وزيرة العدل توضّح موقف الوزارة من المحاكمة عن بعد والعقوبات البديلة    وزيرة العدل: أكثر من 63 ألف منتفع بقانون الصلح في قضايا الشيك دون رصيد... وتراجع عدد المساجين إلى 222 فقط    فرع قابس لرابطة حقوق الإنسان يدعو الى إعلان قابس منطقة منكوبة ويطالب بالوقف الفوري للوحدات الملوثة    نجاح أول عملية دقيقة لاستئصال ورم كبير في المستشفى الجهوي بالمتلوي    ليلى جفّال: أكثر من 63 ألف مستفيد من قانون الشيكات    بطولة النخبة لكرة اليد: نتائج مباريات الجولة الرابعة عشرة    ميزانية وزارة السياحة 2026...كيف سيتمّ توزيعها؟    عاجل/ أول رد لوزيرة النقل على ما راج بخصوص اضراب المساجين السياسيين..    الرابطة المحترفة الثانية (الجولة التاسعة): نتائج الدفعة الاولى والترتيب..    رأي: الإبراهيمية وصلتها بالمشروع التطبيعي الصهيوني    تحسّن ملحوظ في جودة زيت الزيتون مقارنة بالموسم الفارط    في مهرجان الأردن المسرحي: مسرحية «عطيل وبعد» تحصد 3 جوائز    أخبار النادي الصفاقسي: بن علي يعود وتصعيد خطير في ملف التحكيم    تدشين مركز تثمين التراث بشنني    سيدي بوزيد .. انتفاع 20 امرأة بموارد رزق    مع الشروق : خيارات الشراكات الاستراتيجية    بن عروس .. .مظاهر مزرية بمحيط معهد ابن منظور    الأمطار المتساقطة في تونس أقلّ من المعدّل المعتاد    ألعاب التضامن الاسلامي (الرياض 2025): برونزية لمحمد أمين الزغلامي في التايكواندو    بورصة تونس تحتل المرتبة الرابعة على مستوى البورصات العربية    كاس افريقيا للامم للرقبي السباعي للسيدات بكينيا: المنتخب التونسي يلاقي اوغندا في ربع النهائي    الفن والأدب واللغة والسلطة موضوع ندوة فكرية بكلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة    هواتف ومواد تجميل وقطع غيار السيارات: هذا ما تحجزه الديوانة في تونس    زيادة ب41 مليون دينار في ميزانية وزارة العدل... وين بش تمشي الأموال؟    مختصون في الصحة: المضادات الحيوية جائحة صامتة    عاجل يهمّ كل التونسيين: عودة خطّ الحافلة رقم 29    المعهد الوطني للرصد الجوي: أكتوبر 2025 أكثر حرارة من المعدل العادي    احباط تهريب كمية من الكبد الحيواني المجمّد..خبر_عاجل    قنبلة الصين الجديدة.. جيش التحرير يفاجئ العالم بسلاح غامض    خطة لاستفزاز زعيم كوريا الشمالية عبر طائرات مسيرة سرية.."باءت بالفشل"    البرازيل: رفض استئناف بولسونارو ضد حكم سجنه 27 عاماً    المجلس الجهوي لهيئة الصيادلة بالجنوب ينظم الايام الصيدلانية 28 بالجنوب بمدينة دوز من 19 الى 21 ديسمبر 2025    وراء الكواليس.. وثائق جديدة للكونغرس تفضح تواصل علاقة إبستين مع النخبة العالمية بعد إدانته    معهد الإحصاء: النشاط الإقتصادي يسجّل نموّا بنسبة 2،4 بالمائة    الكافيين...وقتاش يتحولّ التاي والقهوة لخطر على صحتك؟    مباراة ودية: تشكيلة الترجي الرياضي في مواجهة الإتحاد العسكري الليبي    وزير التجارة: التونسي أصبح يجد كل المنتجات على مدار السنة..#خبر_عاجل    بسبب التأشيرة: هؤلاء اللاعبين يتخلّفون عن مباراة تونس والبرازيل في فرنسا..#خبر_عاجل    عاجل/ وزير التجارة يكشف عن آخر الاستعدادات لشهر رمضان    تحكيم تونسي في قلب نهائي المونديال: شوفوا الاسماء الحاضرة    طقس السبت : هكّا بش تكون الاجواء    عاجل : لأول مرة ...منظمة الصحة العالمية تكشف عن أخطر الأمراض المعدية    هذا ما تقرّر ضد 4 فتيات اعتدين بالعنف على تلميذة في سيدي حسين..#خبر_عاجل    ترامب يعلن أنه سيناقش "اتفاقيات أبراهام" مع بن سلمان بالبيت الأبيض    عاجل: سعيّد يحمّل المسؤولين مسؤولية 'المرحلة' ويؤكّد : لا تسامح مع الإخلال بالواجب    بمشاركة "دلتا".. الجيش الأمريكي بانتظار "ساعة الصفر" لضرب فنزويلا    هيئة الانتخابات تنظم تظاهرات بالمدارس والمعاهد في الجهات لتحسيس الناشئة بأهمية المشاركة في الانتخابات    السويد: قتلى ومصابون في حادث اصطدام حافلة في ستوكهولم    توافق إفريقي بين تونس والجزائر والسنغال والكونغو حول دعم الإنتاج المشترك وحماية السيادة الثقافية    شوف وقت صلاة الجمعة اليوم في تونس    يتسللان الى منزل طالبة ويسرقان حاسوب..    عاجل: وزارة التربية تفتح مناظرة نارية...فرص محدودة    الجزائر: 22 حريق في يوم واحد    ''حُبس المطر'': بالفيديو هذا ماقله ياسر الدوسري خلال صلاة الاستسقاء    الجمعة: الحرارة في ارتفاع طفيف    كم مدتها ولمن تمنح؟.. سلطنة عمان تعلن عن إطلاق التأشيرة الثقافية    ديوان الافتاء يعلن نصاب زكاة الزيتون والتمر وسائر الثمار    عاجل : وفاة المحامي كريم الخزرنادجي داخل المحكمة بعد انتهاء الترافع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«وطن الدولة» و«أوطان القبائل»
نشر في الشروق يوم 22 - 06 - 2011

كيان اعتقد الكثير ممن روج لتلك الحداثة المزيفة القائمة على الاستبداد السياسي والفساد المالي والعقاري المترجم اقتصاديا إلى اختلال في توزيع الثروة بين الجهات، أنه قد تداعى وتهالك إلى غير رجعة تحت ضربات «التحديث الاستعماري» بوصف القبيلة قوة مقاومة، ومزاعم التفكيك الذي ادعته دولة الاستقلال وما تلاها لمختلف البنى القرابية والدينية التقليدية، فإذا بذلك الكيان المسمى القبيلة والذي يروج له الإعلام باسم العروشية ينبعث من تحت الرماد كطائر الفينيق. إذا بمفهوم الوطن يعود إلى نشأته الأولى «وطن الهمامة»، «وطن الفراشيش»، «وطن ماجر»، «وطن بني زيد»، «وطن ورغمة».. هي أوطان القبائل كما كانت تتعامل معها على سجيتها الأولى الدولة العثمانية وسليلتها الحسينية، وقد كانت تلك المعاملة تعتمد منطقا واحدا إن «أوطان القبائل» هي «أوطان مجبى» لا أكثر ولا أقل، ولا تلتزم تجاهها بأي التزام بما في ذلك حمايتها من اعتداءات المجموعات المجاورة. وانطلاقا من تلك الأوطان في وجودها الحقيقي أو في رمزيتها التاريخية عرفت تونس الانتفاضة وراء الانتفاضة والثورة تلو الثورة بداية من سنة 1864 وإلى اليوم (ثورة بن غذاهم 1864 ، انتفاضة القبائل المسلحة سنة 1881 بقيادة علي بن خليفة النفاتي، انتفاضة الفراشيش 1906، ثورة الودارنة سنة 1915، انتفاضة المرازيق 1944، الثورة المسلحة طيلة فترة الخمسينات ضد الاستعمار الفرنسي والمقاومة اليوسفية المسلحة ومحاولة انقلاب 1962 ، عملية قفصة المسلحة 1980، انتفاضة الخبز 1984 انطلقت من المرازيق في دوز، احداث الحوض المنجمي 2008، أحداث بنقردان 2010 ،انتفاضة سيدي بوزيد 17 ديسمبر 2010 والقصرين 12 جانفي 2011 لتتحول إلى ثورة 14 جانفي 2011..).
ولما جاء الاستقلال اعتقد أبناء تلك «الأوطان» أن زمن «أوطان القبائل» قد ذهب فعلا إلى غير رجعة وقد حل محله «وطن الدولة الواحد» كاستجابة لما تشترطه تلك الدولة في نشأتها من وحدة جغرافية وسلطة لممارسة السيادة وما تضمنه من تمكين لحقوق الأفراد الذين بات يُصطلح عليهم المواطنون بدل الرعايا(القطيع)، وأرضية كل ذلك هو التوزيع العادل للثروة وللمشاركة في السلطة وتوفير الحماية الأمنية وهي الوظيفة التي كانت تؤمّنها القبيلة بامتياز. لكن أحداث المتلوي أثبتت أن القبائل تنازلت مؤقتا عن قبليتها لكن الدولة أو هم القائمون عليها طيلة نصف القرن الأخير لوحوا بنهاية القبلية والعروشية لكنهم استمروا في ممارستها واستغلالها في الصراع على مواقع النفوذ داخل الحزب الحاكم المنحل ومؤسسات الدولة كما واصلوا في الاحتكام إليها في السياسة الاقتصادية والمنوال التنموي المعتمد مما جعل من المناطق الداخلية للبلاد بما في ذلك منطقة الحوض المنجمي، تكون الأكثر فقرا وتخلفا بالرغم من الريع الطبيعي الذي تتمتع به سواء تجسد ذلك في الثروة المنجمية أو الفلاحية، دون أن تستثمر المداخيل المتأتية من تلك الجهات في تنميتها تنمية حقيقية تحول دون تفجر مثل تلك الصراعات الدامية التي عشناها في الأيام الأخيرة والتي قد نعيش نظيرا لها لاحقا في مناطق أخرى في الجنوب التونسي أو حتى في شماله بسبب فقرها المدقع المتوازي مع بنيتها القبلية التقليدية. لقد بينت الصراعات القبلية ما كنا وقفنا عليه في خلاصة أبحاثنا في السنوات الأخيرة من أن القبيلة لم تتفكك كما اعتقد البعض (انظر مؤلفنا مجتمع القبيلة، المغاربية للنشر، 2006 ، 500ص) وإنما أخذت أشكالا جديدة في الظهور فهي لم تغب البتة عن المؤسسة السياسية وآليات اشتغالها وعن جمهور ملاعب كرة القدم وعن وعي الأفراد لاسيما في الإدارة التونسية وغير ذلك من المظاهر القبلية التي تُمارس دون أن يقع الحديث عنها لأنها من المحرمات في الثقافة السياسية السائدة، حتى أن الدراسات المتعلقة بالقبائل والمجموعات وكافة مستويات الانتماء التقليدي كانت ضمنيا غير مقبولة في الأوساط الأكاديمية ولم يرفع عنها التحريم إلا بعد دخول الجامعة أجيال من الباحثين هم في حل من الإرث السياسي البورقيبي الذي يحمل عقدة تجاه القبائل نظرا لانحياز أغلبها إلى اليوسفية والمقاومة المسلحة الرافضة لاتفاقيات الاستقلال الداخلي والاستقلال التام، وهو الاتجاه الذي تُرجم أكاديميا وبحثيا.
لقد نبهتنا الدراسات التاريخية ثم الأعمال السوسيولوجية إلى أن منطقة الحوض المنجمي بما في ذلك المظيلة كانت ولا تزال تعيش على أرضية قبلية وأن فضاء العمل الوحيد هناك هو المناجم ويقع تقاسمه قبليا وفق مبدأ المحاصصة بين المجموعات بحسب قوتها العددية. وهذا النظام سائد منذ أيام «الدولة الحامية» التي بدأت في استغلال مناجم الفسفاط سنة 1897 واستمر في ظل دولة الاستقلال وما تلاها. وهو نظام متفق عليه بين قبائل المنطقة وعروشها ويخضع لنوع من التعاقد غير المدون، تلتزم به الهياكل النقابية المنجمية منذ ظهورها في ثلاثينيات القرن المنصرم مع النقابات الفرنسية ثم النقابات التونسية لاحقا. وإن سد الشغورات المتأتية من تقاعد البعض أو وفاتهم وكذلك الانتدابات الجديدة التي تقوم بها الشركة كانت تخضع لتلك الآلية، وهي آلية قبلية دون شك وقد استطاعت أن تخترق «مؤسسات دولة الحداثة» الاقتصادية والسياسية والنقابية. ولم تختل تلك الآلية إلا عندما حاولت الشركة تعويض منطق المحاصصة القبلية بنمط يقوم على إعطاء الفرصة لأبناء الجهات الأخرى في العمل وهذا هو السبب المباشر في انفجار مشكلة الحوض المنجمي بالرغم من أنه منطق سليم إذا كان توزيع الثروة بين الجهات عادلا وغير مختل. فقد استفاق أبناء الجهة على أن الدولة تريد أن تنزع منهم الحق التاريخي الذي اكتسبوه دون أن توفر لهم بديلا تنمويا موازيا يحد من البطالة والفقر والتهميش. لكن احتجاج أبناء منطقة الحوض المنجمي بأكملها بقي تحت السيطرة طيلة السنوات الممتدة من 2008 إلى نهاية 2010 لأن مؤسسات الدولة لا تزال تحافظ على نوع من القوة الردعية والزجرية وهي من طبيعة الدولة. لكن الأمر سيتغير بعد الثورة مباشرة لأن تلك المؤسسات لم تعد قادرة على القيام بوظيفتها بسبب تعطلها عن العمل وضعف آدائها أو حتى تفككها، وهنا تتأكد المقولة السوسيولوجية كلما تفككت الدولة أو مؤسساتها فستحل محلها القبيلة، ولقد برز ذلك في أكثر من دولة عربية تعيش تجارب مشابهة متأتية من الانتفاضات والثورات والحروب، كانت وإلى الأمس القريب تبدو متجانسة متمدنة حداثية.
إن الأمر لا يتعلق بمعادلة أخلاقية كما يحاول البعض الترويج لها تستوجب الوعظ والإرشاد والإدانة(مواقف الأحزاب) أو البكائيات ودموع التماسيح التي يذرفها بعض المتنفذين وأصحاب المصالح الذين يعيشون على امتصاص دماء الآخرين، ووجوه شاشات البلازما الذين يستثمرون مشاهد القتل والاعتداء والحرق دون أن يتحولوا إلى صوت يقول كلمة حق لفائدة هؤلاء المعدمين الذين يتقاتلون على فتات موائد السادة الأجلاء.. إن الأمر أعمق من ذلك بكثير، فنحن أمام سياسات تنموية فاشلة قامت أساسا على المحاباة بين المناطق، مما يستوجب لفت النظر إلى أن الجهات المحظوظة الممتدة على طول السواحل التونسية وكذلك بعض المناطق الداخلية التي تعيش من مداخيل الهجرة لها بنيتها القبلية والعروشية ولكن القبائل هناك في حالة كمون لأنها أقل تأثرا بالأزمة المتأتية من المنوال التنموي ومن الخيارات الاقتصادية القائمة على الإصلاح الهيكلي والتأهيل الشامل وتفكيك مؤسسات الدولة وبيعها الذي أغرق البلاد في الديون وجعلها عاجزة على بناء تنمية اقتصادية ذاتية ومستقلة. ولا نعتقد أن القبلية في الساحل والجنوب والشمال ستبقى نائمة إذا استمرت الأزمة الاقتصادية على ما هي عليه أو إذا تفاقمت أكثر لاسيما في ظل عدم التعويض على الموارد التي كانت تتدفق من ليبيا لفائدة الشركات الاقتصادية والبنوك والمؤسسات الصحية وحتى الأفراد على حد سواء. إن رسالة المتلوي للدولة في نهاية الأمر أن لا فرق في الانتماء إلى «وطن الدولة» بين الجميع، أو هو «وطن القبيلة» لا تزال رمزيته قائمة، وترجمة كل ذلك هو التوزيع العادل للثروة والسلطة بين الجهات والمناطق.
٭ د.سالم لبيض (أستاذ علم الاجتماع السياسي جامعة تونس المنار)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.