هل يمكن أن نتخيل ذلك، وهل يمكن أن نعيش يوما بلا صحف، يوم تصمت فيه الاذاعات وتغيب فيه الفضائيات وتصوم فيه مختلف وسائل الاعلام عن الكلام المباح، ونقل الاخبار التي يتوق لها العامة والخاصة؟ قد يكون من الصعب ان لم يكن من المستحيل مجرد تخيل الامر في عالم بات فيه الاعلام ركيزة أساسية في نشاطات المجتمعات، دون أن ننسى المواقع الاجتماعية أو الفايسبوك الذي بات يهيمن على حياتنا جميعا ولا سيما أنه كان أشبه بالمحرك الحيوي لمختلف الثورات الشعبية التي شهدتها وتشهدها الدول العربية وطريقة للتواصل وشحذ عزيمة الشعوب الثائرة على الظلم والفساد. ومع ذلك فقد تحول الامر الى حقيقة حين اختارأهل القطاع -فيما يوصف بمهنة المتاعبة في مالي- الامتناع قبل أيام عن العمل، ليس احتجاجا على ضعف الاجور أو للمطالبة بمنح اضافية أو غير ذلك من المطالب الامنية، ولكن من أجل هدف واحد أجمعت الصحف والاذاعات والمؤسسات الاعلامية عليه، واتفقت في خطوة نادرة قلما تتحقق في بلد مثل مالي عن الصدور ليوم واحد، وذلك من أجل تسليط الاضواء على الانتهاكات المتكررة التي تستهدف الاعلام والاعلاميين في هذا البلد، وبالتالي العمل على اثارة واستقطاب اهتمام الرأي العام وتوعيته بحجم الخطر الحاصل في مالي الذي بات يعرف ببلد الفقر والانقلابات، مع انتشار الجماعات المتطرفة المسلحة في شماله وامتداد تداعياتها وانعكاساتها على أكثر من بلد في المنطقة. مسيرة الصحافيين والناشرين وحتى السياسيين والنشطاء في مالي التي اتجهت الى مقر رئيس الوزراء الانتقالي حاملة لافتات تقول «لا لفرق الموت» و»لا لعمليات الخطف والاعتداءات على الصحافة» طالبت بصوت واحد وقف الاعتداءات الهمجية على رجال الاعلام بعد أن امتدت في الآونة الاخيرة الى اقتحام قاعات التحرير وغرف التسجيل من قبل المسلحين الذين باتوا لا يترددون -ومنذ الاطاحة بالرئيس امادو توماني توري في مارس الماضي- عن استعراض عضلاتهم في مختلف أنحاء البلاد وترهيب الجميع.. كل ذلك في وقت يستمر فيه عجز السلطات الانتقالية عن مواجهة المجموعات المسلحة التي تحتل شمال مالي.. قد لا تستهوي هذه الطريقة الاحتجاجية المالية الكثيرين ممن قد يرون أن رسالة الاعلام في خدمة الرأي العام رسالة مقدسة لا يمكن أن تتوقف حتى في أحلك الفترات ولا يمكن أن تدخل بالتالي في لعبة المساوامات والمقايضات, ولكن الحقيقة أن في توقف مختلف وسائل الاعلام عن النشاط والصدور في نفس اليوم في مالي وبرغم كل ما يمكن أن يكون له هذا التحرك من اشارات سلبية حدث حمل في طياته رسالة مزودجة للداخل كما الخارج وحاول بهذا الصمت المقصود أن يطلق صرخة فزع مكتومة وأن يدق ناقوس الخطر المغيب في اجندات صناع القرار بشأن مختلف المخاطر الامنية المتفاقمة في هذا البلد الافريقي مع تواتر الانباء حول تزايد نفوذ شبكة القاعدة في المغرب الاسلامي وتفاقم محاولات التأثير واستقطاب تلك الفئة المهمشة والتائهة من الشباب الباحث عن فرص للحياة في خضم موسم الربيع العربي المتأجج والتنبيه الى تفاقم نفوذ التحالف من أجل اعلان امارة اسلامية على غرار امارة طالبان في المنطقة وذلك بعد أن ساهمت عودة الالاف من المقاتلين المسلحين والمقاتلين الطوارق اثر سقوط نظام القذافي في الاستقرار شمال مالي.. قد لا يختلف اثنان اليوم في أن المشهد الراهن في مالي مرشح لاكثر السيناريوهات خطورة وتعقيدا في بلد مرهق سياسيا واقتصاديا وأمنيا واجتماعيا بل الواقع أن مشروع قرار الاتحاد الافريقي بنشر قوات افريقية في اطار البند السابق قد لا يعني القليل أوالكثير في مرحلة يتجه فيها اهتمام المجتمع الدولي الى التحولات المتسارعة في سوريا وما يمكن أن تؤول اليه في الساعات القادمة, واتفاق المجتمع الدولي بشأن مالي لن يكون بالامر المحسوم سلفا في منطقة شاسعة من غرب افريقيا حيث الجوع والفقر والتخلف سيد المشهد وحيث يتندر الملاحظون بأنه بلد بامكان الضابط الذي يستيقظ فيه مبكرا أن يقود انقلابا عسكريا على السلطة القائمة وأن يعلن نفسه قائدا للبلاد...