عرفت الساحة الغنائية في بلادنا منذ سقوط النظام البائد تطورات وتغييرات تجسدت في التنوع الملحوظ في المشهد الفني تمثل في المرحلة الأولى في ظهور عديد الأنماط الموسيقية والغنائية مستفيدة من هامش الحرية وانفتاح مجال العمل والغناء والإبداع أمام كل ما يأنس في نفسه القدرة على اقتلاع مكان أو الانخراط في المنظومة الموسيقية والغنائية في بلادنا. وما يحسب لهذه المرحلة، بقطع النظر عن تقييم مستوى الأعمال فنيا ومدى إضافتها للأغنية التونسية، أن أغلب التجارب والألوان استطاعت أن تشد اهتمام نسبة هامة من الجمهور لتتحول من ظاهرة إلى أنماط تحظى بطلب قاعدة كبيرة من الجماهير من مختلف الشرائح العمرية والإجتماعية على غرار الأغاني الوطنية والملتزمة و"الراب" وغيرها لاسيما بعد أن وجدوا المجال متاحا عندما خير عدد من الفنانين التونسيين المعروفين في المشهد الفني والثقافي الراحة والابتعاد عن النشاط معللين خيار الابتعاد عن العمل والانتاج بأنه لا يعدو أن يكون فترة تأمل ومراجعة الخيارات في انتظار اتضاح الرؤية فيما يتعلق بمجريات الأوضاع العامة في البلاد وتطور الألوان والخيارات في الميدان الفني خاصة لاستئناف النشاط وإنجاز أعمال تستجيب لدواعي المرحلة والذائقة. وما شد الاهتمام في المرحلة الثانية من التغيير الذي طال الأغنية التونسية أنه لم يسجل تطورا في مستوى المادة الغنائية كلمة ولحنا ومستوى موسيقيا على نحو ارتقى بالأغنية التونسية وحفز الفنانين والناشطين في الميدان على الاستفادة من المرحلة والمضيّ قُدُما في مجال التطور لاكتساح الساحة الغنائية وطنيا وإقليميا بإنتاجات نوعية وقيّمة يجعل من هذا القطاع مصدر إشعاع وتنمية للبلاد. بل أن هذا التغيير بان للعيان في الاقبال الملفت لعدد كبير من الفنانين التونسيين على لون آخر من الأغاني ويتمثل في الأغاني الصوفية والدينية وقد بدأت تفاصيلها تظهر للعيان عبر شاشات القنوات التلفزية وتتناقلها المسامع والأذان في عديد الأوساط. ولئن استحسن بعض الفنانين هذه الظاهرة على اعتبار أنها صحية بالنسبة للذائقة في مجتمع عربي مسلم، فإن البعض الآخر استنكر هذا التوجه الملفت إلى حد الاستهجان نظرا لما اتسمت به الأعمال التي قدموها في ذات الإطار من مستوى متدني إن لم يكن "هابطا" حسب رأي من تطرقت "الصباح" إلى الحديث معهم حول هذا الموضوع. فاقد الشيء لا يعطيه هو المثل المقياس الذي احتكم إليه الفنان الشاب سفيان الزايدي الذي عبر عن استهجانه لهذه الظاهرة على اعتبار أن الفنانين الذين اختاروا منزع النمط الصوفي أو الديني في أغانيهم في هذه المرحلة تحديدا يفتقدون إلى الآليات والتقنيات الخاصة بهذا اللون. مما يعني حسب رأيه أن هذا العامل سيؤثر سلبيا على مستوى وقيمة الأغاني المقدمة. وقال :" لا أعتقد أن من يروم النجاح وتقديم عمل فني بمستوى إبداع يتسنى له ذلك من خلال عمل ظرفي أقل ما يقال عنه أنه وليد اللحظة. فأنا أعتبر مثل هذه الأعمال طريقة مبتذلة ومعتادة لمن يسعون للركوب على الحدث أو التقرب من النظام الحاكم أو الموالين له". واستدل على موقفه هذا بذكر تجربته في الميدان باعتبار أنه نشأ وتربّى موسيقيا في أجواء اللون الصوفي في المدرسة العزوزية بزغوان أين تعلم ثقافة الموسيقى الصوفية والدينية والمالوف تتطلب خاصيات معينة في الآداء تتحدد في مستوى مخارج الحروف وامتلاك رصيد قيم من الأعمال فضلا عن التكوين الأكاديمي الكفيل بتطوير التجربة وضمان نجاحها. من جهتها انتقدت الفنانة علياء بلعيد التهافت الملفت للفنانين على آداء هذا النمط من الأغاني خاصة بالنسبة لبعض الأسماء التي عرفت خلال مسيرتها بآداء نوعية معينة من الموسيقى والأغاني ووصفته "بالملفت والمخزي " في نفس الوقت. واعتبرت أن الأمر لا يقتصر على الارتماء في هذا النمط من الأغاني بل أيضا من خلال التبجح والتظاهر باتباع التيار الديني. وتقول في ذات الإطار :" الحقيقة التي يجب التذكير بها أننا مسلمون والمسألة غير قابلة للمزايدة ولا يمكن الاستدلال عليها بإظهار أو إعلان أنه يؤدي مناسك العمرة أو الحج أو يرتدي نوعا معينا من اللباس مثلما هو الشأن لدى بعض الفنانين". كماعللت علياء بلعيد موقفها هذا بأن هذا التوجه الذي فسرته ايضا بالانتهازية المفضوحة يتنافى ومطلب نسبة كبيرة من أهل القطاع الذين يدعون إلى الاستفادة من هذه المرحلة بالتحرر من مثل تلك الممارسات المذلة للفنانين التي تربى عليها البعض بعنوان البحث عن فرص العمل وقت الخبز ونيل رضى الحاكم. واعتبرت هذا الدافع العامل الذي دفعها للامتناع عن خوض هذه التجربة في الوقت الحالي رغم أنها سبق أن قدمت أغاني دينية خلال مسيرتها حسب تأكيدها. سحابة عابرة أما الفنّان مقداد السهيلي فرأى أن الأمر لا يعدو أن يكون سوى سحابة عابرة ستمر وتنتهي غشاوتها بانتهاء الظرفية التي شجعت البعض على التوجه إلى هذا اللون من الأغاني . من جهة أخرى أوضح أن الأعنية الصوفية نمط لا يمكن استسهاله مثلما يعتقد البعض. وأكد في المقابل أن لهذ اللون الغنائي أهله أي ثلة من الفنانين والمنشدين ممن اختصوا وتشبعوا بنصوصه ومراجعه التي جعلته لونا معتدا بذاته ولم يطاله الاستهجان. أما فيما يتعلق بعرضه "ارتجال" فأكد أنه عرض لم يكن مناسباتيا أو ظرفيا أملته دواعي التقرب أو دوافع الانتهازية لأنه سبق أن قدم عديد الأعمال في هذا النمط. كما أوضح أن هذا العرض قديم يشارك به في التظاهرات الثقافية والمهرجانات الرمضانية. وكما اعتبر مشاركته القادمة بهذا العرض في تظاهرة بفرنسا كانت بدعم من وزارة الثقافة. وأضاف أنه لا يخضع في خياراته الفنية لأي موجة باستثناء المنهج الذي يطور عمله ويفسح له مجال تقديم عمل متميز بمستوى إبداع. وهو المسار الذي اختاره خلال مسيرته التي قدم فيها أعمالا وألوانا متنوعة مثلما أكد ذلك. واعتبر مقداد السهيلي أن عمله الأخير تأكيد لهذا المنحى كما الشأن بالنسبة "لأصحاب الكلمة" الذي يقدم فيه لونا آخر من الأغاني الملتزمة. فيما دعا الفنان أنيس الخماسي إلى عدم التلاعب بهذا النمط من الأغاني تحت دافع الانتهازية الذي أضر بالأغنية التونسية على امتداد سنوات لأنه يرى أن هذا النمط يتطلب ثقافة فنية وخاصيات وآليات معينة لا يمكن لمن هب ودب أن ينجح فيها. واستثنى بعض الأسماء التي اختارت هذا المنهج قبل سقوط النظام البائد على غرار فوزي بن قمرة وحسين العفريت وعادل سلطان. واعتبر هذا الاستسهال بدافع التقرب من جهات معينة من شأنه أن يساهم في تردي وضعية الأغنية التونسية والفنان على حد السواء. في المقابل عبر عن استفهامه حول اللون الذي سيختاره مثل هؤلاء الراكبون على الواقع مع الحاكم إذا تغير توجه ولون النظام في المستقبل القريب.