صوت يتألم في الظلام.. يصدر من حين لآخر تراتيل افريقية أنهكها التكرار وجسد أتعبته حركات الأسر، تضيئه فوانيس صغيرة منتشرة في زوايا ركح التياترو.. هي بداية عرض "البحث عن سعدية"، حيث برزت الصورة مكتملة فإذ نحن أمام فتاة سوداء البشرة مكبلة اليدين في عمود سفينة للرق.. تواجهها على الطرف الآخر من فضاء الحكاية فتاة الفستان الأحمر، التي سبقها صوتها الأوبرالي الراقي في لحظات العرض الأولى.. ركح حمل علامات الألم والعبودية في أجزائه فانتشرت سلاسل القيد في أرجاء المكان مع براميل المؤونة وصناديق البضاعة وجزء منها بشر.. لكن للبيع. هذه المشاهد من العبودية في القرون الغابرة طالما كانت هاجسا للمبدعين في مختلف مجالات الفنون والفكر ولعّلها أكثر استفزازا لفناني المسرح المنادين بانعتاق الجسد والروح والفكر وفي هذا الفضاء الفني التقت أفكار زينب فرحات برؤية المخرج الشاب نوفل عزارة ليجسدا أحدث أعمال التياترو»البحث عن سعدية» والذي يندرج ضمن تظاهرة فنية بعنوان «أن تكوني سوداء في الخضراء». ولئن كان الفضاء العام للمسرحية يروي حكاية سعدية ابنة أحد ملوك إفريقيا المختطفة والمباعة في سوق الرقيق بتونس، التي تجوب أسواق العبودية بحثا عن أحد شاهد والدها أو يحمل عنه خبرا إلا أن حضور الراهن في «البحث عن سعدية» طغى على صرخات أبطاله «العبيد» فالحرية مطلب كل الأزمان خاصة مع اختلاف أشكال العبودية من عصر لآخر.. وهذا الشعور رافق مشاهدي العرض الأول من «البحث عن سعدية» بفضاء التياترو للمسرحي توفيق الجبالي. لم يحد عمل نوفل عزارة عن الرؤية الخاصة لانتاجات التياترو والرسالة الفنية والثقافية التي يسعى هذا الفضاء المسرحي لترسيخها منذ أكثر من ربع قرن على تأسيسه فبانت الشخصيات «الرمز» في «البحث عن سعدية» فالراوية بوشمها ولباسها البربري الهوى، أحالتنا على تونس البلد، الذي عرف العبودية أرضا وبشرا فتراها تنطلق بين أرجاء المسرح مذكرة بعلامات وأحداث تاريخية قبل الاستعمار الفرنسي وبعده من خلال قصص بعض العبيد والجواري فتذكر بأن «صافي» إحدى بنات القوقاز بيعت في تونس لأحد البايات وصارت «للا قمر» وتتحدث عن فئة أخرى من العبيد وهم الأطفال من خلال شخصية «صرسام».. نقطة تحسب لمسرحية «البحث عن سعدية» في ظل تواصل ضبابية ما يحدث لأطفالنا في تونس ومنذ العصور القديمة إلى اليوم من تحرش واغتصاب وحتى المتاجرة بأعضائهم وقتلهم.. الأطفال والمرأة والحرية تابوهات مختلف الأزمان ومحرارا لقياس تقدم الشعوب من تخلفها.. فكانت «البحث عن سعدية» عملا فنيا ووقفة تأمل وتقييم لتاريخنا خصوصا حين تحدثت المرأة الفرنسية - إحدى شخصيات المسرحية- عن ومضات من التاريخ الفرنسي والتونسي وكانت عباراتها رسائل مشفرة عن علاقتنا بالاخر ومدى معرفتنا بذاتنا.. حيث تحدثت عن قرار أحمد باي بتحرير العبيد سنة 1842 باعتبار تونس أول بلد عربي يتخذ هذه الخطوة حتى أنها تجاوزت بعض الدول الأوروبية والأمريكية في هذا المجال. الملامح الفرنسية بايجابياتها وسلبياتها كانت حاضرة في مسرحية «البحث عن سعدية» غير أن صناع العمل اختاروا أن تنتصر فرنسا بلد حقوق الإنسان والدولة المدنية على فرنسا المستعمر والمحتل لتصوب المرأة الفرنسية الراقية في المشاهد الأخيرة للعمل رصاصة في قلب كابتن السفينة الناقلة للبضاعة البشرية فيما غادر جسد الجارية السوداء المكبلة في عمود الباخرة الحياة بعد أن ولدت طفلا رمي في البحر من قبل تجار الرقيق... وفاة الفتاة صورة جديدة من الحياة فالموت بالنسبة لها هروب من العبودية انتهت معها الام الأسر وشعور الوجع بعد أن افتك منها ابنها وقتل. نظرة الغربيين للعبيد الأفارقة والقوقازيين في»البحث عن سعدية» تتدرج من القسوة المفرطة ونهايتها القتل أوالجلد والتعنيف كما يجسدها كابتن الباخرة الفرنسية إلى نظرة تحمل رأفة بالبضاعة البشرية من خلال معاملتها كتحفة فنية على غرار نظرة مساعد الكابتن لجسد المرأة المكبلة أوهي رغبة في فك أسر هؤلاء ومعاملتها كبشر وهو موقف المرأة الفرنسية بلباسها الأرستقراطي. ما يحسب للعرض المسرحي الجديد للتياترو "البحث عن سعدية" أنه تجاوز مسألة العبودية التي طرحت في إطار تظاهرة "أن تكوني سوداء في الخضراء» وفجر في أذهان المتفرجين الحاضرين في عرضه الأول قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة تقول: هل نحن حقا أحرار؟ نجلاء قمّوع
وجوه من فريق العمل: "البحث عن سعدية" معايشة لليومي صرح مخرج مسرحية "البحث عن سعدية" نوفل عزارة ل"الصباح" على إثر انتهاء العرض الأول لعمله أن فكرة هذا المشروع الفني متخمرة في ذهن زينب فرحات منذ أربع سنوات وتناقشا معا في نص المسرحية وكيفية صياغتها خصوصا على مستوى إدراج بعض الأحداث التاريخية ومدى صحتها ليفرز المشروع عن عرض»البحث عن سعدية» بعد تربص لمدة 15 يوما وفترة «بروفات» لم تتجاوز الشهر ونصف. ووصف نوفل عزارة العمل بأنه «توثيق شرف» لفترة من المعاناة والألم عاشتها البشرية والمتمثّلة في تجارة الرق بكل أنواعها كما اعتبر سينوغرافيا المسرحية حافز لتشريك المتفرج في العمل والتأمل في هذه الرحلة الإنسانية وقال مصدرنا في ذات الشأن:»نحن نطرح حيرة تهم راهننا على مستوى الحرية التي نتمتع بها في اختياراتنا السياسية والإيديولوجية إلى جانب ذلك «البحث عن سعدية» يعالج عديد الحقائق الإنسانية كفقدان المرأة لابنها والظلم الذي يتعرض له الإنسان بسبب انتماءاته الاجتماعية. بطلة «البحث عن سعدية» ملاك الزوايري، كشفت أنها تقمصت الشخصية بكل تلقائية باعتبار أن جزء من سماتها يتطابق مع ذاتها على مستوى معايشتها لهذا الاختلاف في مجتمعنا وأكدت الممثلة التي تلقت تكوينا في سيرك المسرح الوطني أنها لم تجد صعوبة في إتقان اللهجة الجنوبية من منطلق أن والديها ينحدران من قابس وجربة أمّا صاحبة دور الراوية يسر القليبي(من أعضاء «استديو التياترو») فبينت أن الشخصية التي تجسدها ترمز لذاكرتنا الجماعية وهي حاملة الوصية من أبو سعدية لابنته. تجدر الإشارة إلى أن مسرحية «البحث عن سعدية» من إخراج نوفل عزارة وأداء عدد من ممثلي»استديو التياترو» وقد حضرت وجوه فنية عديدة العرض الأول للمسرحية نذكر منها المسرحي كمال التواتي والسينمائي فريد بوغدير فيما تم تأثيث بهو التياترو برسوم ومنحوتات تظاهرة «أن تكوني سوداء في الخضراء»التي تتواصل بفضاء التياترو من 5 إلى 19 أكتوبر الحالي.