أثار مشروع القانون التوجيهي الجديد حول التعليم العالي موجة من الجدل والحوار في مواقع عدة وفي ذلك ظاهرة صحية تنم عن حيوية القطاع من جهة وحيوية المؤسسات والرأي العام من جهة أخرى. ولايمكن للمرء إلا أن يكون مرتاحا للتناظر بإيجابية ملحوظة في مسألة وطنية هامة كهذه، فالتعليم الجامعي الذي كان يثير التساؤلات والمخاوف قبيل التحول أصبح احد الروافد الأساسية لعملة التنمية في عهد التغيير وشهد إصلاحات جوهرية شجاعة أقحمته في المنظومة العالمية المتقدمة للتكوين الجامعي، فعرفت سنة 1989 صدور القانون المنظم للتعليم العالي الذي وضع له الرئيس بن علي التوجهات الكبرى وشاركت مختلف الأطراف المعنية بالقطاع في إثراء مضامينه وصياغة ملامحه. وقد كرس ذلك القانون إصلاحات هيكلية جاءت لتواكب النهوض الفعال الذي شهده اقتصاد البلاد ونواحيها الأخرى الثقافية والاجتماعية ولتلبي كذلك حاجيات هذه القطاعات من إطارات ماهرة وكفاءات مختصة. وأقرت الخطة الإصلاحية مبادئ اللامركزية الجامعية وخيار التسيير الديمقراطي للمؤسسات وإرساء خارطة جامعية غطت كل جهات البلاد لاسيما عن طريق شبكة المعاهد العليا للدراسات التكنولوجية. وبدون الدخول في التفاصيل فإن النسق الإصلاحي للتعليم العالي أثمر مناخا من المشاركة الخصبة لمدرسي التعليم العالي وارتياحا شاملا في صفوف الطلبة والأولياء وتحسنا ملحوظا في نوعية التكوين ونسب النجاح، وتدعم المسار بصدور القانون التوجيهي حول البحث العلمي في جانفي 1996 وقد رسم الأهداف الأساسية وربط بين البحث الجامعي وتنمية الاقتصاد الوطني وضرورة مواكبة التقدم التكنولوجي في العالم. ولم تتوقف عمليات الإصلاح في التعليم العالي بالنظر إلى المتغيرات السريعة والعميقة التي يشهدها مثيله في العالم المتقدم وباعتبار التحولات الهيكلية التي حدثت صلبه وخاصة الجامعية وارتفاع عدد الطلبة، وتزايد الحاجيات من المدرسين، وهي تحديات حقيقية واجهتها المنظومة الجامعية بروح وطنية عالية والتزام كامل بالحفاظ على السمعة الرفيعة التي حظي بها التكوين الجامعي التونسي. وشهدت نهاية القرن العشرين بروز شبكات من المعاهد الحديثة تمنح تكوينا واعدا مثل المعاهد العليا للعلوم التطبيقية والمعاهد العليا للإعلامية والملتمديا والمعاهد العليا للفنون والحرف والمعاهد العليا للإنسانيات التطبيقية، وأصبح الهاجس الأكبر للتكوين الجامعي يتمثل في ضمان التكوين المتين والتشغيلية الحقيقية، ونشر ثقافة إحداث المؤسسات في مناخ اقتصاد صاعد. ولم تتخوف المنظومة الجامعية التونسية من تحدي العدد بل اعتبرته فرصة، ولم تتقوقع الجامعات بل انفتحت عل المحيط الاقتصادي، ولم ترتبك خيارات تونس بل دعت إلى التعلم مدى الحياة وبناء مجتمع المعرفة. وبعد مرور حوالي 20 سنة على انطلاق إصلاح التعليم الجامعي أبت تونس أن تعيد غفلة الدولة الوطنية الناشئة التي وضعت قانون التعلم سنة 1958 ولم يلحقه الإصلاح إلا في عهد التحول. وفي هذا السياق جاء مشروع القانون التوجيهي الجديد حول التعليم العالي ليواجه تحديات مستجدة كالجودة، والتقييم، والتأقلم مع نسق النمو الاقتصادي للبلاد. وقد سبقت هذا القانون مرحلة الانخراط في منظومة إمد مواكبة للهيكلة الجديدة للتعليم العالي في البلدان المتقدمة.وتقتضي روح الإصلاح والطموح الإقدام على تبني المفاهيم والآليات الحديثة للتكوين الجامعي التي تدعم الإطار المرجعي للمنظومة وترسي لها القواعد الفعالة. وقد حان الوقت لاعتماد نظام تقييمي موضوعي كفيل بضمان المستوى المطلوب للتكوين الجامعي وإدخال مزيد المرونة على التسيير والتصرف، وترسيخ اللامركزية الحقيقية وتحديد الأهداف الواضحة الرامية إلى تحقيق تشغيلة أرفع للخريجين بما يساهم في اندماج أيسر في سوق الشغل، وترابط أمتن مع حاجيات الاقتصاد والمجتمع، واعتماد أوسع على المعايير العالمية وفي ذلك تجاوب كامل مع التوجهات الإصلاحية في تونس. ولا يمكن للحوار حول هذا المشروع إلا أن يكون عامل إثراء وتعميق وهو دليل قاطع على أهمية القطاع ووعي الرأي العام الوطني برهاناته الهامة. ومن علامات الصحة والديمقراطية أن ينتظم يوم برلماني قصد الاستيضاح والنقاش والتحاور وفي ذلك مؤشر بليغ على حركية المؤسسة النيابية وترجمة وفية لعناية نواب الشعب بما يعرض عليهم من تشريعات ترسم ملامح المستقبل للأجيال التونسية المقبلة. وليس القانون التوجيهي الجديد سوى تكريس للتوجهات التي رسمها البرنامج المستقبلي لتونس الغد في مجال التعليم العالي والذي راهن على الطلبة واعتبرهم ثروة وطنية وعماد تونس المستقبل، وأكد على إرساء مجتمع المعرفة والتعويل على الأسرة الجامعية وفي مقدمتها الأساتذة والباحثون لتحقيق النقلة النوعية المنشودة. وقد حافظ هذا القانون على المكاسب ودعم الجامعة العمومية وجعل الطالب في صلب أهدافه لأن الغايات تتمثل في جودة التكوين وضمان تشغيليته وبلوغه مستوى أرقى في نطاق تفاعل حي مع المحيط الوطني. وإذا كان لابد من الحوار فليكن من أجل الارتقاء بمنظومة التعليم العالي إلى مراتب أعلى.