تونس الصباح لا يمكن لتونس بعد الثورة أن تحقق ديمقراطية حقيقية وعدالة انتقالية دون مراجعة التاريخ المعاصر والتدقيق فيه لتجاوز الأكاذيب وكشف المظالم التي سلطت على اليوسفيين وغيرهم، هذا أبرز ما أكّد عليه الجامعيون وغيرهم من المشاركين في منتدى "واجب الذاكرة الوطنية مسار العدالة الانتقالية والضمانات الدستورية في بناء الجمهورية الثانية" المنتظم مساء أمس بالعاصمة ببادرة من جمعية استشراف وتنمية بالاشتراك مع جريدة الخبير. فالذاكرة التونسية على حد قول المؤرخ بمعهد الحركة الوطنية عميرة عليا الصغير مفقودة، وعلى حد تعبير الدكتور سالم لبيض الأخصائي في علم الاجتماع مزورة، وتحتاج وفق تأكيد وزير التربية الأستاذ عبد اللطيف عبيد إلى النبش فيها من جديد. وبين عميرة الصغير أن الذاكرة مفقودة لان الطابع الاستبدادي للدولة صادر التاريخ ولأنه بمصادرته هذا التاريخ صادر حاضر الشعب ومستقبله.. وأضاف المؤرخ: "يجب ان يتعلّم التونسيون الآن بعد الثورة تاريخهم من جديد وان يعرفوه كما وقع.. ويتطلب الأمر فتح الارشيف، لاكتشاف المنسيين فيه.. وهم كثيرون تم تغييبهم قصدا أوسهوا، وبالعودة إلى سجل الشهداء الذين دفعوا أرواحهم ثمنا من أجل استقلال تونس، نجده يتجاوز الخمسة آلاف شهيد جلهم من أبناء الريف، لكن أسماءهم غير معروفة إلى الآن". ولاحظ عميرة أن تاريخ تونس المعاصر أبرز بورقيبة كما لو أنه الزعيم الأوحد، وهذا خطأ معه كان الزعيم صالح ين يوسف والكثير من الزعماء من مناضلي الزيتونة والحركة الكشفية وغيرها ، وشدد على أن تاريخ تونس لا بد ان يكتب من جديد ولا بد للعدالة الانتقالية أن تشمل الجميع دون استثناء. وفي نفس السياق تحدث الضابط سمير الفرياني عن الاعتداءات التي تمت على الذاكرة الامنية الجماعية وبين ان عددا من المسؤولين داخل الجهاز الامني عمدوا بعد الثورة إلى اعدام ملفات عديدة.. وقال ان المنشور عدد 41 استثنى من الوثائق التي يمكن للمواطن الاطلاع عليها الوثائق الامنية.. وتساءل لماذا هذا الاستثناء. وطالب الفرياني بتطهير وزارة الداخلية، وقال ان هذا المطلب تكرر عدة مرات من قبل العديد من الجهات. وفي نفس السياق قال الدكتور سالم لبيض إن موضوع الذاكرة السياسية هو موضوع خلافي، لأن كل ما لقن للأجيال المتعاقبة في الكتب الرسمية كان جزء كبير فيه قائما على التزوير وطمس الحقيقة.. وبقي الارشيف السياسي التونسي منذ سنة 1956 مبهما وظلت القوانين التي تنظمه صارمة فهناك ملفات لا يفرج عنها الا بعد مائة سنة واخرى بعد خمسين سنة أو ثلاثين سنة.. لكن في الحقيقة فإن ما كان يجب ان يفرج عنه بعد ثلاثين سنة لم يفرج عنه بعد وكان من المفروض بعد الثورة أن يرفع اللثام عنها للحد من طمس الحقائق وتزييفها. وعبر عن أمله في ألا تكون وثائق البوليس السياسي قد طمست. وبيّن أن الثورة لم تقدها النخب.. بل حاولت النخب ان تلتف على الثورة لكن الشرائح الشعبية لم تسمح لها بذلك لأنها تعرف ما تريد.. فهي تريد التوزيع العادل للثروة والسلطة.. وتسعى كل هذه القوى الشعبية لترسيخ هذا التوزيع العادل للسلطة والثورة.. وشدّد الجامعي على ضرورة حماية الثورة عن طريق تثبيت الديمقراطية كصمام امان.
وتحدّث الدكتور المبروك كورشيد عن المظالم التي تعرضت لها الحركة اليوسفية وبين في محاضرة عنونها "انصاف الحركة اليوسفية بين حقائق التاريخ والطموح السياسي" أن العودة للبورقيبية الآن بعد الثورة على الاستبداد يعني العودة لمرحلة قاتمة من تاريخ تونس واغتيال ثان للحركة اليوسفية.. فالثورة التي اتت من تخوم الفقر والاضطهاد يجب ان تنصف هؤلاء لا أن تعيد صياغة الماضي.. وبالتالي فإن من يراودهم الطموح السياسي من الذين مارسوا الاستبداد للعودة إلى الساحة السياسية الآن، يجب ان يخضعوا للمساءلة أولا.. وذكر الدكتور كورشيد أن بناء الجمهورية يتطلب الوقوف على الماضي لاستخلاص العبر ولتحقيق العدالة، وأن الحديث عن اليوسفية هو انصاف للمناضلين الذين انتهك حقهم ووقوف على حقيقة ما وقع من جرائم ارتكبتها السلطة في حقهم وكشف العذابات التي عانى منها هؤلاء وهي متعددة من قتل مباشر لمئات المناضلين بأحكام قضائية أو اغتيالات أو تعذيب ونفي وتجويع وتزوير للذاكرة. واعتبر الأستاذ محمود بالسرور رئيس جمعية استشراف وتنمية أنه من المهم جدا الآن بعد الثورة الاهتمام بالذاكرة، وبالعدالة الانتقالية ومن الضروري إيجاد الضمانات الدستورية لتحقيق هذه العدالة من أجل بناء الجمهورية الثانية. واعتبر غازي الجريبي الرئيس السابق للمحكمة الادارية أنه لا بد ان يكون قوام مفهوم العدالة الانتقالية العدالة قبل كل شيء.. وبما ان الثورة التونسية كانت نموذجية فلا بد ان تكون العدالة الانتقالية نموذجية أيضا. وتقتضي العدالة الكشف عن الحقيقة لإنصاف الضحايا دون تجزئة.. فكل الضحايا في نفس المستوى وكل الحقب الزمنية معنية بالعدالة الانتقالية. وإثر الكشف عن الحقيقة لا بد من المساءلة. وقال الوزير المكلف بالعلاقات مع المجلس التأسيسي الاستاذ عبد الرزاق الكيلاني إن تعزيز حظوظ نجاح الانتقال الديمقراطي يتطلب تركيز مبادئ دولة القانون وتجسيم ارادة القطع مع الماضي واستعادة الثقة في المؤسسات الوطنية وبناء استراتيجية تلبي انتظارات ضحايا الانتهاكات. وأضاف: "لا بد أولا من الرجوع لمفهوم العدالة الانتقالية لفهم تجاوزات الماضي وتحديد المسؤولين عنها وانصاف الضحايا بهدف تحقيق المصالحة.. ولبلوغ هذا الأمر لا بد من استراتيجية متكاملة تتتبّع الجناة وتكشف الحقائق حول الانتهاكات السابقة والقيام بالإصلاحات القضائية والامنية ومجابهة الفساد المالي والاداري والتعويض وجبر الضرر". ولاحظ ان المحاسبة المبنية على مقتضيات المحاكمة العادلة هي المنهج الصحيح من اجل منع تكرار أخطاء الماضي، وتحدث عن جملة الآليات الضامنة لذلك وأبرزها المحكمة الدستورية العليا وغيرها من الهيئات الدستورية.. ويرى الاستاذ عبد اللطيف عبيد وزير التربية أن تنقية الذاكرة تتطلب المساءلة والمحاسبة والمصالحة.. وبيّن لدى حديثه عن كتابة التاريخ المدرسي أن هناك احداثا تمت بعد الاستقلال يجب ان تكتب من جديد.. اذ لا يعقل الا تتضمن الكتب المدرسية صفحات عن الحركة اليوسفية وعن الزيتونة وعن تجربة التعاضد ومجلة الأحوال الشخصية وظروف انهاء حكم بورقيبة وكيف نشأ الحزب الاشتراكي الدستوري وكيف تطور ليصبح جهازا بوليسيا.. وقال الوزير إنه يمكن تكليف مؤرخين بهذه المهمة..