يقولون: "لم يتغير شيء في ليبيا إلا العلم والنشيد، وإن المجلس فاشل والحكومة فاشلة"، وأنا شخصيًّا أقدر للمواطن الذي يعاني في مسكنه غير اللائق صحيًّا، وكل أمانيه أن يحصل منذ أول يوم في الثورة على بيت آدمي له ولأسرته، وأقدر أيضًا الشباب الذين يبحثون عن العمل لبناء مستقبلهم وتكوين أسرهم الجديدة، وهم أيضًا يعتقدون أنه منذ أول يوم في التحرير سيحصلون على فرصة عمل لائقة. نعم، أنا أقدر كل ذلك، وكان يفترض على الإدارة الانتقالية أن توضح باستمرار للناس كيف أن هذه الأمور تحتاج إلى وقت، وأنهم يسعون لوضع البرامج التي سيتم من خلالها تحقيق كل هذه المطالب الإنسانية المشروعة وغيرها من تحسين التعليم والصحة والبنية التحتية بكل فروعها المعروفة. لكن يا سادة ما شهدناه جميعًا يوم 8 أوت المنقضي كان عملاً رائعًا يجسد على أرض الواقع فهْم وإدراك هذا الشعب لحقه الذي استرده بعد اغتصابه من قبل فئة ظالمة طيلة أربعين عامًا، والثورة الشعبية العارمة وإصرار الشباب وكل الليبيين والليبيات على تحقيق النصر لهذه الثورة وحملهم السلاح من أجل رد عدوان قوى الظُلم والطغيان، وانتصارهم عليها بعون من المولى عز وجل، الذي ثَبّت أقدامهم وهيّأ لهم الأسباب التي أدت إلى النصر المبين. ثم العمل الرائع الذي أذهل العالم في يوم 7جويلية 2012 حين توجه الجميع بروح الثورة الصافية النقية لانتخاب أعضاء المؤتمر الوطني العام، والنجاح المنقطع النظير للمفوضية العليا للانتخابات في تسيير عملية الاقتراع بشكل منظم وبحرفية رائعة شهدت لها كل مؤسسات وتنظيمات العالم الدولية والإقليمية. إن المغرضين بثوا دعايات وشائعات كثيرة منها أن "عبد الجليل لن يسلم ولن يترك الرئاسة".. "المجلس الوطني أعضاؤه لن يسلموا بسهولة"، وتحدثوا كثيرًا عن تجاوزات وإهمال وتسيّب حتى وصل الأمر إلى الاتهام بالسرقات، وكل ذلك كلام لم نرَ محاميًا واحدًا يقدم بلاغًا أو يرفع قضية في مثل هذه الأمور، كما تعودنا على ذلك في المجتمعات التي سبقتنا في المسار الديمقراطي. عمومًا قد يكون البعض تجاوز أو انحرف أو أهمل، وهذه سُنّة البشر؛ ولكن عيبنا أننا نعمم في إلقاء التهم التي لا يجوز التعميم فيها، بل يفترض الحديث عن كل حالة على حدة، وأن يكون اتهامنا معززًا بوقائع ملموسة لكي لا نسهم في إثارة الفتنة. إن محاسبة كل من أهمل أو تجاوز عملية في غاية الأهمية، وهذه لا تتم إلا بتفعيل حقيقي للقضاء وفرض سيطرة الأمن على كل أنحاء البلاد وتقوية الأجهزة الأمنية والتغيير من أسلوبها في التعامل مع الناس، والابتعاد عن كل مظاهر العنف، واحترام حقوق الإنسان وصون كرامته. وبعد هذا المشوار الذي دام ثمانية عشر شهرًا منذ اندلاع أحداث ثورة 17 فبراير المجيدة، حتى يوم العرس الكبير الذي أبهر العالم أيضًا في تنظيم الجلسة البروتوكولية للمؤتمر الوطني العام الذي بدأ في ممارسة صلاحياته الدستورية المؤقتة، فهنيئا لنا جميعًا هذا العمل الديمقراطي الرائع، والحمد لله رب العالمين الذي أحيانا حتى نرى الليبيين ينتخبون رئيس مؤتمرهم ونوابه بحرية. ولابد لنا أن نذكّر الآن بالمهازل المسرحية التي كانت تحدث فيما كان يسمى ب"مؤتمر الشعب العام"، وأن ينتظروا الاتصال التليفوني ليأخذوا التوجيهات حول من يضعوا في الوظيفة الفلانية، ومن يغيروه أو يقيلوه من وظيفته، فالحمد لله الحق المطلق الذي نصر الحق فى ليبيا الحرة. ولعل واجبي، كمواطن يعشق تراب وطنه، يدعوني إلى أن أنبه إلى نقطتين رئيسيتين: النقطة الأولى: تتعلق بموضوع هيئة الدستور وما تم الاتفاق عليه من أن تكون من 60 عضوًا بالتساوي بين مناطق ليبيا الثلاث. فمن الأهمية بمكان أن يراعى في وضع المؤتمر للقواعد التنظيمية ألا يغفل عن أن هيئة الدستور لا يجب أن يكون للكيانات السياسية فيها نصيب مفروض بنسبة مائوية؛ لأن الدستور لليبيين جميعًا، ويجب أن يشارك في وضعه كافة أطياف الليبيين من اقتصاديين واجتماعيين وعلماء دين وقانون، علاوة على المرأة والشباب والعمال والفلاحين والحرفيين والمهنيين ورجال الأعمال والتجار وأفراد الجيش والأمن وذوي الاحتياجات الخاصة. وبالتالي فنحن نحذر من الانزلاق في وضع نسبة للكيانات؛ لأنها في مجملها لا تمثل إلا القليل جدًّا من الليبيين، وهم عليهم أن يوصلوا رأيهم من خلال فئات المجتمع التي أشرت لها سلفًا. كما لا يجب علينا أن نقع أسرى فكرة متخلفة، وهي عند الحديث عن الدستور أو القانون نتجه فورًا إلى أن يكون كل من يتولى ذلك من القانونيين ولنتجه نحو الواقع الحديث، وهو أن الدستور والقانون له عناصر تتكون منها، روحه التي تحقق مطالب ورغبات الناس، وهذه يشارك في وضعها كل الناس بمختلف بيئاتهم وأطيافهم، أما الصياغة الفنية فهو بطبيعة الحال يخضع للمتخصصين في القانون. النقطة الثانية: عندما يتم الاتفاق على تشكيل الحكومة وتكليف رئيسها، يجب أن ننبه على أننا نريد فريق عمل حكوميا من "تكنوقراط"، ذوي كفاءات. عالية فى الأداء من الليبيين والليبيات المتخصصين، والذين يعرفون البلاد، غير المنقطعين عنها، ولا نريد أبدًا حكومة محاصصة، ولا تخشوا من أن تكون الحكومة ذات كفاءة عالية بعدد محدود لا يزيد عن عشرة وزراء، كل منهم يحمل أكثر من حقيبة مع التوسع في الوكلاء، "الذين يجب أن يقترحهم الوزير ويعينوا من مجلس الوزراء". وأضرب هنا مثلاً، لدينا الآن وزارة للعمل ووزارة للشؤون الاجتماعية ووزارة للشباب والرياضة، فيمكن أن يتم دمجهم في وزارة واحدة هي "وزارة العمل والشباب والشؤون الاجتماعية"، ويكون وزيرها واحدا، ولها ثلاثة وكلاء، أحد لشؤون العمل والآخر لشؤون الشباب، والثالث للشؤون الاجتماعية، وهكذا بالنسبة لغير ذلك من الوزارات الأخرى مثل التعليم التي يمكن في هذه الفترة أن يتم دمجها في وزارة واحدة.. وهكذا. نحن في فترة انتقالية ثانية مهمة، وإذا كان لابد من اختيار بعض الشخصيات التى تحمل كفاءات علمية من الليبيين في الخارج، فلم لا يتم الاستعانة بهم كخبراء أو مستشارين في هذه المرحلة؟ وقبل أن أختم مقالي هذا، أرى أنه من الأهمية بمكان أن نعمل على أن يحس المواطن بالتغيير، وهذا لن يتم إلا بالاهتمام بالحكم المحلي وتعيين عمداء البلديات، وتقوية دور المجالس المحلية، وأن تكون الإدارة التنفيذية موجودة في كل بلدية لها كل الصلاحيات في الأمور الحياتية للمواطن مع إلغاء العديد من الأجهزة المركزية وإعادة توزيع بعض المؤسسات المهمة في الدولة خارج العاصمة ليشعر الناس بالاهتمام والارتباط بدولتهم الجديدة. وفقنا الله جميعًا لما فيه خير بلادنا وأمتنا، وحقا إنه لعرس كبير لليبيا في مدينة طرابلس، عروس البحر. بقلم: د. إبراهيم قويدر