(تأليف الدكتور محسن عبد النّاظر) تنشر «الصباح» طوال شهر الصيام المبارك فصول كتاب «النّظر الدقيق في سيرة الرّسول محمّد- صلّى الله عليه وسلّم من القرآن الكريم» الصّادر عن شركة المنى للنّشر لمؤلّفه الدكتور محسن عبد الناظر. والدكتور محسن عبد الناظر أستاذ متميز بجامعة الزيتونة وعضو المجلس الاسلامي الأعلى له عديد المؤلفات في السيرة والهدي النبوي.
"الصّباح" تشكر الدكتور محسن عبد الناظر باتاحته هذه الفرصة لقرائها لكي يطلعوا على قيمة أحدث مؤلفاته... الحلقة الثانية الباب الأول: العهد المكّي الفصل الثاني: نزول الوحي ومراحل تبليغه بمكة نزول الوحي أول مرّة أجمعت الأخبار على أن الرسول (ص) تلقى الوحي أوّل مرة وهو بغار حراء وكان عمره أربعين سنة، وأن أوّل مانزل عليه قوله تعالى «اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علّم بالقلم علّم الانسان ما لم يعلم» (العلق 5.4.3.2.1) ومن الأحاديث التي أوردت ما دار بين جبريل عليه السلام والرسول (ص) لما أنزلت عليه الآيات المتقدمة حديث عائشة رضي الله عنها وجاء فيه أن الرسول (ص) قال لما نزل عليه قوله تعالى «اقرأ» «ما أنا بقارئ» وتكرر الأمر ثلاث مرات وقيل له في الأخيرة «اقرأ باسم ربّك الذي خلق» وركّز شرّاح الحديث وغيرهم على أن الرسول (ص) لم ينزل عليه وحي قبل ذلك، فكيف يطلب الله منه أن يقرأ قبل أن ينزل عليه كتابا أو صحيفة؟ وكيف يأمره بالقراءة وهو يعلم أنّه أميّ، ألا يكون ذلك تكليفا بما لايطاق؟ واذا وجدنا اجابة للسؤالين فما هو مستوى القراءة التي أمر بها الرسول؟ أجاب المبحث عن هذه الأسئلة مبينا أن: 1- من معاني القراءة في اللغة العربية : الجمع والتبليغ 2- استعمال الأمر لطلب الاستعداد وارد في العربية 3- الله تعالى قادر على أن يكسب الأنبياء أجهزة خاصة بهم فقد يخلق فيهم أجهزة يتلقون بفضلها الوحي ويتعلمونه ويحفظونه ويبلغونه متى يؤمرون بذلك. بهذا الفهم يكون أول أمر تلقاه الرسول هو الاستعداد للعلم لا لمجرد القراءة التي قد يتبعها علم وقد لا يتبعها. فهدي الرسول وتدربه على وسائل التفكير والتدبر بدأ منذ طفولته وتأكدا ونموا عند شبابه وبرزا في كهولته، وسيتعمقان ويكتملان بالوحي الذي نزل عليه وهو بغار حراء وسيتواصل نزوله ثلاثا وعشرين سنة ثلاثة عشرة منها بمكة وعشرا بالمدينة، وستظهر آثارهما في تعامله مع الأحداث ومع المواقف وفي منهجه في تبليغ الدعوة. مراحل تبليغ الدّعوة بمكة : الإعلام المجرّد اتفق العلماء على أن الرسول (ص) لما نزل عليه الوحي أول مرة خاف واضطربت قواه البشرية ورجع الى بيته وعلامات الجزع متمكنة منه وأعلم زوجه خديجة بما حصل له ولم يطلب منها أن تكتمه فأسرعت وذهبت معه الى ابن عمّها ورقة بن نوفل وكان شيخا عارفا باليهودية ومتبعا دين عيسى عليه السلام فدل ذلك على أن الله لم يأمر الرسول بكتم خبر نزول الوحي عليه ولم يأمره بنشره ومطالبة الناس بتصديقه وعلى أن خديجة تصرفت بحكمة فهدأت روع الرسول (ص) ثم انطلقت معه لاستشارة من له علم بالوحي الالهي وعرف بالتدبر والحكمة. أعان ماصدر عن ورقة بن نوفل قوى الرسول البشرية على التأكد من أن مانزل عليه تلقى مثله موسى وعيسى عليهما السلام وأنه ليس من آثار القوى الغيبية الشريرة، هذا بالنسبة الى الرسول (ص) أما خديجة رضي الله عنها فزادها ماسمعته من ابن عمها اكبارا لزوجها وتصميما على الوقوف الى جانبه والتصديق بما تسمعه منه وبذلك كانت أول الناس ايمانا. نقل الاخباريون وغيرهم روايات استنتج منها بعض الباحثين أن أول مرحلة من مراحل تبليغ الدعوة اتسمت بالسرية، تتتبع البحث هذه الروايات فاستنتج: لم يكن الاختفاء خطة تعتمد السرية وترصد الفرص وانما كان تدبيرا سياسيا يدل على حكمة وتعامل مع الآخر بطريقة تتجنب استفزازه واثارة قواه العدوانية وتعتمد المرحلية فالاعلام يسبق التكليف والأصول تتقدم الفروع وهذه الطريقة قارة في الاسلام. مرحلة السرية التي أطلقها بعض المهتمين بمراحل نشر الدعوة على السنوات الأولى التي تلت نزول الوحي بغار حراء هي في الحقيقة مرحلة الاعلام المجرد أي الذي لا يكون فيه أمر ونهي وتكليف. ستكون قوى الرسول البشرية في هذه المرحلة وفي كل مراحل حياته يقظة ومتخذة الأسباب وملتزمة بحدودها فلما نزل عليه قوله تعالى «إنّا سنلقى عليك قولا ثقيلا» استعدّ لتحمل هذا الثقل، فكان يعمل على حفظ ما ينزل عليه، فيردّده حتى يحفظه فكان «يخشى أن يتفلت منه» كما قال ابن عباس،فنزل عليه قوله تعالى «لاتحرّك به لسانك لتعجل به.إنّ علينا جمعه وقرآنه.فإذا قرأناه فاتبع قرآنه» (القيامة 18-17-16) كان الرسول (ص) وهو يتلقى الوحي يبذل جهدا ليحفظ ما يأتيه من علم ويقترن هذا الجهد بخوف خاصة في أول البعثة حيث كانت آثار ما ينفقه من قوى ومايحدث في باطنه من تفاعل تظهر عليه ويشاهدنا الحاضرون فاعلمه الله أنه سييسر له حفظ ما ينزل عليه وسيكسبه القوى المناسبة لتلقي القران وحفظه وجمعه وتبليغه، كان الرسول (ص) في حاجة الى هذا الاعلام الذي يجمع بين قدرة الله على الخلق والابداع وبين فضله على الرسول والالطاف التي حقه بها والخصائص التي وهبه اياها ومنها ميزة تلقي العلم الأعلى بطريقة تجمع بين الاجهزة البشرية وبين مايخص الله به الأنبياء من قدرات لايعلمها الا هو الا أن آثارها يراها البشر فقد خاطب الله نبيه في سورة الأعلى فقال له «سبّح اسم ربك الأعلى.الذي خلق فسوّى والذي قدّر فهدى والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى سنقرئك فلا تنسى الا ماشاء الله إنّه يعلم الجهر ومايخفى»(الأعلى 17). سيشعر الرسول (ص) في فترة الاعلام المجرد بالضيق والحزن خاصة عندما تصدر عمن سمعوا ببعثته وكانوا يرصدون اخباره مواقف فيها استهزاء واستنقاص كما وقع من الذين فرحوا واظهروا الشماتة لما لاحظا أن جبريل لم ينزل عليه أياما فنشروا في الناس أن اله قلاه وتخلى عنه، فانزل الله «سورة الضحى» ليفنّد أقوال المشركين، وليبيّن أن فرحهم سراب فالله يبشر رسوله بخر الدنيا والآخرة فسيعطيه فيهما مايرضيه وسيعينه على أداء الرسالة التي كلفه بها وييسر له التغلب على العقبات التي تعترضه والقوى التي تعاديه فما جاء في السورة من اعلام موجه الى الرسول (ص) لشد أزره وابعاد الضيق عنه، موجه أيضا الى كل الناس ليدركوا أن الله تعالى سينصر الرسول ومن معه ويهزم المشركين ومن يناصرهم وفي القرآن آيات لايختلف هدفها عن سورة «والضحى» ففي سورة «الشرح» تذكير بما من الله به على رسوله حتى يتغلب على ما يشعر به من ضيق ومن حرج ومن ثقل للمسؤولية التي كلفه بها فقد شرح له صدره حتى يجد الراحة والطمأنينة وحتى يتقبل العلم المنزل وحتى يتعامل مع الناس وهو متيقن من أنه على الحق وان الله ينصره وأنه أكسبه أجهزة وقدرات خاصة بالنبوّة فهي وان لم تلغ أجهزته وقواه البشرية الا أنها تحقق لها العون الالهي الذي لايستطيع أحد أن يبلغه الا اذا كان من المصطفين الأخيار. شاع مانزل على محمد (ص) من وحي في أهل مكة واختلفت منه المواقف فمن مصدق متيقّن من رجاحة عقل محمد (ص) ومن أمانته وترفعه عن الكذب وسوء الخلق وطلب الشهرة والجاه الى مكذب جازم بأن العقل والعادة يسفّهان مايدّعيه ويفضحان ما يصبو اليه من زعامة ومن شهرة وبين هؤلاء وأولئك من يقف مترقبا ممسكا عن التصديق ومتجنبا الجهر بالتكذيب فمتى ينتقل الاعلام المجرد الى اعلام فيه تكليف وأمر ونهي.