بقلم: علي الجوادي* السياسات الناجعة هي التي تعمل على توفير الأمن الشامل والكامل للجماهير، وفشل أو نجاح السياسات الاقتصادية هو الذي يقلص أو يطيل بقاء الحكومات، ذات الأنظمة الديمقراطية، في السطلة. وسؤالنا أو تساؤلنا: ألا تكون حكومات اقتصاد السوق راقصات بامتياز، مرات يتمايلن على اليمين ومرات ينحنين على اليسار، خطوات الى الأمام وأخرى إلى الوراء، وكلما يشمئز الجمهور من رقصهن إلا ويفقدن توازنهن ويسقطن على الركح، فيغادرن المسرح الى قاعات التجميل لإعادة الماكياج بغاية العودة تحت ثوب جديد؟ ألم يسخر الاقتصادي البريطاني Keynes، جراح أزمة «الحاجة موجودة ولكن المقدرة على الدفع مفقودة» التي أصابت اقتصاديات الغرب في ثلاثينات القرن ال20، من الذين لا يتعبون كثيرا إذ كل ما باستطاعتهم هو القول في فترة العاصفة «سوف يكون البحر هادئا عندما تمر الزوبعة؟ مع أن - سوف - تفيد الزمن البعيد، ونحن جميعا، على المدى الطويل، في عداد الأموات. وهل تعمل حكومات الربيع العربي على تلبية طموحات جماهيرها الملحة أم تطالب المحرومين والمهمشين بمزيد الصبر حتى تثبت أقدامها أولا في مواقع السلطة كما يحلو لها أم أنها لا تمتلك برامج لإنهاء التخلف؟ يتوقع صندوق النقد الدولي أن يتأرجح معدل نمو الاقتصاد العالمي بين 3 و4 بالمائة خلال فترة 2011 - 2013 نتيجة هبوط النشاط الاقتصادي في الدول الصناعية الكبرى «معدل النمو حوالي 2% مقابل 6 في % تقريبا في بقية اقتصاديات العالم»، بسبب أزمة السندات السيادية وفقدان الثقة في منطقة اليورو ومخاوف السوق بشأن استمرارية أوضاع المالية العامة في ايطاليا والبرتغال وأسبانيا واليونان، وانخفاض الطلب الخارجي من اقتصاديات الاتحاد الأوروبي ما يشكل تهديدا لصادرات البلدان النامية والصاعدة، إضافة لارتفاع أسعار الطاقة والمواد الأولية وتراجع النشاط السياحي في البلدان النامية وتزايد التقلبات الحادة في التدفقات الرأسمالية. وتتنبأ المراكز المالية الدولية والإقليمية أن يظل النمو ضعيفا والتعافي بطيئا والبطالة مرتفعة لفترة قادمة في الاقتصاديات المتقدمة عامة ولدى المستهلكين للعلوم والتكنولوجيا بوجه خاص، في وقت يسعى المجتمع الدولي الى مكافحة الفساد وغسيل الأموال حتى لا تقوض الاقتصاديات ويتزايد الفقر، والى مواجهة الإدمان على تعاطي المخدرات والتدخين والكحول لتجنب اضطراب الخلايا الدماغية والأمراض التنفسية والسرطانية، والى السيطرة على جملة من النزاعات وعلى معدلات الفقر والأمية والجوع المتنامية في عديد البلدان الآسيوية والإفريقية بوجه خاص كالصومال ورواندا وأفغانستان واليمن ومالي والعمل على إنجاح التحولات السياسية في بلدان الربيع العربي التي تمر بفترة كساد كبير ونسبة بطالة هي الأعلى حاليا في العالم نتيجة تزايد الانفلات الأمني وانتشار فوضى السلفيين الجهاديين وتضخم المطالب الاجتماعية الملحة والتباطؤ في تطهير المؤسسات القضائية والقانونية والإعلامية والشركات الاقتصادية والبنوك من الفاسدين وأصحاب المصالح والمطامع الشخصية واستمرار الضغوط المالية وفقدان النضج والمراس السياسي.
تعود جذور أزمة اقتصاديات العالم الحالية الى خريف 2008 عشية مغادرة بوش الصغير للبيت الأبيض، بوش الذي انتقم من الأفغان ودمر العراق تحت عنوان:« من ليس معنا فهو مع الإرهاب» غداة تحطيم أتباع بن لادن لمركز التجارة الدولية وضرب مقرات السيادة، انتقام لا يبتعد عن أسلوب ثأر قبيلة نيزار غداة مقتل كليب:« دعوناك يا كليب فلم تجبنا، فكيف يجيبنا البلد القفار - أجبنا يا كليب خلاك ذم، ضنينات النفوس لها نيزار»... وفي واشنطن غالبا ما تتخذ الخيارات الاقتصادية تحت موسيقي «عندما ينتعش قطاع البناء يسير الكل على ما يرام» لكن انتعاش قطاع السكن سرعان ما أدى الى اندلاع أزمات مالية وعقارية خانقة نتيجة انفجار فقاعات أسعار عدد من الأصول «مجموعة من الأسهم والمساكن» في خريف عام 2008 وتضخمت الشكوك حول قيمة أصول بعض البنوك مما أثار تساؤلات عما إذا كانت هذه البنوك ستتمكن من إقناع المستثمرين بتجديد قروضهم قصيرة الأجل، كما خفضت البنوك التجارية التي تواجه ظروفا صعبة في التمويل أنشطتها الائتمانية، فانخفضت الثقة لدى الأسر والمستثمرين وتراجع النشاط الاقتصادي العالمي وتدهورت الأوضاع في أسواق الشغل.. وتلك هي أحوال الرأسمالية، تتحول وتتغير، طورا تتطور الى الأمام وطورا تدخل فترة من الأزمات، وصناع القرار محكومون بدعمها في أوقات الصدمات والانكاسات بأموال دافعي الضرائب.. ظروف الانكماش هذه أجبرت الإدارات السياسية في الاقتصاديات المقدمة وعلى رأسها إدارة باراك أوباما الى التدخل في حلبة الاقتصاد، عبر حزمة من الحوافز، بدءا من خفض الضرائب على الدخول المتدنية والشركات التي تواجه صعوبات، وإعادة تأهيل الشركات الاقتصادية المنهارة، وتنشيط الاستثمار. إضافة الى إعادة هيكلة النظام البنكي وتيسير السياسات النقدية، بإجراء تخفيضات استثنائية في أسعار الفائدة، وضخ البنوك المركزية لما هو ضروري من السيولة لإزالة المخاطر المتعلقة بتجديد القروض المصرفية قصيرة الأجل، وحذف الأصول المتعثرة، وتسوية أوضاع البنوك التي لا تملك مقومات الأمان حتى تتمكن من استرجاع صحة أنشطتها الائتمانية. والهدف المشترك لدى واشنطن والأوروبيين هو البحث عن التعافي الثابت للاقتصاديات الصناعية وإعادة التوازن للاقتصاد الرأسمالي..
تدخلات الإدارات السياسية، والتي بلغت مستويات استثنائية في الاقتصاديات المتقدمة، عبر مجموعة من التدابير التنشيطية والإصلاحات الهيكلية من أجل كسر شوكة تراجع النمو والسيطرة على معدلات البطالة المرتفعة والحد من مسلسل إفلاس الشركات الاقتصادية والمؤسسات المصرفية، قادت في النهاية الى تفاقم عجز الميزانيات وارتفاع الديون السيادية، ما دفع مجل الإدارات السياسية في الاقتصاديات المتقدمة الى التعجيل بالتقشف المالي وتخفيض قروض التمويل البنكية. فبعد الانحناء تجاه خيارات اليسار «التشغيل والنمو» ها هي حكومات اقتصاد السوق تعود الى اليوم الى التمايل نحو خيارات اليمين «التقشف وإعادة هيكلة الهيكلة» فأعضاء الاتحاد الأوروبي ومع اعتماد ميثاق مالي للاتحاد باتوا اليوم ملتزمين بمعالجة مشكلات العجز والمديونية هذا ما يفسر اختيار أكثرية الحكومات الأوروبية سياسات الضغط المنخفض ما أدى الى دخول اقتصاديات منطقة اليورو في حالة من الانكماش النسبي بسبب سياسات التقشف المالي وأثار خفض قروض التمويل البنكية السلبية على النشاط الاقتصادي. فالسياسات المالية العامة التقشفية تحدث ارتفاع البطالة وتسرع انحدار النمو، كما أن تخفيض قروض التمويل المصرفية يدفع بدوره البنوك الى تضيق الخناق على أنشطتها الائتمانية، فيتراجع الاستثمار وينخفض النمو. والسؤال: هل تقلص الحيز المتاح لخيارات السياسية في الاقتصاديات المتقدمة في البحث عن الإصلاحات التي تساعد في الأجل الطويل دون أن تكبح النمو والتشغيل في الأجل القصير، أم أن عرض الرأسمالية قادر لوحده على تعديل الطلب؟
وفي الضفة الجنوبية للمتوسط تبع التحولات السياسية في بلدان الربيع العربي انكماش الاقتصاديات واختلال الحسابات وتدهور القدرة الشرائية وتزايد عدد الشباب العاطلين مع انتشار فوضى السلفيين... قد نبرر هذا الكساد وضخامة البطالة بعوامل خارجية كانخفاض نمو الاقتصاد العالمي وتراجع الطلب الخارجي من اقتصاديات منطقة اليورو وارتفاع أسعار الوقود، ولكن توجد عوامل رئيسية داخلية ساهمت بقسط كبير في انكماش اقتصاديات بلدان الربيع العربي لعل أهمها حالات الفوضى والانفلات الأمني التي أثرت سلبا على الاستثمار والسياحة، والإرث الثقيل للطغاة المخلوعين، إضافة لضعف المراس السياسي عند الحكام الجدد وتضخم المطالب الاجتماعية الملحة.. حتى أن حكومات بلدان الربيع العربي، ومع أنها تجابه ضغوطات مالية ونقدية كبيرة-ارتفاع عجز المالية العامة وتضخم الديون السيادية وانخفاض احتياطيات النقد الأجنبي مطالبة اليوم باتخاذ إجراءات سريعة وسياسات ناجعة وشفافة لا لتنشيط الاستثمار وحماية الفقراء والفئات الضعيفة وحسب بل وأيضا للبدء في مسار التحديث والديمقراطية وإعادة تحسين نظم الإدارة والتنظيم قصد تلبية تطلعات جماهير الثورة في التشغيل وتكافؤ الفرص والحرية والانتقال الديمقراطي.