إلى كل الذين تعرضوا للاضطهاد والتعذيب كي ينعم غيرهم بالحريات والكرامة والعيش اللائق.. إلى أرواح الشهداء الذين سالت دماؤهم من اجل الوطن العزيز وقضاياه العادلة.. إلى والدة صبرت من اجل فلذات أكبادها الذين عرفوا ألوان التعذيب والقمع والاضطهاد.. إلى روح والد الشهيد وابنه في سجن برج الرومي .. إلى روح شاب استشهد ووالداه واقفان على الجمر.. إلى كل هؤلاء أهدى الزميل كمال بن يونس كتابه «الإسلاميون والعلمانيون في تونس من السجون والاضطهاد إلى تحدّي -حكم البلاد إهداء أراد به الكاتب تأكيد محتوى العنوان وقد يرى فيه البعض فضحا صارخا للمحتوى منذ الصفحات الأولى ولكن التدرج والتجول بين الصفحات يثبت أنه طعم لجلب نظر القارئ المتعطش لكل ما يكتب عما عاناه المثقفون والمناضلون سواء من الحركات السياسية اليمينية التي عرفتها تونس أو الحركات النضالية اليسارية طيلة حكمي بن على وبورقيبة من ويلات السجون والتعذيب المعنوي والجسدي لان الكتاب في الحقيقة أثرى وأعمق بالنسبة للباحث عن تاريخ بعض الإسلاميين في تونس وخاصة منهم من يعتلون اليوم سدة الحكم من وزراء النهضة، إذ عمل كمال بن يونس خلال صفحاته على التعريف الدقيق أحيانا بحياة وفكر ونضال أهم رموز حركة النهضة وخاصة منهم الفاعلين في المشهد السياسي اليوم. أما بقية مناضلي اليسار او من سمّاهم في العنوان بالعلمانيين فلا وجود لهم تقريبا بالمقارنة مع الحيز الذي افرده للحديث عن رموز الحركة الإسلامية في تونس إلا إذا سلمنا بان الحديث عن عبد المجيد الشرفي وحده كافي لتعديل الكفة. سيرة ذاتية وحصيلة مسيرة إذن في مائتي صفحة من الحجم المتوسط أراد كمال بن يونس أن يوثق لمراحل من تاريخ تونس الحديث في فصول وحّدت بينها العلاقات الخاصة التي جمعته برموز ارتبطت أسماؤهم بموضوع القمع والسجن والتعذيب والصمود أمام الطغاة والحكام الظالمين في تونس.. وذلك من خلال حصيلة عمله كإعلامي وكباحث أنجز دراسات وتحقيقات ولقاءات صحفية وعايش أجيالا من المناضلين الإسلاميين و»اليساريين والليبراليين» . كما حاول كمال استشراف المستقبل وتسليط الأضواء على الفترة الانتقالية التي تمر بها المنطقة العربية- الإسلامية من خلال أفكار وأطروحات وحقائق خفية من حياة بعض الرموز والشخصيات الإسلامية الفاعلة في الساحة السياسية إما قرأها أو استقاها منهم مباشرة في شهادات حية وطريفة ساعدت في اغلبها على التعريف بمسيرة ونضال نخبة من زعامات حركة الاتجاه الإسلامي ورموزه الفكرية والسياسية . الغنوشي والقدرة على تجميد التناقضات في «الإسلاميون والعلمانيون في تونس من السجون والاضطهاد إلى تحدّي -حكم البلاد- « جمع كمال بن يونس مقالات تحليلية ودراسات وشهادات عن الصراع الذي دار بين نشطاء الإسلام السياسي ومعارضيهم من داخل التيار الإسلامي نفسه وخصومهم اليساريين والليبراليين وأضاف لها فصلا عنوانه «شخصيات سياسية ومحطات ورموز»وهو عبارة عن «بورتريهات» لبعض رموز تيار الإسلام السياسي في تونس والمغرب العربي مثل محمد الفاضل بن عاشور» أول رئيس لاتحاد الشغل وعالم معاصر ومحمد صالح النيفر» زعيم الشبان المسلمين.. رهان على الشباب والنساء» ومحمد الحبيب المستاوي « الإسلامي المتصالح مع ولي الأمر» وراشد الغنوشي «فيلسوف متمرد وسياسي براغماتي» . حيث قال بن يونس اعتمادا على ما عرفه شخصيا عن الغنوشي:» لديه قابلية للتأقلم والتطور والقيام بمراجعات فكرية وسياسية بالجملة.»: وأضاف «أن الشيخ حريص على تجميد التناقضات الداخلية بين رفاق الأمس واليوم تجنبا لانقسام الحركة وتأسيس حركات منافسة لها وانه شديد الحرص كذلك على عدم إغضاب رموز السلفية في تونس وخارجها، شعاره « نتعاون في ما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا البعض الآخر في ما اختلفنا فيه». ويبقى السؤال الأهم من كل ما تقدم من تعريف لراشد الغنوشي رجل الثنائيات المتقاطعة أحيانا الداعية وزعيم المعارضة الذي عاد من أوروبا ليجد أبواب قصري قرطاج والقصبة مفتوحة أمامه:» إلى أي مدى يمكن أن تؤثر عوامل سن الشيخ وتجربته وعيشه في المنفى وتراكم تجارب التعامل مع نظامي بورقيبة وبن على في ضمان مصلحة تونس العربية الإسلامية وبناء الدولة الحديثة الجديدة وهل سيتمكن من تجنيب تونس مصيرا يدفعها إليه السلفيون المتشددون وهو الحريص على عدم إغضابهم كما جاء في الصفحة 76 من الكتاب؟». وفي الكتاب أيضا بورتريهات لكل من أحميدة النيفر زعيم تيار المراجعات الفكرية وعبد الفتاح مورو وصلاح الدين الجورشي زعيم المراجعات الثقافية والنضال الحقوقي وحسن الغضبان الخطيب الأكثر شعبية وفرحات الجعبيري وعبد الرحمان خليف وعبد القادر سلامة الأب الروحي لتنظيم الجماعة الإسلامية والأزهر عبعاب وصالح كركر زعيم الأجهزة السرية وعلي العريض وحمادي الجبالي والحبيب المكني والحبيب اللوز وكمال عمران ونور الدين البحيري وسمير ديلو والعجمي الوريمي ومحمد الهاشمي الحامدي وعبد الكريم الهاروني وغيرهم . كل هذه الشخصيات جمع بين اغلبها إلى جانب نضالها وتعرضها للسجن والتعذيب والنفي قاسم مشترك أكد عليه الباحث وأطنب في إبرازه وهو العلاقة التي ربطت كمال بكل هؤلاء الرموز والمناضلين الأبطال بما يفيد انه واحد منهم حتى كاد الكتاب يتحول إلى سيرة ذاتية. السلفيون يتهمون النهضة بالميوعة والانبطاحية لقد أورد كمال بن يونس في كتابه المسؤوليات التي كان يضطلع بها الرموز الذين كتب عنهم لتأكيد وجود آباء للثورة التونسية واثبت بذلك أنهم كانوا يعملون بالفعل على تقويض نظام الحكمين السابقين في تونس للوصول إلى سدة الحكم مما قد يجعل القارئ يعتبر أن ردة فعل بورقيبة وبن علي -إذ حاكماهم وفرضا عليهم السجون والمنافي- لها ما يبررها وخاصة إذا وضعنا تحركات الإسلاميين في سياقها التاريخي والسياسي في تلك الحقبة بما يعنيه ذلك من ممارسة فعلية للعمل السياسي بقالب إسلامي وهو ما كان يتنافى صراحة مع القانون المنظم للأحزاب في تلك الفترة. ومن أبرز ما ورد في الكتاب إلى جانب مقال « السلفيون المنافس الأول للنهضة وللسياسيين؟ والذي تناول فيه الكاتب الحضور الكبير بعد 14 جانفي للمتدينين المحسوبين على التيار السلفي بمختلف فروعه- والذي أصبح ينافس حركة النهضة في تمثيل الإسلام السياسي ويعرضون أنفسهم بديلا لها ويتهمونها بالميوعة والانبطاحية للعلمانيين والليبراليين تلك الوثائق التي أثري بها الكتاب ومن بينها نجد تلك القائمة الجزئية الاسمية لشهداء التيار الإسلامي في فترة حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي ولبعض الذين أدى بهم الاختلال الذهني والاضطراب النفسي إلى الانتحار والذين توفوا بسبب الضغوطات التي سلطت عليهم بعد خروجهم من السجن مرضى معوزين كحرمانهم من الشغل والمضايقة بالمراقبة الإدارية والأمنية.