبيا في الستينيات لأنّهما فازا بنفسيهما من الفرنكوفونية البغيضة.
شهادة حق: نشرت مجلّة (الهداية) التونسية في عدد (152) رمضان/ شوّال 1423 ه الملاقي نوفمبر/ديسمبر 2002م شهادة حيّة كتبها بيده أ.د/يحيى بوعزيز من الجامعة الجزائرية الشقيقة جاء فيها صفحة 74 تحت عنوان: أفضال الزيتونة على المسيرة الثقافية والعلمية والتربويّة بالجزائر: للزيتونة وعلمائها ومشائخها وأيمّتها ووعّاظها أفضال كبيرة وكثيرة جدّا على الجزائر وعلى الشعب الجزائري خاصّة منذ أواخر القرن 19 والنّصف الأوّل من القرن 20 وحتّى الاستقلال الوطني وذلك في ميدان الفكر والثقافة والتربية والتعليم... وكانت عقود الثلاثينيات وما بعدها أكثر زَخما واكتظاظا بالطلبة والتلاميذ الجزائريين في الجامعة الزيتونية آنذاك بأعلامها الكبار وطلاّبها الكُثر، فكان التوجّه إلى هناك من جموع طلبتنا جماعات ووحدانا للتعلّم والتزوّد بالمعارف والعلوم والآداب والفنون وبالخبرة في طرق التدريس والتربية والتعليم والتوجيه والتكوين: ووجد جميعهم حسن الاستقبال والإيواء والعطف والرّحمة وكل الدّعم والنّجدة والمساعدة، بحيث استقبلهم علماء الزيتونة بكل ترحاب وعلّموهم وزوّدوهم بمختلف العلوم والمعارف والفنون في جميع مناحي الحياة وقد تخرّج على أيديهم علماء كبار أدّوا دورا كبيرا ورائدا في الحفاظ على الوجه العربي الإسلامي وقت المحنة الصليبيّة في الجزائر، ولعلّ من أبرزهم الشيخ عبد الحميد بن باديس صاحب القول الشهير: شعب الجزائر مسلم ... وإلى العروبة ينتسب. من قال حاد عن أصله ... أو قال زاغ فقد كذب. ويعتبر العلاّمة المرحوم محمد الطاهر بن عاشور شيخ الجامع وفروعه أحد أبرز علماء تونس الذين قدّموا كلّ العون والتّأييد اللاّمحدود للطلاّب الجزائريين فقد أوصى المسؤولين حوله أن يحلّوا كلّ المشكلات التي تعترض الطلبة الجزائريين... فكان بالنّسبة إليهم الأب الحنون والولي الرّحيم، وعلى غراره نذكر بالخير والتقدير نجله الكريم محمد الفاضل وآخرين معه يعدّون بالعشرات إن لم نقل بالمئات...
أهمّ آثار الشيخ ومخلّفاته:
بالإضافة إلى النّزعة الإصلاحية الطّاغية عليه والجهود المستمرّة في سبيل النّهضة بالتعليم الزيتوني وإرسائه على قواعد عصرية وأصيلة... انتمى إلى سلك القضاء الشرعي فكان في قضاة المالكية كالعَلَم في رأسه نار، ولمّا أزيح عن مهامه الإدارية والتعليميّة وألحق التعليم الزيتوني برمّته بوزارة المعارف الوطنية منذ أوّل الاستقلال بحكم توحيد كل أنواع التعليم الموجودة قبله، ظهر له اهتمام خاصّ بضبط وترميم المخطوطات في مكتبة العبدليّة وجامع الزيتونة العريقة، ثمّ انّه كان أوّل من حاضر بالعربية في تونس على منبر جمعية قدماء الصادقية والجمعية الخلدونية وقد اشترك مع زميله وصديقه الشيخ محمد الحضر حسين في إصدار أوّل مجلّة عربيّة بتونس هي مجلّة «السعادة العظمى» في بداية ق 20 ومقالاته كثيرة مبثوثة في صحف زمانه ومجلاته التونسية والمشرقية إلى جانب عضويته الدائمة في المجامع العلمية واللّغويّة بالقاهرة ودمشق، أمّا الكتب والرسائل التي طبع بعضها في حياته وبعضها بعده في الأدب واللّغة والنّقد والفقه ومقاصد الشريعة وأصول النظام الاجتماعي في الإسلام والتفسير ورجاله ولايزال الناس يتنافسون في اقتناء كتبه وآثاره الخصبة من معارض الكتب والمكتبات شرقا ومغربا لما فيها من التحقيقات والأنظار والفتاوى النيّرة والدّاعمة لثقافة التسامح والتيسير ورفع الحرج في العبادات والمعاملات وأشهر آثاره الذي يتقاطر الناس على اقتنائه الآن هو كتاب تفسيره للقرآن المجيد المسمّى «التحرير والتنوير» اختصارا (لتحرير العقل السديد وتنوير الفكر الرشيد) بما لا يدع مجالا للشّك في أنّه رجل العصر ورائد المصر جازاه اللّه عن كلّ الأمّة كلّ خير ورحمة وثواب، وقد صدق أحد تلاميذه وهو يودّعه يوم وفاته بالعاصمة 12 أوت 1973 ودمع العين يغمره:
وداعا يا شيخي وشيخ زمانه ... وداع محبّ للمُهيمن خاضع
تركناك له خير وديعة ... فما كان إلاّ حافظا للودائع.
وبعد، فهذا هو طود العلم النافع والعمل الصالح الذي ملأ ذكره الدّنيا وشغل الناس في بيئته ووقته فحقيق على كل الذين في أعناقهم أفضاله ومزاياه من أجيال النصف الأوّل من القرن 20م الذين أنقذتهم الفروع الزيتونية من الجهل والفاقة والضياع في داخل القطر وخارجه في تلك الأيّام العصيبة والسّنين العجاف، حقيق على كل هؤلاء وغيرهم أن يترحّموا عليه ويذكروه بما يستحق وينشروا خصاله كل يوم 12/8 من كل عام، فقد كان رحمه الله شديد العطف على أبنائه، عظيم الثقة في ربّه، كثير الاعتداد بنفسه لا يخشى في الحق لومة لائم ولا يراعي إلاّ جانب اللّه عند الشدائد. طلب منه الرئيس بورقيبة أن يُصدر فتوى تدعو الشعب إلى الإفطار في شهر رمضان وخاصّة في الجيش الوطني وإدارة الأمن وحضائر الشغل لأنّهم جميعا في حالة تعبئة للخروج من التخلّف الشامل وقال كلمته المشهورة (أفطروا لتقووا على عدوّكم) وهي كلمة حق أريد بها باطل... فأبى واستعصم بمنزله في المرسى فناله عن ذلك غضب السلطة، مع الشّتم والثلب والبهتان..، ولم يتزعزع، ولمّا رُزئ في آخر حياته بفقد مهجة نفسه ومحطّ آماله وإنسان عينه وهو نجله المفضّل: محمد الفاضل بالمرض الخبيث في الكبد الذي لم يمهله طويلا، حيث توفّي يوم 20 أفريل 1970م عن سن 61 عاما وخرج الناس بالآلاف في موكب جنازته خاشعين مترحّمين ملتاعين تعبيرا صادقا عن الحبّ العميق. تقدّم والده الشيخ الوقور في عزّ وإباء ليؤدّي بالناس صلاة الجنازة على الفقيد الراحل بكل قوّة شخصيّة ورباطة جأش وثقة وإيمان بقضاء اللّه وقدره. وانتصب واقفا يكبّر اللّه، ولسان حاله يقول:
وتجلّدي للشامتين أُريهم ... أنّي لريب الدهر لا أتزعزع
وإنّ الخلود والبقاء الدّائم والعزّة الخالصة للّه ولرسوله وللمؤمنين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.