بقلم: عبد الكريم حميدة* في خطاب تسلم السلطة، بعث «فرنسوا هولند» رئيس فرنسا المنتخب برسالة إلى الشعب الفرنسي عامة وإلى المدرسين بصفة خاصة مفادها أن الدولة ،برئاسته، ستولي التعليم عناية خاصة بعد أن همشت في عهد الرئيس السابق نيكولا ساركوزي. تلك الرسالة التي أصر الرئيس الفرنسي الجديد على أن يضمنها خطابه تنطوي على رغبة جادة في ايلاء قطاع التربية و التعليم عناية خاصة لإدراكه التام بدوره في بناء الناشئة، رجال الغد، و الحفاظ على مكانة بلاده في عالم اشتدت فيه المنافسة ، لافتا نظر الجميع بأن من لا يحسن التعامل مع ما يطرأ من مستجدات و متغيرات قد يغادر السباق مخلفا وراءه أضرارا جسيمة تمس مختلف الميادين باعتبار التعليم المرآة العاكسة لتطور المجتمع و الدولة. لقد وجه تلك الرسالة لعلمه بأن التربية و التعليم هما الأساس والأصل و هما السبيل الوحيدة المؤدية إلى التقدم و الرقي. إن التعليم في تونس مع ما شهده من تهميش وتحقير في عهد الرئيس الهارب بن علي يحتاج إلى لفتة جادة إذا يراد للبلاد أن تتقدم. لكن، إلى يوم الناس هذا، ليس هناك ما ينبئ بإرادة سياسية صادقة نحو التطوير و الإصلاح بل التغيير و التثوير في اتجاه التأسيس لتعليم مدني عصري يحترم الخصوصيات التونسية ويعتمد على الكفاءات و القدرات الوطنية. إن الثورة في حاجة إلى العمل و الفعل قبل الهذيان و التشدق اللفظي . فبدون تربية و تعليم متطورين يشدان أزرها و يحيطانها بأسوار فكرية و ثقافية راقية تقيها من الهجومات المضادة، لا يمكن أن تكتمل فصولها و تقوى دعائمها في هذا المناخ الغائم الذي تسوده هواجس و مخاوف حقيقية من إمكانية ضياعها. في هذا الإطار لابد من الحديث عن المعلمين باعتبارهم عنصرا هاما من العناصر المكونة للمشهد التعليمي. المعلمون و منذ عهد بورقيبة يعانون من الاحتقار والتهميش و الإذلال رغم دورهم الأساسي في تربية الناشئة و تعليمها. كان ينظر إليهم نظرة تنتقص من شأنهم و تحط من كرامتهم حتى من أعلى سلطة في البلاد. كان يلقى بهم و لا يزالون في الأودية و الجبال دون مكافأتهم المكافأة التي هم جديرون بها لما يبذلونه من جهود و ما يواجهونه من مخاطر و صعوبات وما يتكبدونه من تضحيات. ما تحصل عليه المعلمون من مكاسب كان ثمرة نضالات مريرة امتدت على أكثر من ثلاثة عقود . لم تكن تلك المكاسب هبة من أحد بل افتكت افتكاكا من نظام تعمد ضربهم وإضعافهم و إذلالهم . شنوا الإضرابات المطلبية والإضرابات «السياسية « و عملوا على إنجاحها بالتراص و توحيد الصفوف لأنهم واعون كل الوعي بأن الحقوق لا توهب إنما تفتك افتكاكا و أنهم هم فقط القادرون على حماية مصالحهم و الدفاع عن أنفسهم فواجهوا بنجاح كل الحملات التي ترمي الى تشويه مطالبهم رغم التهديد ومحاولات الاختراق . في هذه الأيام يستعد المعلمون للدخول في إضراب يومي 30و31 ماي الجاري التزاما بقرار الهيئة الإدارية القطاعية بعد أن شنوا إضرابا يوم 16 ماي فاقت نسبة نجاحه كل التوقعات. ولكن ، كالمعتاد، تشن حملات التشويه و تأليب الأولياء و التلاميذ ضد المعلمين الحرصاء أكثر من غيرهم على مصلحة المتعلمين أبنائهم. هذه الحملات تذكرنا بممارسات التجمعيين في عهد زعيمهم الهارب بن علي. العبء ثقيل و المسؤولية كبيرة يقابلان بعبارات التخوين و الاستهتار. رغم ذلك كله، تمسك المعلمون بحقهم في الدفاع عن أنفسهم بالأساليب المشروعة ، كما تمسكوا باتحادهم و نقابتهم الهيكل الوحيد الذي يمكنهم من خلاله استعادة كرامتهم و تحسين ظروف عملهم. لم تكن مطالب المعلمين مجحفة كما يقال و يروّج، لكنهم جوبهوا بصد الوزارة و مماطلتها فدفعوا دفعا إلى الإضراب الذي يعتبرونه شرا لابد منه. هم يضربون من أجل تطوير نظامهم الأساسي و إدراج الاتفاقات المبرمة ضمنه حتى تُضفى عليها صبغة قانونية تحول دون محاولات الالتفاف و التلاعب. هم يطالبون أيضا بتحسين ظروف عملهم التي يعلم القاصي و الداني أن المعلم يقوم بواجبه في مدارس تفتقر إلى الحد الأدنى الذي يصون كرامة الإنسان: مدارس بدون أسوار و دورات مياه. مناضد قديمة و سبورات سود و طباشير . مكاتب مديرين هي ثقب تُسدّ على حساب قاعات التدريس. قاعات أسقفها آيلة للانهيار بسبب الفساد و سوء التصرف و الإهمال. .. المعلمون يطالبون بالترفيع في منحة المستلزمات المدرسية و هذا من حقهم لما تشهده أسعار هذه الأخيرة من التهاب مستمر. هم يطالبون بذلك لأنهم أصبحوا يقتطعون من مرتباتهم المخصصة أصلا لسد حاجات عائلاتهم مبالغ هامة لاقتناء الكراريس و الأقلام و المئزر و المحفظة و وسائل العمل المختلفة لإنجاح دروسهم التي لا تنتهي أبدا. رغم ذلك، جوبه المعلمون من البعض ب» موش وقتو» هذا الإضراب موش وقتو» ، المعلمون يتحركون ضد مصلحة الوطن البارك أصلا. و أما البعض الآخر فقد صرح علنا و دون نفاق بأن هذا الإضراب هو وضع للعصا في دولاب الحكومة حتى تفشل متهمين إياهم بالخونة متوخين الأساليب نفسها مستعملين اللغة ذاتها. ولكن ما هو موقف هؤلاء و أولئك الذين يحاولون خلط الأوراق و تسييس الإضراب و استهداف المعلمين و اتهامهم بالخيانة و نعتهم بأعداء الوطن من الزيادات التي متع نواب المجلس التأسيسي أنفسهم بها؟ هل سينعتونهم أيضا بأعداء الوطن أم أنهم سيجدون الحجج و الذرائع لتبرير هذه الزيادات الخيالية؟ المعلمون يطالبون بمضاعفة المنحة التي تصرف لهم في مفتتح السنة الدراسية و التي تقدر بمائة و خمسين دينارا. هل يمكن للدولة أن تتحمل زيادة بآلاف الدنانير في الشهر الواحد و يضيق صدرها إذا تعلق الأمر بزيادة لا تفوق الدنانير العشرة؟ على كل حال هو أمر في غاية الغرابة .. «هذا وقتو» و الآخر «موش وقتو» و هل للإضراب وقت و أوان؟ تحية للمدرسين بمختلف رتبهم و أصنافهم و الذين يناضلون في أقسامهم من أجل نشر العلم والمعرفة والفكر العقلاني المتنور و المتفتح. تحية امتنان و تقدير لكل هؤلاء.