بقلم: الأسعد السميري في الوقت الذي بات فيه من الملح على جميع الفاعلين السياسيين والاجتماعيين في تونس أن يحاولوا التعامل بأقصى درجات الحكمة والتعقل مع ما تشهده البلاد من تجاذبات سياسية وإيديولوجية وتوترات طالت أكثر من مستوى وألقت بظلالها الكثيفة على قدرة المجتمع التونسي على تحقيق قدر أكبر من التسامح والتضامن بين مختلف مكوناته، نجد بعض الأصوات ترتفع هنا وهناك ساعية إلى تجييش الناس وشحنهم عاطفيا وغريزيا بإقحامهم في معارك مفتعلة بين فئات المجتمع الواحد، وذلك على أساس تقسيمات جديدة وغريبة ليست لها أية علاقة بما طرحته الثورة من استحقاقات في بداياتها الأولى. من أخطر ما طالعنا به بعض أئمة المساجد في الفترة الأخيرة، وأنا هنا أقول «بعض» من باب التحفظ لأن الأمر يكاد يكون ظاهرة كاسحة في أغلب مساجد البلاد، هو تحريضهم المفضوح للناس ضد بعضهم البعض ودعوتهم إلى التباغض والتنافر والكراهية بين أطياف المجتمع التونسي. والغريب هنا أن هذا التحريض يأتي في سياق الدفاع عن العقيدة وحماية الدين من الاستهداف، وكأن هذا الدفاع لا يتم إلا بتقسيم المجتمع وتأليب بعضه ضد بعض. لقد كنا في السابق نتغنى بأن المجتمع التونسي هو من بين المجتمعات العربية القليلة التي لا تشقها انقسامات دينية بين مسلمين ومسيحيين أو مذهبية بين سنة وشيعة أو حتى عرقية حادة بين عرب وكرد وبربر. إلا أننا اليوم، وأمام هذا التجانس الفريد، بتنا نشهد البعض من أئمتنا يبحث عن عوامل انقسام جديدة ليشتغل عليها فيطلع علينا بتقسيم جديد بين مؤمنين وكفار، وبعبارة أوضح بين إسلاميين وعلمانيين بما أن العلمانية لديهم باتت مرادفة للكفر والإلحاد، وكأن الدور «الطبيعي» للإمام هو في البحث المحموم عن مواطن الفرقة والانقسام والنفخ في أوار الفتنة عوض البحث عما يوحد الناس ويؤلف بين قلوبهم. وللأسف فإن نسبة كبيرة من أئمة المساجد انخرطت في هذا التوجه المشبوه وراحت تدفع بقوة نحو هذا الخطاب المتشنج حيث يختلط الوعظ الديني بالعمل السياسي ، وكأن بلادنا لم يكفها ما تعيشه أصلا من استقطابات حادة قد تنذر بالمزيد من التململ والفوضى. أنا هنا لا أحبذ الاتكاء على منطق المؤامرة، ولكني حينما أرى أن هذه الدعوات المشبوهة قد تصاعدت حدتها بالتزامن مع حالة التخبط التي تعيشها السلطة الجديدة والفشل الذي تسجله في التعامل بجدية ونجاعة مع الاستحقاقات الاجتماعية والاقتصادية للبلاد، فإن الاعتقاد يفرض نفسه هنا بأن هذا الاختلاق المريب للمشاكل الجانبية والزج بالناس في الجدالات العقيمة حول العلمانية والشريعة والنقاب والهوية...الخ لا يمكن تفسيره إلا بمحاولة التعمية على ذلك الفشل وإشغال العباد بتلك المعارك «الدونكيشوتية» الوهمية تماما مثلما كان يفعل النظام السابق عندما كان يخدر الناس بأفيون كرة القدم. بل ويمكنني الذهاب أبعد من ذلك حينما أرى أن هذه الحملات المتوترة قد تكثفت مباشرة إثر «فضيحة» العلم وحينما ألاحظ أن هذه الحادثة لم تجد لها أية إشارة ولو كانت محتشمة ضمن الغالبية الساحقة من خطب الجمعة في نفس ذلك الأسبوع، مع أنه كان بالإمكان استثمارها لتكون منطلقا نسعى من خلاله إلى لملمة ما تبقى من وحدتنا الوطنية. أمام كل هذا يمكن الجزم دون تجن بأن دعوات الفتنة هذه لا يمكن اعتبارها البتة مجرد حالات معزولة أو اجتهادات فردية، بل هي تأتي في إطار توجه عام ومدروس بعناية شديدة وبعيد كل البعد عن الاعتباطية والتلقائية. وهنا، ورغم أني لا أرى العلمانية كحل أمثل للواقع الاجتماعي والسياسي التونسي، إلا أني لا أفهم أن يحكم عليها البعض من أئمة مساجدنا هكذا فتصبح مرادفة للإلحاد والفساد والتحلل الأخلاقي... بل والأدهى من كل ذلك أن يسارع هؤلاء إلى الاصطفاف وراء أحد الفرقاء الحزبيين فيتبنون نفس خطابه السياسي المتشنج ويرددون نفس الروايات التي يروجها حول تشجيع العلمانيين للفساد وشرب الخمر والزواج المثلي...؟، هذا من جهة ومن جهة ثانية لماذا يصر هؤلاء على تقسيم الناس إلى معسكرين لا ثالث لهما فيحكمون على كل من يرفض المشروع المجتمعي والسياسي للإسلاميين بأنه علماني وكأنه لا خيار أمامنا سوى هذين الطرحين بقطع النظر عن أي تقييم معياري لهما؟. ربما الحقيقة التي يخجل هؤلاء من الالتفات إليها هي أنهم كانوا على هامش الثورة، هذه الثورة التي منحتهم الحق في أن يقولوا ما يقولونه اليوم وفي أن يكشروا عن أنياب الفتنة دون أن يجدوا من يحاسبهم أو يراقبهم أو يحصي عليهم كلمات خطبهم مثلما كان يحصل لهم في السابق حينما كان خوفهم من بن علي أكبر بكثير من خوفهم من الله تعالى. فاتجهوا اليوم إلى تأليب الناس ضد بعضهم البعض وإلى إثارة غرائز الحقد والكراهية بينهم، حتى أن أحدهم دعا في إحدى خطبه منذ بضعة أسابيع إلى إعلانها حربا شعواء ضد العلمانيين ذاهبا في ذلك إلى أقصى حدود التحريض والتجييش بأن دعا الناس إلى مقاطعتهم وعدم التعامل معهم أو الاختلاط بهم، بل وحتى إلى تحاشي مجرد الابتسام في وجوههم... وكأنهم مخلوقات غريبة قادمة من عوالم أخرى أو غزاة وفدوا إلينا من وراء البحار. أجد نفسي مضطرا إلى تذكير هؤلاء بأن بلادنا اليوم في حاجة إلى جميع أبنائها، وأن العلمانيين هم أبناء هذه البلاد وأنهم إخوتنا في الدين والوطن والإنسانية شئنا ذلك أم أبينا، وأن الغالبية العظمى منهم هي التي كان لها شرف المساهمة في التضحية في سبيل رفع صخرة الدكتاتورية عن صدورنا، وفي سبيل أن يجد بعض دعاة الفتنة المجال فسيحا أمامهم اليوم حتى يقولوا ما لم يجرؤوا في السابق حتى على مجرد التفكير فيه... هؤلاء الذين لولا تلك التضحيات لكانوا إلى اليوم يلهجون بذكر «حامي الحمى والدين».