سؤال فرضته علينا الأحداث المتتالية والمواقف الغريبة في عالم السياسة لحكومة السيد حمادي الجبالي. وقبل الغوص في التفاصيل نشير إلى أننا نقصد بالمشروع الوطني الأهداف التي رسمتها الثورة للشعب من أجل تحقيق مجتمع مواطني ديمقراطي حر كريم تتساوى فيه الفرص ويخلو من الفساد؛ وهي مبادئ تتطلب وجود سلطة شرعية قوية تحترم فيها المؤسسات وتتكامل فيها السلط ويقوم فيها القانون.....فهل استجابت حكومة الجبالي لهذه الشروط؟ يبدو الجواب بالسلب قائما أكثر منه بالإيجاب فقد تتالت في الآونة الأخيرة مواقف مختلفة للحكومة أصبح معها مفهوم السلطة في حد ذاته مهددا وهو ما يجعل مناقشة الشرعية أمرا لا معنى له ،إذ الشرعية مفهوم مضاف لا غنى له عن المضاف إليه في كل الحالات ففي غياب السلطة يضيع الحديث عن الشرعية (المتوفرة في السلطة الحالية )؛ وفي غياب مشروعية الأفعال تصبح الشرعية هدفا للإسقاط من قبل المتضررين من فعل السلطة الشرعية أي المواطنين الذين يفتقدون إلى تساوي الفرص والحياة الكريمة والحرية. جملة المواقف التي نستند إليها في معالجة هذه القضية تتعلق بقضية تسليم البغدادي المحمودي وإقالة محافظ البنك المركزي وفتح الحدود للمواطنين المغاربة واعتماد قانون الإرهاب لمتابعة من وصفوا بمثيري الشغب ممن يشتبه في انتمائهم للتيار السلفي وبعض المنحرفين ، وهي مواقف تشترك في الجمع بين التصريحات المتناقضة بين مسؤولي الحكومة من جهة وبين مؤسسات الدولة. لن نناقش المواقف في حد ذاتها فهذا أمر يخرج عن إطار هذا المقال بل يهمنا منها تجلياتها في تهديد المشروع الوطني الذي تحدثنا عنه فالاختلاف بين رأسي السلطة التنفيذية في قضية البغدادي المحمودي مثلا كشفت عن بداوة سياسية لدى رجال الدولة الجدد لم تنقذهم منها تجاربهم الطويلة في النضال ضد الاستبداد ونقدهم لتعامله مع المؤسسات ولا حتى اعتذارهم بنقص التجربة في مجال الحكم لأن التعلم في الزمن المعاصر لا يحتاج إلى عبقرية خاصة في هذا المجال خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار محافظة الحكام الجدد على الجهاز الإداري القديم القائم المتمرس ببروتوكولات التعامل في مؤسسات الدولة وهو ما يجعلنا أمام النتيجة التالية :الحكام الجدد لم يتخلصوا من القديم ولم يستفيدوا منه أي أنهم فشلوا في أحداث القطيعة الثورية المطلوبة في بداية العهد الديمقراطي الجديد الذي تعيشه بلادنا وهو ما يعني أننا نعيش الثورة بعقول رجعية بما أن الفاسدين يتحكمون في الإدارة إلى حد الآن. إقالة محافظ البنك بدورها عمقت هذه البداوة فقد جاء قرار الرئاسة رد فعل على قرار الحكومة تسليم البغدادي المحمودي ثم جاء تصريح الوزير رضا السعيدي المكلف بالملفات الاقتصادية رد فعل على رد الفعل وهو ما يعني أننا إزاء سلطة منفعلة وليست فاعلة بما يعني افتقادها للمبادرة ولا يمكن لسلطة مهما كانت شرعيتها أن تستمر إذا لم تكن مبادرة فاعلة لأن السلطة هي الامتلاك الشرعي للقوة (وليس العنف) وقوة الدولة في وضوح رؤاها المحددة لمواقفها وهو ما غاب في الموقف من القضية المغاربية إذ جاءت تصريحات وزير الخارجية التي نقضت ما أعلنه كاتب الدولة للخارجية رد فعل بدورها عن موقف قوي من السلطة الخارجيّة التي تحللت من الموقف أحادي الجانب من السلطة التونسية. أما موقف تفعيل قانون الإرهاب فيكشف عن عدم احترام رجال الدولة الجدد لذاكرة الدولة والمجتمع من جهة ويبدع لنا تقليدا جديدا في الممارسة السياسية ملخصها الدور الجديد لمستشار الوزير الذي على خلاف كل المستشارين في العالم يعبر عن مواقف ويتخذ قرارات أكثر من الوزير نفسه فالمكلف بمهمة لدى وزير العدل أعلن انه سيفعل قانون الإرهاب ضد مثيري الشغب ناسيا أن رجال الدولة الجدد قضوا عشرية كاملة من الزمن في محاربته إلى جانب كل حقوقيي العالم ليصعد في ما بعد وزير حقوق الإنسان فيتبرأ من هذا الموقف. هذه الإرباكات المتتالية و المواقف المتناقضة من شانها أن تلقي بظلال الشك في نفوس المواطنين حول نجاح المشروع الوطني الذي قامت عليه الثورة بما أنها مواقف تضعف من حضور السلطة والدولة في الفعل المدني والسياسي وهو حضور لابد منه لنجاح أي مشروع . فهل تدرك حكومة السيد حمادي الجبالي هذه الخطوط الحمراء؟ وهل تتراجع عن ملامستها؟