حينما تلقيت دعوة من منظمة الاممالمتحدة للمشاركة في مؤتمر دولي حول التغيرات المناخية بالمرية بالاندلس.. أحسست بكثير من الفضول لمعرفة كل شيء عن هذه البلدة الاندلسية.. إذ قال لي أحد المؤرخين ذات مرّة إن السواد الاعظم من أهالي زغوان مسقط رأسي ومن تستور أصلهم من الاندلس.. وقتها بحثت طويلا في كتب التاريخ لكن لم أصل إلى ما يثبت أن أجدادي جاؤوا فعلا من الاندلس.. لكنني عرفت الكثير عن تاريخ هذا الفردوس المفقود.. فبالامس كان العرب هناك.. آثارهم مازالت شاهدة على أنهم مروا ذات عصر من المرية.. فهذه البلدة الجميلة المطلة على البحر الابيض المتوسط والواقعة جنوباسبانيا على بعد مسافة قصيرة من قرطبة واشبيليا وغرناطة ومالقة كانت تسمى في العصر الاموي "العامرية" وهناك من يقول إنها كانت تدعى "المرية" أو المرئية نظرا لوقوعها على ربوة عالية تجعلها ظاهرة للعيان على مسافات بعيدة.. وتعد المرية مقاطعة جميلة من مقاطعات الاندلس حيث تطوقها الجبال ويحتضنها البحر وقد أضحت بفعل هذه المناظر الطبيعية الخلابة قبلة لملايين السياح خاصة العرب منهم.. ولا شك أن هذا الاقبال العربي على زيارة المرية مرده نفس الحنين الذي اعتراني وأنا أحط بمطار هذه البلدة.. ذلك الحنين إلى ماض تليد.. ولّى وانقضى.. ماض انطلق منذ أن تولى القائد البربري طارق بن زياد فتح الاندلس سنة 711 لتصبح جزءا من الدولة الاسلامية.. مرورا بعهد صقر قريش عبد الرحمان الداخل الذي تولى تأسيسها واعتبرها امتدادا للدولة الاموية وبنى فيها مدينة قرطبة التي أصبحت عاصمة للاندلس والدرة التي أدارت إليها الاعناق بمساجدها الكثيرة وقصورها المدهشة وحماماتها الشاسعة وأرباضها المترامية الاطراف وليس أقل منها قيمة مدن المرية ومالقة وغرناطة واشبيلية.. كما كانت هذه المناطق آنذاك معبرا للعلم بين الشرق المستنير بالمعارف والغرب الذي كان يتخبط في ظلمات الجهل.. ولكن بعد سقوط الدولة الاموية تشتت الاندلس إلى دويلات صغيرة أطلق عليها اسم دويلات "ملوك الطوائف" ونجد منهم بنو الافطس وبنو غانية وبنو عامر وبنو عباد وبنو الاغلب وبنو رزين وبنو الصمادح وبنو تجيب وبنو ذي النون وبنو القاسم وبنو زيري وبنو جهور وبنو حمود.. وانصرف جلهم إلى اللهو والمجون وأنفقوا الكثير في سبيل الولائم الفاخرة ومجالس الشعر والانس والطرب مع الجواري والقيان.. وأمام هذه الانقسامات ضعفت هذه الدول وأصبحت مطمعا للممالك الاسبانية الكاثوليكية.. الطرد المهين استمر وجود المسلمين في اسبانيا نحو ثمانية قرون انتهت بطردهم بطريقة مهينة بعد أن طالت أيدي محاكم التفتيش كل ما هو إسلامي في البلاد.. وفي المرثية التي تدمي القلب للشاعر أبو البقاء الرندي.. والتي مازال العرب يرددونها كلما تذكروا أنهم وصلوا ذات زمن إلى تلك الجنان.. خير دليل على ذلك.. إذ يقول: "لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان هي الامور كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمان".. كما يقول: "حيث المساجد قد صارت كنائس ما فيهن إلا نواقيس وصلبان".. وعن كيفية طردهم تقول المؤرخة لوثي لوباث بارلت المتخصصة في تاريخ الموريسكيين ناقلة شهادة الاب أزنار قاردونا الذي لم يكن متعاطفا مع المطرودين: "غادر هؤلاء البؤساء في التوقيت الذي حدد لهم من قبل الضباط الملكيين ونزحوا سيرا على الاقدام أو على أحصنتهم وقد أخذت منهم الحرارة كل مأخذ وهم يجهشون بالبكاء في مشهد امتزجت فيه أصواتهم وشكاويهم ومصطحبين في ذلك نساءهم وأطفالهم ومرضاهم وأقاربهم المسنين وجميعهم يلفهم الغبار وهم يتصببون عرقا ولهثا وكان البعض منهم في عربات تجر أغراضهم وما يملكون من أشياء. أما بقية المهجرين فكانوا راكبين مع ما لديهم من اختراعات عجيبة من سروج وبرادع وقرب كانت مخصصة لحمل الماء وجميعها محاطة بحاجز معدني وأكياس المؤن وقوارب ماء ومجموعة من السلات وأدباش وأقمشة من نسيج الكتان ومعاطف وأشياء أخرى من نفس هذه الانواع، وكل واحد منهم حمل ما يقدر عليه، حيث كان البعض منهم يمشي على الاقدام رث الثياب، منتعلين أحذية قماشية. أما البعض الاخر، فقد وضعوا دثارا حول أعناقهم والبعض الاخر يجرون أحمالا صغيرة وهناك عديد النساء (لبعض أغنياء الموريسكيين) تحولن حقيقة إلى حاملات للجواهر والحلي أو هي عبارة عن أقراط فضية صغيرة، واضعات إياها في الرقبة وعلى الصدر أو معلقة في أعناقهن أو في آذانهن. وهناك أشياء من المرجان محلاة بأشكال وألوان عديدة، قد غطت أدباش النساء، ساعيات لاخفاء جزء من حسرة قلوبهن. أما الذين لا يملكون شيئا، فكانوا يسيرون على الاقدام، وقد أخذهم التعب والمرض فهم ضائعون وكئيبون ومضطربون وخجلون وثائرون وغاضبون وهائجون وعطشى وجائعون". وهكذا طرد العرب من الاندلس وخرجوا من غرناطة بعد استسلام الملك عبد الله محمد الثاني للاسبان ويقول المؤرخون إنه بعد أن استسلم ألقى نظرته الاخيرة باكيا ومازال المكان الذي نظر إليه آخر نظرة يسمى إلى حد اليوم ب "زفرة العربي الاخيرة" وقيل إن والدته لما رأته يبكي قالت له "ابك اليوم بكاء النساء على ملك لم تحفظه حفظ الرجال". وفي نفس الاطار يقول الدكتور عبد الجليل التميمي المهتم بتاريخ الموريسكيين إن الموريسكيين تعرضوا إلى شر طردة.. وإنه على السلطات الاسبانية أن ترفع لاحفادهم اعتذارا تاريخا عما لحق أجدادهم مثلما فعلت البرتغال.. وتعتزم مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات تنظيم مؤتمر دولي استثنائي بمناسبة الذكرى المائوية الرابعة على طرد الموريسكيين من بلادهم الاندلس (1609-2009) وسينعقد هذا المؤتمر خلال ربيع سنة 2009 بتونس ويقول التميمي إن تونس استقبلت قبل أربعة قرون مائة ألف من اللاجئين الموريسكيين الاندلسيين. كما استقبل المغرب الاقصى خمسين ألفا منهم والجزائر 25 ألفا. كما لجأت مجموعات أخرى إلى كل من ليبيا ومصر وجنوبفرنسا وإيطاليا وعلى الاخص إلى مركز الدولة العثمانية أي الباب العالي والاناضول، حيث احتضنتهم الدولة العثمانية. كما توجد أثارهم بأمريكا اللاتينية والهند ويدل هذا التشتت على حجم المأساة التي كان الموريسكيون الاندلسيون عرضة لها". وخلال زيارتنا إلى المرية الاسبوع الماضي أمكننا ملاحظة أن هذه المدينة الاندلسية رغم أنها أصبحت أوروبية بعماراتها وطرقاتها السيارة وسلاسل فنادقها العملاقة ومتاجرها الكبيرة.. فقد حافظت على بصمات شرقية.. ففي أمسية اختتام الندوة المتعلقة بالتغيرات المناخية كان اللقاء في مبنى مركز الفنون التاريخي وهو عبارة عن قصر يتكون من طابقين كبيرين يدلان على عظمة الفن المعماري العربي الاسلامي الاصيل كما أننا كنا نسمع المترجم الاسباني وهو ينطق كلمات عربية بين الحين والاخر.. فنتذكر أنهم أخذوا من العرب الكثير.. ولكن هل سنأخذ منهم نحن اليوم حبهم للعمل وانضباطهم الكبير فيه واحترامهم للمواعيد وغيرها من الفضائل التي جعلتهم يحتلون مرتبة متقدمة؟.. المرية الاندلس الصباح من مبعوثتنا الخاصة: سعيدة بوهلال