كلوب يعلق على المشادة الكلامية مع محمد صلاح    جماهير الترجي : فرحتنا لن تكتمل إلاّ بهزم الأهلي ورفع اللقب    رئيس البرلمان يحذّر من مخاطر الاستعمال المفرط وغير السليم للذكاء الاصطناعي    سجنان: للمطالبة بتسوية وضعية النواب خارج الاتفاقية ... نقابة الأساسي تحتجّ وتهدّد بمقاطعة الامتحانات والعمل    بن عروس: حجز 214 كلغ من اللحوم الحمراء غير مطابقة لشروط النقل والحفظ والسلامة الصحية للمنتجات الغذائية    زيادة ب 4.5 ٪ في إيرادات الخطوط التونسية    وزارة السياحة أعطت إشارة انطلاق اعداد دراسة استراتيجية لتأهيل المحطة السياحية المندمجة بمرسى القنطاوي -بلحسين-    وزير الخارجية يواصل سلسلة لقاءاته مع مسؤولين بالكامرون    عمار يدعو في ختام اشغال اللجنة المشتركة التونسية الكاميرونية الى اهمية متابعة مخرجات هذه الدورة وتفعيل القرارات المنبثقة عنها    الرابطة 2: نتائج الدفعة الأولى من مباريات الجولة 20    الترجي الرياضي يفوز على الزمالك المصري. 30-25 ويتوج باللقب القاري للمرة الرابعة    بطولة مدريد للماسترز: أنس جابر تتأهل الى الدور ثمن النهائي    إمضاء اتفاقية توأمة في مجال التراث بين تونس وإيطاليا    وزير الثقافة الإيطالي: "نريد بناء علاقات مثمرة مع تونس في مجال الثقافة والتراث    توزر: الندوة الفكرية آليات حماية التراث من خلال النصوص والمواثيق الدولية تخلص الى وجود فراغ تشريعي وضرورة مراجعة مجلة حماية التراث    هيئة الأرصاد: هذه المنطقة مهدّدة ب ''صيف حارق''    تعاون مشترك مع بريطانيا    دعوة الى تظاهرات تساند الشعب الفلسطيني    سوسة: القبض على 5 أشخاص يشتبه في ارتكابهم جريمة قتل    تامر حسني يعتذر من فنانة    ملكة جمال ألمانيا تتعرض للتنمر لهذا السبب    جيش الاحتلال يرتكب 4 مجازر جديدة في غزة    بن عروس: حجز 214 كلغ من اللحوم الحمراء غير مطابقة لشروط النقل والحفظ والسلامة الصحية    الرابطة الثانية : نتائج الدفعة الأولى لمباريات الجولة السابعة إياب    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    برنامج الدورة 28 لأيام الابداع الادبي بزغوان    اعتماد خطة عمل مشتركة تونسية بريطانية في مجال التعليم العالي    رئيس الجمهورية يستقبل وزير الثقافة الإيطالي    رئيس الاتحاد المحلي للفلاحة ببوعرقوب يوجه نداء عاجل بسبب الحشرة القرمزية..    الإتحاد العام لطلبة تونس يدعو مناضليه إلى تنظيم تظاهرات تضامنا مع الشعب الفلسطيني    خط تمويل ب10 مليون دينار من البنك التونسي للتضامن لديوان الأعلاف    صادم/ العثور على جثة كهل متحللة باحدى الضيعات الفلاحية..وهذه التفاصيل..    القطب المالي ينظر في اكبر ملف تحيل على البنوك وهذه التفاصيل ..    سيدي حسين : قدم له يد المساعدة فاستل سكينا وسلبه !!    خبير تركي يتوقع زلازل مدمرة في إسطنبول    البطولة الوطنية: النقل التلفزي لمباريات الجولتين الخامسة و السادسة من مرحلة التتويج على قناة الكأس القطرية    مدنين: وزير الصحة يؤكد دعم الوزارة لبرامج التّكوين والعلاج والوقاية من الاعتلالات القلبية    عاجل/ الحوثيون يطلقون صواريخ على سفينتين في البحر الأحمر..    هوغربيتس يحذر من زلزال قوي خلال 48 ساعة.. ويكشف عن مكانه    طقس السبت: ضباب محلي ودواوير رملية بهذه المناطق    كيف نتعامل مع الضغوطات النفسية التي تظهر في فترة الامتحانات؟    ابتكرتها د. إيمان التركي المهري .. تقنية تونسية جديدة لعلاج الذقن المزدوجة    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    وزير الخارجية يعلن عن فتح خط جوي مباشر بين تونس و دوالا الكاميرونية    طقس اللّيلة: الحرارة تصل 20 درجة مع ظهور ضباب محلي بهذه المناطق    وزير الفلاحة: "القطيع متاعنا تعب" [فيديو]    بنسبة خيالية.. السودان تتصدر الدول العربية من حيث ارتفاع نسبة التصخم !    تألق تونسي جديد في مجال البحث العلمي في اختصاص أمراض وجراحة الأذن والحنجرة والرّقبة    منوبة: تفكيك شبكة دعارة والإحتفاظ ب5 فتيات    قفصة: ضبط الاستعدادات لحماية المحاصيل الزراعية من الحرائق خلال الصّيف    تونس : أنس جابر تتعرّف على منافستها في الدّور السادس عشر لبطولة مدريد للتنس    مقتل 13 شخصا وإصابة 354 آخرين في حوادث مختلفة خلال ال 24 ساعة الأخيرة    عميرة يؤكّد تواصل نقص الأدوية في الصيدليات    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    انطلاق أشغال بعثة اقتصادية تقودها كونكت في معرض "اكسبو نواكشوط للبناء والأشغال العامة"    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الندوة المغاربية ل «الشروق»: التعويض والاعتذار عن جريمة الاحتلال: الآن... الآن... وليس غدا! (1/2)
نشر في الشروق يوم 06 - 12 - 2009

تواصلا مع مبادئ فتح قنوات الحوار والنقاش وإثراء لفلسفة تعدّد الآراء والمقاربات حيال مختلف الموضوعات والمسائل السياسية والثقافية والفكرية وانسجاما مع انتصارها للتقارب بين شعوب المنطقة المغاربية نظّمت جريدة «الشروق» يوم الثلاثاء 24 نوفمبر 2009 ندوة مغاربية كبرى عالجت موضوعا يلقى اهتمام كلّ البلدان المغاربية وحتى دول عربية أخرى ألا وهو موضوع « الشعوب المغاربية وحق الاعتذار والتعويض عن الحقبة الاستعمارية» حضرها ثلة من المؤرخين والمفكرين والسياسيين من تونس والجزائر والمغرب وليبيا.
وتميّزت الندوة التي لقيت تغطية إعلامية واسعة وعرفت تفاعلا إيجابيا وتناولا لمضامين فكرية وسياسية هامة على علاقة بمخلفات وآثار الفترة الاستعمارية الّتي اكتوت بنيرانها كامل الشعوب المغاربية ولعقود طويلة ، ومع تواتر عدد من الأحداث والمستجدات ومن أبرزها تمكّن الأشقاء في الجماهيريّة الليبيّة من انتزاع اعتذار رسمي من الحكومة الإيطالية عن فترة الاستعمار الفاشي للتراب الليبي مع حصولها كذلك على تعويضات مادية هامّة عن أضرار تلك الفترة ، أصبح من الجائز التحرّك على مستوى بقية الدول من أجل تحقيق هذه المعادلة الجديدة وفتح صفحات من التعاون والشراكة الحقيقيّة مع الدول المستعمرة سابقة وطي صفحة الآلام والجراح والتدمير والضحايا والقتلى.
تلك هي مقاربة الندوة الّتي استعرضت كذلك أوجها من الأضرار الّتي ألحقتها الفترة الاستعمارية بالمنطقة المغاربية ماديا وبشريا وثقافيا وما يفتحهُ الاعتذار من آفاق واعدة للعلاقات بين دول جنوب وشمال المتوسّط وتدعيم الشراكات ومختلف أوجه التعاون.
وشارك في وقائع هذه الندوة:
السيّد محمّد مواعدة: رئيس الجلسة الأولى
الأستاذ المتميّز عبد الجليل التميمي: باحث في تاريخ الحركات الوطنية ورئيس مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات - تونس
الدكتور عثمان السعدي: مناضل في جبهة التحرير الجزائرية وديبلوماسي سابق الجزائر
الأستاذ عبد السلام بوطيب: رئيس مركز الذاكرة المشتركة والمستقبل بالمغرب المغرب
الأستاذ مفتاح بونعيجة: مختص في التاريخ وأحد الباحثين في ملف الاعتذار والتعويضات الإيطالية لليبيا ليبيا
الدكتور الحبيب الجنحاني تونس: رئيس الجلسة الثانية
الدكتور المنصف ونّاس: مختص في العلوم الاجتماعية وله عدة أبحاث حول الأقطار المغاربيّة تونس
الأستاذ أحمد الإينوبلي: الأمين العام للاتحاد الديمقراطي الوحدوي تونس
الدكتور خالد عبيد: مختص في التاريخ السياسي للحركة الوطنية - تونس
الأستاذ عبد اللّه العبيدي: مختص في العلاقات والقانون الدولي وباحث في السياسات الخارجية
السيّد يوسف الشاهد تونس : من الناشطين في سبيل بعث «الهيئة العربية لتصفية آثار الاستعمار»
وتم توزيع أعمال الندوة إلى جلستين أعقبتا بجلسة حوارية للنقاش العام والتساؤلات وهي جلسة كانت كذلك بمضامين هامة، وفي ما يلي وقائع الجلسة الأولى.
برنامج الندوة
الجلسة الأولى: رئيس الجلسة السيّد محمّد مواعدة
تضمنت المداخلات التالية:
مداخلة مفتاحيّة حول مشروع أحقية وجدوى المطالبة بالاعتذار عن الحقبة الاستعمارية :الأستاذ المتميّز عبد الجليل التميمي.
آليات معالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في المرحلة الاستعماريّة : الأستاذ عبد السلام بوطيب
تحديات اللغة العربية في مواجهة اللوبي الفرنكفوني ومخلفات الحقبة الاستعماريّة» : الدكتور عثمان السعدي
التجربة الليبيّة في انتزاع الاعتذار والتعويضات من إيطاليا: الأستاذ مفتاح بونعيجة
الجلسة الثانية: رئيس الجلسة الدكتور الحبيب الجنحاني
تضمنت المداخلات التالية:
التعاون الحضاري بين الأقطار العربية وأوروبا ودوره في تجاوز الحقبة الاحتلاليّة :الدكتور المنصف ونّاس
الجرائم الاستعمارية بين مهنية المؤرّخ ومطالب الذاكرة الجماعيّة : الدكتور خالد عبيد
العدالة المتلوّنة: الشعوب المغاربيّة ورواسب الاستعمار: الأستاذ عبد اللّه العبيدي
رؤية سياسية لملف الاعتذار والتعويض عن الحقبة الاستعمارية : الأستاذ أحمد الإينوبلي الأمين العام للاتحاد الوحدوي الديمقراطي
السيّد عمر الشاهد: أفكار عن مشروع بعث «الهيئة العربية لتصفية آثار الاستعمار».
عبد الحميد الرياحي (رئيس تحرير أول ب«الشروق») في افتتاح الندوة: عندما تخلف «حكاية» الحريات وحقوق الإنسان.. حكاية «الأجناس العليا» و«الأجناس السفلى»!
افتتحت الندوة بالترحيب بالمشاركين وشكرهم على تلبية الدعوة للمشاركة وإبداء الرأي بخصوص موضوع هام يلقى الاهتمام هذه الأيام على أكثر من مستوى، وألقى السيّد عبد الحميد الرياحي رئيس تحرير جريدة «الشروق» كلمة باسم «الشروق» و»دار الأنوار» في ما يلي نصها:
يعيش المجتمع الدولي تحولات عاصفة.. قوى دولية تذوي وتتهاوى.. وقوى أخرى تعلن صعودها.. وقوى دولية تسعى لتأكيد تفوقها وهيمنتها.. ومنطقتنا المغاربية ليست في منأى عن هذه التحولات ولا في مأمن من شظاياها وتداعياتها..
وما أشبه الليلة بالبارحة.. فكما جاءنا الاستعمار بالأمس متدثرا برداء نشر قيم الرجل الأبيض وأنوار حضارته وبنظريات جول فيري وشامرلان وقد كانا من كبار منظري الامبراطوريتين الفرنسية والبريطانية.. ها هم اليوم أحفاد مستعمري الأمس يخططون للعودة مستعملين نفس الأدوات تقريبا لكن بمفردات جديدة وبإخراج مغاير.. حيث خلفت قيم حقوق الإنسان والحريات حكاية الأجناس العليا والأجناس السفلى في محاولة للنيل من قرارنا المستقل والتدخل في شؤوننا وصولا إلى تكريس عودة الاستعمار في ثوب جديد.
وقد شهدت السنوات القليلة الماضية أحداثا مزلزلة صبّت في هذا الاتجاه.. حيث وقع العراق تحت الاحتلال المباشر للامبراطورية الأمريكية التي غزت هذا البلد العضو في المنتظم الأممي وفي كل الهيئات والمؤسسات الدولية والاقليمية دون قرار من الشرعية الدولية دون غطاء سياسي أو أخلاقي.. لتسقط كل المبررات الزائفة والحجج الواهية وليتعرى وجه الاحتلال البغيض وأهدافه القديمة المتجددة المتمثلة في نهب الخيرات (بترول العراق) وفي تحسين وتحصين المواقع على رقعة الشطرنج الدولية تحقيقا لأهداف استراتيجية تخص الترتيبات الجارية في المنطقة ككل لارساء ما سمي «الشرق الأوسط الجديد».
ليس هذا فقط بل ان قوى دولية أخرى تداعت مع الاحتلال الأمريكي تأمينا لنصيبها من «الكعكة».. كما عرف البرلمان الفرنسي في فيفري 2005 تمرير قانون «تمجيد الحقبة الاستعمارية» في ردّ مباشر على بعض الأصوات التي بدأت تنطلق من ضفتنا الجنوبية (للمتوسط) والداعية إلى الاعتذار ودفع التعويضات عن الحقبة الاستعمارية.. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل إن بعض الجهات والدوائر لم تعد تجد حرجا في التدخل في شؤوننا الداخلية ومحاولة اعطاء الدروس في الديمقراطية وحقوق الانسان في انتهاك صريح لسيادتنا ولاستقلال قرارنا الوطني.. وهي الشجرة التي تخفي وراءها غابة التمهيد لعودة الاحتلال وان بأشكال مختلفة وبمفردات مغايرة.. وهو ما يجعل الحديث عن مآسي وفظاعات الحقبة الاستعمارية حديثا آنيا ويدعونا إلى التحرك على كل الواجهات لسدّ الطريق أمام هذه النزعة الاستعمارية الجديدة.. التي تحاول أن تركب أيضا بعد الدعوات الممجوجة لأشخاص باتوا لا يترددون في الاستقواء بالأجنبي بتعلة «النضال» في مجال الحريات وحقوق الإنسان.
فهل تسقط الجريمة الاستعمارية بالتقادم؟ ثم ألا يشجع عدم حصول شعوبنا حتى الآن عن اعتذار رسمي وصريح وتعويضات مجزية عن فظاعات الحقبة الاستعمارية من تحدثهم أنفسهم بتمجيد الحقبة الاستعمارية ومحاولة معاودة الكرّة بالتمادي في استهداف سيادتنا؟ ألا يعد حقنا في إنصاف كرامتنا المجروحة وفي تمكين شعوبنا من تعويضات مجزية عن عقود النهب والتقتيل والترويع والتجهيل من صميم حقوق الإنسان؟
كيف السبيل إلى تكتل شعوبنا ومجتمعنا المدني للضغط في اتجاه تحقيق هذه المطالب العادلة؟
لقد كانت هذه التساؤلات وغيرها مبعث التفكير في هذه الندوة المغاربية التي اختزلت كل الهواجس في محور جوهري: «الشعوب المغاربية وحق الاعتذار والتعويض عن الحقبة الاستعمارية» والتي استضفنا في إطارها هذا الجمع الكريم من الأساتذة الأجلاء.. وأحيل الكلمة مباشرة إلى الأستاذ محمد مواعدة رئيس الجلسة الأولى.
أ. د. عبد الجليل التميمي: قراءة في جدلية المطالبة بالاعتذار والتعويض
تعددت مؤخرا نداءات سياسية وحزبية ليس فقط في بلادنا وإنما أيضا في البلاد العربية, مطالبة بحق الشعوب التي خضعت للاستعمار الفرنسي والبريطاني والأسباني بالاعتذار عن المحن والمآسي التي لحقت بهذه الشعوب والمطالبة بالتعويض عن ذلك.
وكان آخر ما حصل في دمشق خلال الأسبوعين الماضيين لدى اجتماع الأحزاب العربية، وهي التي أقرت مبدأ ثنائية المطالبة الجماعية بالاعتذار ثم بالتعويض.
وقد أدى هذا التوجه العام إلى اقتناع بعض الشخصيات التي تنتمي إلى أحزاب سياسية ببلادنا، عندما دخلت على الخط, مطالبة فرنسا بالاعتذار والتعويض عن ما لحق الشعب التونسي من جراء الاستعمار الفرنسي ونفس هذا الأمر لما لحق بالشعبين الجزائري والمغربي.
لا بد أن نذكر هنا بهاته الظاهرة الدولية الجديدة والتي بدأت تطبقها بعض الدول التي ارتكبت أخطاء تاريخية في سجلها تجاه بعض الشعوب, فقد اعتذرت ألمانيا لما لحق باليهود من ويلات الحرب العالمية الأخيرة ومازالت حتى يومنا هذا تدفع التعويضات المجزية واعتذرت اليابان للصين واعتذر رئيس الجمهورية البرتغالية للعالم العربي الإسلامي عن ما حصل للموريسكيين الأندلسيين ببلاده واعتذرت النمسا المجر للشعوب من دول البلقان وأرجعت لها أرشيفاتها الوطنية. وقامت ايطاليا بالاعتذار لليبيا وقام رئيس وزراء استراليا كيفن رود Kivin Rudd خلال هذه الأيام بالاعتذار لنصف مليون نسمة من الاستراليين عندما أجبرتهم حكومة السلطات البريطانية منذ 1920 إلى 1970 وهم أطفال صغار تم اختطافهم من عائلاتهم وتهجيرهم بالقوة إلى استراليا للعمل على ديمومة بقاء الجنس الأبيض البريطاني في هاته القارة الجديدة وقد اعتبر رئيس وزراء أستراليا الحالي هذا العمل مشينا ووصمة عار وأن استراليا لتأسف لهاته المأساة اللاإنسانية المسجلة في تاريخها, بل أن رئيس وزراء بريطانيا هو الآخر سوف يقوم بالاعتذار في خطاب العرش البريطاني في جانفي المقبل, لإعلان الإعتذار الرسمي.
بعد هذه الإطلالة, لدي بعض الملاحظات الأساسية والتي غابت عن البعض من السياسيين التونسيين والعرب على حد سواء :
أولا: في نفس الوقت الذي يطالب فيه البعض بالاعتذار والتعويض, هل تساءلت تلك الأحزاب والمنظمات والدول العربية التي تم استعمار شعوبها عن سبب غياب اهتمامها الكامل منذ أكثر من 50 سنة اليوم أي منذ استقلالات بلداننا وعدم تناول هذا الملف وإعداده وفقا للأصول المتبعة لمثل هذه المطالبات، وحيث لم نسجل في هذا المجال إلا تجربة العقيد معمر القذافي الذي نجح في انتزاع اعتذار إيطاليا الرسمي, لما اقترفته في ليبيا, وقبولها مبدأ التعويض وهذا ما تم فعلا وعلى مرأى ومسمع من الجميع وبكل الوسائل الإعلامية.
وعليه كان الأجدر على المؤسسات البحثية العربية وسائر المنظمات الأخرى المختلفة, الاهتمام بهذه القضية وإعداد الدراسات الموثقة والمدعمة بالإحصائيات الدقيقة والمستمدة من مخزون الأرشيفات المحلية والفرنسية والتي تكشف بالأدلة والقرائن على الأضرار البالغة المسجلة في عديد المجالات الفلاحية والاقتصادية وخصوصا التربوية حتى تكتسي مطالبتنا شرعيتها لدى المنظمات الحقوقية الدولية. وحسب علمي بقيت مطالبنا عبر التصريحات الصحفية النارية ولم تقم ولا دولة عربية بإعداد مشروع مدروس أشرفت على إعداده هيئات خبيرة بهذا الملف ومدركة لكل أبعاده القانونية.
ثانيا: أن المؤرخين وعموم الباحثين المستقلين علميا، يرفضون أن توظف الظرفية التاريخية الحرجة اليوم بين فرنسا والبلدان المغاربية لمطالبة بعض السياسيين وبإلحاح بهذا الاعتذار والتعويض له. وعلى الجميع أن يفرق بين فرنستين اليوم, إحداهما الاستعمارية والتي عانى منها شعبنا المغاربي الويلات, وأننا على ضوء ذلك, نعتبر قرار البرلمانيين الفرنسيين الذي تم تبنيه في أواخر شهر فيفري 2005 بتبييض الوجود الفرنسي في مستعمراتها, قد أساء حقا إلى المبادئ الفرنسية نفسها. وقد انبرى المؤرخون الفرنسيون النزهاء أنفسهم لإدانته وقاموا بحملة واسعة في كل المواقع وساندهم أحرار العالم ومنهم بصفة خاصة المؤرخون المغاربيون, الأمر الذي أثار موجة عارمة ومعارضة شديدة لهذا القرار البائس ودفع الرئيس شيراك إلى إلغاء مفعوله المباشر.
أما فرنسا الثانية فهي التي نثمن قوة ووهج حضارتها ممثلة في عصر الأنوار, وهي أحد أركان الحضارة العقلانية والفاعلة في عصر النهضة الغربية.
ثالثا : أننا نفرق تماما بين المعطى الحضاري الغائب تماما عن هاته المطالبة والمعطى الرقمي الدقيق للتداعيات الخطيرة للاحتلال الفرنسي لفضائنا المغاربي, وعلى الأخص منه بالجزائر, حيث لا يمكن إطلاقا لأي مؤرخ مهما كانت قناعاته وثوابته الإيديولوجية أن يتغافل عن المآسي التي حلت بالشعب الجزائري طوال الاحتلال الفرنسي, وأن تبييض هذا الماضي هو نكسة خطيرة جدا لكل المبادئ الإنسانية وأن عدم اعتذار فرنسا هو أمر لا يمكن قبوله مطلقا.
رابعا : أني أتوجه إلى الجميع باعتباري أحد المؤرخين المعنيين منذ عشرين سنة بملف جوهري تناساه الجميع من أحزاب سياسية ومنظمات عربية وإسلامية عديدة ومراكز بحوث وجامعات وتعلق الأمر بالقضاء على وجود أمة عندما صفيت تماما من الوجود المادي وصودر تراثها الفكري والحضاري, بل وتم طرد تلك الأمة من وطنها الأندلس أشنع طرد عرفه التاريخ البشري. وقد وجهنا أكثر من رسالة إلى جلالة الملك خوان كارلوس وإلى السيد رئيس الوزراء زباتيرو ووزير الخارجية موراتينوس وتفضل جلالة الملك بالرد علينا ديبلوماسيا، ولم يثر ملف الاعتذار بل تم رفض ذلك رفضا قطعيا. ونحن نذكر بأن موقف الرفض المطلق من الدولة الأسبانية لا يخدم مستقبل العلاقات الأسبانية-العربية, وكما ذكرنا السيد رئيس الوزراء أسبانيا بأن معاهدة حلف الحضارات التي أمضاها مع رئيس وزراء تركيا السيد رجب طيب أردغان تقضي بتوفير مناخ التفاهم والتواصل بين الثقافات والحضارات والشعوب حاضرا ومستقبلا ولكن أيضا ماضيا.
وتساؤلنا المحير أين هم السياسيون والمنظمات العربية والإسلامية لتضافر كلمتهم مطالبين باعتذار حضاري, إذ ضياع الوطن الأندلسي لا يقدر بثمن على الإطلاق, وإن المطالبة بالاعتذار السياسي ثم التعويض المادي للاحتلال الفرنسي لفضائنا المغاربي وتجاهل القضاء على الدولة الأندلسية ومحوها من الوجود وعدم الاعتذار ورفض مبدأه من قبل السلطات الأسبانية العليا, هو أمر بائس ولا يشرف لا نخبنا ولا منظماتنا ولا أحزابنا السياسية العربية جميعها ولا أسبانيا نفسها, خاصة وأن المؤتمر الذي عقد ببلنسية قبل شهر من قبل المركز الثقافي الإسلامي, أبرز فيه المؤرخون الأكاديميون الأسبان النزهاء أن هذا الملف يشكل وصمة عار على جبين الأمة الأسبانية وأنه على الدولة أن تعتذر علنا على ذلك طال الزمن أو قصر.
إننا في نفس الوقت الذي نطالب فيه فرنسا بالاعتذار والتعويض عن الأضرار الجسيمة التي لحقت مجتمعاتنا, هل قام المغاربيون والعرب عموما بالاعتذار لشعوبنا عندما التزمنا الصمت المريب حول ما ألحق بها من أضرار جسيمة حتى يومنا هذا وحيث جاءت مثل هاته الدعوة متأخرة جدا وهي حتما لا تستجيب لعمق المأساة التي عاشتها شعوبنا في ماضيها من غلاة الاستعماريين الغربيين ؟
هل من وعي فاعل لمعالجة هذا الملف والذي نؤمل أن يتم درسه وإعداده منهجيا حتى لا يكون ورقة سياسية في أيدي البعض ! وتلك هي دعوتنا إلى الجميع بعدم تسييس هذا الملف بل استوجب إحالته إلى لجان مختصة وإعداده علميا مدعما بكل الوثائق والخرائط والإحصائيات الدقيقة وتلك هي عملية تحتاج أولا إلى قرار سياسي على أعلى مستوى ثم إلى لجان يتم تشكيلها بروية وإعمال نظر بعيدا عن أي التزام سياسوي ظرفي وهذا أمر ليس بالممكن الآن...
تلك بعض الخواطر التي وددت إثارتها في هذا الحوار حول هذا الملف وأخذت جريدة «الشروق» مشكورة مبادرة تنظيمه اليوم.
د. عثمان السعدي (الجزائر): تحدّيات اللغة العربية في مواجهة اللوبي الفرنكفوني ومخلّفات الحقبة الاستعمارية
تونس (الشروق):
في البداية وبعد توجيه التحية الى جريدة «الشروق» أود أن أشير الى الاحداث الاخيرة الخطيرة التي شهدنا فيها هزيمة كرة القدم بين مصر والجزائر... نحن كلنا انهزمنا في هذه المباراة... الذي حلّ منذ أيام بين مصر والجزائر هو انتصار الدهماء...
أما في ما يخص قضية الاعتذار فهي مسألة تعود بنا الى يوم 23 فيفري 2005 حين أصدرت فرنسا قانونا تطالب فيه بالاعتراف بروعة وجمالية وإيجابية الاستعمار الفرنسي!!... لقد قتلوا 5،5 ملايين نسمة في حربهم على الجزائر... دمّروا ثقافتنا... وهويتنا وذاتنا ويحدثوننا عن إيجابية الاستعمار الفرنسي... نحن نطالب بإلغاء القانون الجريمة قبل المطالبة بالاعتذار...
الفرنكفونية في العالم لها وجه في افريقيا السوداء ولكن في المغرب العربي لها وجه بربري (Berberisme)... نزعة صُبغت من الاستعمار الفرنسي الجديد لتحطيم الوحدة الوطنية في البلدان المغاربية هذه النغمة (Berberisme) التي ظهرت بعد عام 1830...
أكبر عنصر مسيحي معادي يقول: «إذا أردتم السيطرة على الجزائر فأبعدوا عن الجزائريين قرآنهم»...
الفرنكفونية بالجزائر والمغرب مربوطة ب (Berberisme) حتى تبقى اللغة الفرنسية مهيمنة... نحن لسنا ضد اللغة الفرنسية بل ضد هيمنة اللغة الفرنسية... وعلينا أن نذكر هنا كيف أن مجلس الشيوخ الفرنسي أصدر قرارا في جوان 2008 يرفض فيه الاعتراف باللغات الجهوية... إذن هم يخافون على لغتهم من لغات جهوية ونحن لا نخاف على لغتنا العربية من اللغة الفرنسية؟!...
القضية في رأيي ليست قضية اعتذار بالتأكيد بل هي قضية تغيير سياسة...وبالتالي فإنه قبل أن نطلب الاعتذار والتعويض علينا أن نطلب تغيير قانون الاستعمار والتوقف عن التآمر اللغوي...
مفتاح بونعيجة (ليبيا): هذه هي التجربة الليبية في انتزاع الاعتذار والتعويضات من إيطاليا
تونس «الشروق»:
في البداية أودّ أن أتوجه بالتحية إلى جريدة «الشروق» على هذه المبادرة القيّمة وعلى اختيارها لموضوع الشعوب المغاربية وحقّ الاعتذار والتعويض عن الحقبة الاستعمارية.
إنّ التحدث عن موضوع الاعتذار والتعويض يحتاج إلى الكثير من الوقت وإلى الكثير من الندوات والحوارات... أما بالنسبة إلى التجربة الليبية على هذا الصعيد فإن ليبيا الثورة لم تعترف حتى بالاستقلال المزيّف الذي منح لها في ظلّ وجود قواعد أمريكية وبريطانية... ففي نفس الوقت الذي دأبت فيه الثورة على فتح هذا الملف كان هناك مطلب التعويض والاعتذار هو الذي حكم العلاقات الليبية الإيطالية وكانت هناك الكثير من المحطات التي مهدت للاعتذار..
لقد دأبت ليبيا في علاقتها مع إيطاليا على إرساء هذا المطلوب كقاعدة رئيسية في التعاون والتكامل وإقامة الشراكة.. وكان هناك اتفاق ليبي إيطالي هو الذي أقرّ بمثل هذا المبدأ والاستمرار فيه... أما التعويض فقد جاء بعد أن تقدم الشعب الليبي بمشروع في هذا الإطار يقوم على أسس العدالة والمشاركة الاقتصادية والاجتماعية..
إن تحقيق هذا المطلب كان مرسوما وواضحا... وهدفا رئيسيا لأن الاستعمار سيعود إذا لم تجرّم حقبة الاستعمار...
والكل يذكر هنا أن الموجة الأولى للاستعمار جاءت نتيجة الأزمة الاقتصادية التي ضربت العالم في عام 1920... ولأن في شروط الاستعمار هو الفراغ فإنه عندما تكون أزمة وفراغ في الغرب يكون هناك تلويح بالعودة والاستعمار من جديد...
إن سياسة الكيل بمكيالين التي أسست لها مؤسسات دولية وهي المؤسسات التي تحكم علينا نحن العرب والعالم الثالث...
إنّها مؤسسات أوجدتها الآلة الغربية وتنفيذ سياساتها يكون موجها من الآلة الغربية... ونحن في ليبيا لدينا تجربة مع إيطاليا حتّى جاء سلفيو برلسكوني وقدّم اعتذارا رسميا للشعب الليبي ولابن شيخ الشهداء المجاهد عمر المختار... وبهذا تكون إيطاليا قد طوت صفحة الماضي الأسود وعبّرت عن رغبتها في إقامة علاقات مع ليبيا ولكن السؤال كيف لنا أن نقيم علاقة شراكة مع هؤلاء.. كيف لنا أن نضمن أن لا يعودوا إلينا من جديد؟
وباعتقادي أن هذا يجب أن يكون حافزا بالنسبة إلينا كي ندرس بجدية كبيرة التفكير في إيجاد القوّة التي تمكننا من التفاوض...
إنهم يقدمون لنا وصفات جاهزة... ويريدون ربط هذه المنطقة بأوروبا حتى تكون تحت التأثير المباشر لما يحدث من تطورات في أوروبا...
نحن لسنا ضد الحوار.. ولكننا لسنا أيضا ضد التعامل مع الغرب... ولكن أي غرب؟.. الغرب الذي يهجّر العراقيين ويصبّ الفسفور الأبيض على المدنيين في غزة؟
اليوم هناك تدخل باسم حقوق الإنسان وأعتقد أننا مطالبون اليوم بالعمل على تفويت الفرصة عن الغرب.. مطلب الاعتذار هو مطلب عميق وكل من شارك في تاريخ حركات التحرر الوطني يعي ذلك.. ولكن يبقى من المهم في نفس الوقت الاحتفاظ في هذا الإطار بخط الاستمرار في المطالبة بالتعويض... وأعتقد أنه يجب من الآن أن نصعّد وتيرة العمل بعلمية بكل ما يضمن تحقيق مطلب الاعتذار وذلك من خلال إقامة الكثير من الندوات على غرار هذه الندوة التي نظمتها «الشروق»... كما يجب التفكير في آليات تجيب عن سؤال ما العمل لكي لا يعود الاستعمار بشكل مباشر؟.
الدكتور عبد السلام بوطيب (المغرب) : من العدالة الانتقالية إلى العدالة التاريخية: أو ما هي آليات معالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان فى المرحلة الاستعمارية؟
لا أحد يمكن أن يجادل اليوم أن مطلب معالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان - بجميع امتداداتها - في المرحلة الاستعمارية ، مطلب قديم قدم مغادرة الاستعمار للأوطان التي احتلها، إن لم نقل مند اندلاع المقاومة السياسية له في أكثر من بلد . إلا أن ما لم يطرح إلى حدود تأسيس مركز الذاكرة المشتركة بالمغرب ، هو آليات أو منهجية معالجة هذه الانتهاكات رغم الندوات واللقاءات المحلية والجهوية والدولية التي تناولت الظاهرة الاستعمارية .
لذا فهذه المداخلة هي عبارة عن سؤال منهجي ، تبتغي تكييف منهجية العدالة الانتقالية – التي هي منهجية لمعالجة الانتهاكات الداخلية - لمعالجة ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في الفترة الاستعمارية .
شكل نجاح الاشتغال بمنهجية العدالة الانتقالية لمعالجة ملفات ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان على المستوى الداخلي في أكثر من بلد ، حافزا للبحث عن صيغ «تطويع»( تكييف) هذه المنهجية للعمل بها بغية معالجة الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان والانتهاكات الخطيرة للقانون الإنساني الدولي ومقتضيات الميثاق الدولي لحقوق الإنسان التي تعرضت لها عدة شعوب في مرحلة الاحتلال الكولونيالي ، خاصة وأن جل الانتهاكات التي اقترفت في مرحلة ما بعد الاستعمار تجد امتدادا لها ، فى أكثر من بلد ، في المرحلة السابقة – أي في فترة الاحتلال الكولونيالي – من حيث طبيعتها و تواترها ، ومن حيث طرق وصيغ ممارساتها، ومن حيث الإشراف عليها ومباركتها في أكثر من تجربة.
فما هو جوهر آليات العدالة الانتقالية ؟ وهل يمكن تكييفها قصد الاشتغال بها لمعالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان المقترفة في المرحلة الكولونيالية والتي تصل بعضها إلى جرائم ضد الإنسانية ؟
العدالة الانتقالية: المفاهيم والآليات
من المؤكد أن كثيرا من الجرائم التي قامت بها القوى الاستعمارية قد بدأ يطويها النسيان المؤقت ، إلا أن هناك جرائم أخرى – نظرا لحجمها و طبيعتها وأثرها على الحاضر وتهديدها للمستقبل – لم تستطع ولوج دائرة النسيان المؤقت . مما جعل ثلة من النشطاء الحقوقيين - السياسيين مدعمين بالبحوث الأكاديمية الجادة في أكثر من مبحث علمي يمس الظاهرة الاستعمارية في مختلف تجلياتها ، يهتمون بالبحث عن صيغ لمعالجتها ،مساهمة منهم في قطع الطريق على من يحاولوا استغلالها في مزايدة سياسوية، و كذلك إيمانا منهم بأن استرداد الحق والعدالة والديمقراطية و التنمية والجوار السليم هي ضرورات يعزز بعضها البعض. وهم في ذلك يسترشدون بميثاق الأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهدين الدوليين الخاصين بحقوق الإنسان، واتفاقيات جنيف المؤرخة 12 أوت 1949 وبروتوكوليها الإضافيين المؤرخين المؤرخة 8 جوان 1977، وغير ذلك من الصكوك ذات الصلة بالقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي. ولحقوق الإنسان بصفة عامة دون أن ينسوا مقررات مؤتمر دوربان..
ويشكل مركز الذاكرة المشتركة والمستقبل- الذي استطاع استقطاب نخبة حقوقية أكاديمية هامة سواء على مستوى جهازها التقريري أو جهازها العلمي - أهم مؤسسة حقوقية- سياسية تشتغل على الموضوع من الزاوية الحقوقية الصرفة، والتي تبتغي استرداد الحق باعتماد كلي على المواثيق و الإعلانات والعهود والاتفاقيات والبروتوكولات الإضافية والصكوك والقوانين السابقة الذكر .
مما لا شك فيه أن العدالة الانتقالية آلية مهمة في مسارات التحول الداخلي من النزاع المسلح إلى حالة السلم ومن حالة الاستبداد إلى الديمقراطية، وأن تاريخها هو تاريخ لجان الحقيقة والإنصاف والمصالحة عبر العالم. وهذا الموضوع محكوم بثلاثة مكونات: حقوق الإنسان والقانون والسياسة.
ويرتكز الموضوع ذاته على خمس مقاربات وهي:
- الكشف عن الحقيقة
- جبر الأضرار
- حفظ الذاكرة
- المساءلة
- التأسيس للمستقبل
و تشمل هذه المنهجية كذلك :
- فهم المبادرات التي تستهدف المصالحة
- التحليل النقدي لمشكل الإفلات من العقاب
- إدماج بعد النوع في تحليل ومعالجة ماضي الانتهاكات.
المقاربات المنهجية لمعالجة قضايا الذاكرة المشتركة:
نتوخى من تكييف أليات العدالة الانتقالية لمعالجة ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في المرحلة الاستعمارية الوصول للإجابة على السؤال الآتي :
- ما هي طبيعة الانتهاكات الحقوقية – بجميع امتداداتها - التي مارستها القوى الاستعمارية إبان احتلالها لمناطق كثيرة من العالم ،وكيف يمكن معالجة هذه الانتهاكات معالجة حقوقية تستمد آلياتها من منهجية العدالة الانتقالية و تحتكم إلى مبادئ حقوق الإنسان وحكم القانون وقيم الديمقراطية وعلى الخصوص القانون الدولي لحقوق الإنسان و القانون الدولي الإنساني وباقي المواثيق و والإعلانات والعهود والاتفاقيات والبروتوكولات الإضافية والصكوك والقوانين السابقة الذكر ؟
أولى الخطوات في هذا التمرين المنهجي الصعب هي إعادة تأسيس أو بناء الحقيقة .و عندما يتعلق الأمر بالبحث عن الحقيقة لمعالجة اختلالات حقوقية جرت في زمن مضي فالأمر يختلف عن الحقيقة التي يبحث عنها المؤرخون عندما يشتغلون في نطاق اختصاصاتهم بناء على منهجية البحث التاريخي .ذلك أن البحث عن الحقيقة في مجال العدالة الانتقالية تتم بتعاون وطيد بين المؤرخ والحقوقي والقانوني وغيرهم ممن يمكن أن يفيدوا من المشتغلين في مجال العلوم الإنسانية أو القانونية (في إطار مجموعة عمل واحدة) والهدف عادة ما يكون هو الإجابة على الأسئلة الآتية:
- من أمر بارتكاب الجريمة الحقوقية؟
- من نفد الجريمة الحقوقية ؟
- من استفاد من الجريمة الحقوقية؟
وضروري التأكيد هنا على أن المقصود بالجريمة الحقوقية هو الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي مارستها القوى الاستعمارية والتي تتعارض مع الإعلانات والمواثيق والقوانين السابقة الذكر.كما أن الحديث عن المسؤولية يتجاوز مسؤولية الأشخاص والمجموعات إلى إثارة مسؤولية الدولة الاستعمارية كمؤسسة في استمراريتها ووضعها الحالي.
أما المرتكز الثاني فهو مرتكز جبر الأضرار، وهنا يجب التمييز بين جبر الأضرار- الفردية والأضرار الجماعية- عن مفهوم التعويض المالي، ذلك أن جبر الضرر الفردي والضرر الجماعي - أشمل وأوسع من التعويض المالي. لأن مفهوم جبر الضرر مفهوم واسع ويستحضر الأبعاد السياسية والحقوقية والتنموية والآفاق المستقبلية في المعالجة، إن على المستوى الفردي والجماعي.
إلا أن الاشتغال على هدا المفهوم يجب أن يكون في إطار تقييم شامل لأثر المرحلة الاستعمارية على الوضعية الاقتصادية والاجتماعية للمغرب مما يتطلب الاشتغال على مفهوم «الدين التاريخي الاستعماري».
ويعتبر حفظ الذاكرة المرتكز الثالث من مرتكزات العدالة الانتقالية، فلسؤال حفظ الذاكرة علاقة مباشرة مع الواجب الأخلاقي تجاه الضحايا والمجتمع برمته، ومع سؤال عدم التكرار. لذا فهذا السؤال يتطلب إبداعا خاصا مؤسسا على الكشف عن الحقيقة ويتوج بإبداع أشكال معبرة عن الآلام التي أصابت الناس – كل الناس - من جراء همجية الحدث. ذلك أن إبداع هذه الأشكال المعبرة تعتبر من ضمن المحفزات على عدم التكرار . بل تعتبر من ضمن ضمانات عدم التكرار.
أما المرتكز الأخير الذي هو في الحقيقة مرتكزين اثنين و ليس واحدا فقط، و هما المساءلة وبناء المستقبل:
فرغم أن المساءلة ليست غرضا في حد ذاتها ، وأنها لا تهدف – في هذا المجال إلا إلى مساءلة الدولة كجهاز - فغالبا ما يتم التضحية بها للحفاظ على التوازنات السياسية الداخلية والخارجية .
لذا نحن في المركز منشغلون بتعميق النظر وببلورة آليات جديدة لعدم الإفلات من المساءلة في قضايا الاستعمار نظرا لما لهذه المساءلة من أهمية قصوى فى بناء المستقبل العادل .
و أما التأسيس للمستقبل مبتدؤه قبول الدول الاستعمارية الانخراط في مسلسل المعالجة .وخبره التأسيس لعلاقات ندية ومتكافئة بين الدول المستعمرة والمستعمر. إلا أن النجاح في هذا التأسيس لن يتم إلا عبر ترسيخ الديمقراطية داخليا وإشاعة ثقافتها بين المواطنين وتنمية قيم التضامن . وإعمال الذكاء الجماعي والتشبث بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
العدالة الانتقالية بين النظرية والتطبيق :
حاول مركز الذاكرة المشتركة والمستقبل تطبيق هذه المنهجية على أكثر من جريمة ضد الإنسانية ارتكبت في المرحلة الاستعمارية، ولعل أبرز محاولة في هذا الصدد هي محاولة الاشتغال بهذه المنهجية على جريمة إقحام المغاربة في الحرب الأهلية الاسبانية ، وهي حرب دامت ثلاث سنوات وأقحم فيها الآلاف من المغاربة ، أزيد من تسعة آلاف منهم أطفالا لا تتجاوز أعمارهم تسع سنوات .فكانت النتيجة المنهجية هي هذه الخلاصات التي سأقطفها من التقرير التركيبي للندوة :
لئن تباينت المداخلات بين صعوبات إعمال هذه المقاربة وبين إمكانية توظيف بعض جوانبها؛ فإن معرفة ما جرى، والكشف عن الحقيقة، وإنصاف الضحايا، وجبر الضرر، الخ. كلها قضايا تتطلب إبداع مقاربات تقوم على ابتكار منهجيات اشتغال يكون فيها دعم الديمقراطية وإعمال مبادئ حقوق الإنسان حجر الزاوية بحيث تنطلق الأسئلة حول : من أمر؟ ومن نفّذ؟ ومن استفاد؟ في محاولة لاستجلاء الملابسات وتسليط الضوء على الظرفية التاريخية والسياسية التي جعلت شعوب البلدين يعيشان ما عاشاه أثناء هذه الحرب وأن يرزحا تحت مخلفاتها التي لازالت ترهن مستقبلهما وتغذي عوائق ومعوقات المصالحة بين البلدين بالرغم من التاريخ والجغرافيا التي تجعل منهما حلقة وصل بين قارتين وحضارتين.
أما بالنسبة إلى إمكانية تطبيق هذه المنهجية بغية معالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي اقترفتها فرنسا في المغرب فلا يتوفر المركز إلى حد الآن إلا على الورقة التي قدمت باسم المركز في الندوة التحضيرية التي انعقدت بالرباط يوم 16 من الشهر الماضي ، والتي يمكن أن نقتبس منها ما يلي :
«عندما نقول الدين الاستعماري فلا نقصد فقط مخلفاته السلبية على بلادنا، وهي كثيرة وفي مجالات متعددة، مما يتطلب، من الوجهة الإنسانية والحقوقية، جبر الضرر في صيغته العينية المباشرة، إن صح هذا التعبير، وهذا حق مشروع أصبح يمارس داخل الوطن الواحد في إطار العدالة الانتقالية، أقول لا نقصد بالدين الاستعماري هذا المستوى فقط بل ذلك الدين الذي يرهن مصير العلاقات الفرنسية المغربية ويتضرر من جرائه الشعبان. إذن، فالمقاربة ليست بتاتا شوفينية ولا عدائية ولا استجدائية، بل على العكس من ذلك هي إنسانية في مبدئيتها وفي مضمونها الملموس، إذ هي تروم بالأساس مصلحة البلدين ومصلحة الشعبين. ولربما يدقق هذا التصور، الذي يقترحه مركز الذاكرة المشتركة والمستقبل، مقاربة العدالة الانتقالية ذاتها من حيث أن التعويض وجبر الضرر لا يخص فقط الأشخاص الذين طالتهم انتهاكات حقوق الإنسان بل أيضا الوطن كله حتى لا يتعطل مسار تقدمه وانعتاقه.
إن ما يتوخاه المركز هو تقديم اجتهادات لمقاربة الدين الاستعماري بهذا المعنى الشمولي من أجل معالجة حضارية وإنسانية للقضايا التي مازالت ترهن المصير المشترك بين الشعوب من خلال علاقة المغرب بمحيطه الجيوسياسي ، أي إسبانيا وفرنسا والجزائر وموريطانيا، مع الاستفادة طبعا مما تراكم من رصيد في مجال العدالة الانتقالية بمعناها المتداول.
إذن مقاربة المركز ليست تاريخية صرفة، فهي تعتمد على التحليل التاريخي وعلوم أخرى تمدها بالمواد الضرورية لبناء مقاربة هي في العمق مقاربة سياسية حقوقية تتوخى فتح ورش جديدة في مجال العدالة الانتقالية، ألا وهي العدالة الانتقالية بين الدول والشعوب من خلال الانكباب على المغرب ومحيطه الجيوسياسي.
ولا بد من الاعتراف هنا وبمنتهى الموضوعية، بأن تأسيس مركز الذاكرة المشتركة والمستقبل للاشتغال على هذه الموضوعات يشكل في حد ذاته مكسبا إذ هناك حاجة ماسة إلى تسوية القضايا العالقة التي تشوب علاقات دول البحر المتوسط من أجل إنجاح أي مشروع يتوخى علاقات حضارية وإنسانية بين شعوب ودول هذا البحر. فالمركز باهتمامه الخاص بقضايا الإنصاف والمصالحة بين الدول يشكل في حد ذاته قيمة مضافة من المؤكد أنها ستغتني باستمرار، إن على مستوى بلورة منهجية ملائمة للعدالة الانتقالية بين الدول أو على مستوى المساهمة في إيجاد حلول مشتركة لما يعوق إقامة علاقات عادلة ومنصفة بين المغرب ودول محيطه الجيوسياسي.
لذلك المطروح اليوم علينا هو تلمس الأحداث التاريخية بين المغرب وفرنسا في إشكالياتها الأساسية وفي علاقاتها الدالة أو المؤسسة أو المؤطرة من خلال مساءلة الارتباط بين الذاكرة المشتركة والتاريخ والسياسة».
خاتمة:
نعتقد أن أولى الخطوات لمعالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان الناجمة عن المرحلة الاستعمارية في جميع تجلياتها وأبعادها تتطلب الأخذ بهذه المنهجية وتأسيس لجنة ثنائية مستقلة للبحث عن الحقيقة وبناء سبل الإنصاف والتأسيس للمستقبل، وهي لجنة يجب أن تتكون من سياسيين ومن فعاليات حقوقية ومدنية وخبراء من كلا البلدين (مؤرخون – قانونيون – حقوقيين – رجال اقتصاد.......) والهدف من تأسيس هذه اللجنة:
- بناء خطة عمل منهجية أو ما يمكن تسميته بخريطة الطريق في مجال البحث عن صيغ معالجة المأساة الناجمة عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في المرحلة الاستعمارية في كل امتداداتها.
إن تحقيق هذا الغرض لن يتأتى إلا من خلال اتسام هؤلاء الفرقاء، باحثون وفاعلون وغيرهم بالموضوعية واستبعاد كل الخلفيات إلا خلفية العمل على استرداد الحق الذي يساهم في «بناء مستقبل لتعايش إنساني جديد يقوم على العلاقات الندية والاحترام المتبادل والتعاضد». ذلك أن «فتح ملف الدين الاستعماري لا يشكل غاية في حد ذاته، بالنسبة إلى مركز الذاكرة المشتركة والمستقبل، وإنما معبرا ضروريا للمصالحة مع تاريخ المرحلة الاستعمارية، مصالحة لا تفيد فيها مواقف التنطع والهروب إلى الأمام وكل الترهات التي تحاول تبرئة الاستعمار والبحث بالمجهر في ثنايا جرائمه اللاإنسانية علها تجد ما يجعل منه بقدرة قادر ظاهرة إيجابية».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.