قدم صالون ناس الديكامرون الذي يديره الروائي التونسي كمال الرياحي ويقدمه مع ثلة من المبدعين التونسيين لقاء استثنائيا مساء الجمعة 12 أكتوبر الجاري بدار الثقافة المغاربية ابن خلدون بالعاصمة حول الكتابة والشر: جورج باتاي نموذجا. واستعرض اللقاء وثائق وصور وحوارات مع "جورج باتاي" وقرأت له نصوصا مختارة وقدم الباحثان عدنان جدي من عالم الفلسفة والجماليات وأيمن الدبوسي من عالم علم النفس قراءة في أعمال "جورج باتاي" وافتتح باب الحوار والنقاش حول هذه التجربة الأدبية والفكرية الرائدة.. ومما جاء في تقديم حلقة يوم الجمعة أن فكرة الشر في أدب "جورج باتاي" لا تحيل فقط على سلبية قيمةٍ أخلاقيةٍ تقوم منها الجريمة مقام الأساس البشري، إنما تحيل كذلك إلى أسلوبٍ جمالي ووجودي خاص في علاقة الإنسان بالعالم وباللغة. فمن خلال دراسته لديانات التوحيد ومنزلة طقوس الموت الجنائزية فيها، أدرك "باتاي" أن فكرة الشر شديدة الارتباط بمدى اختراق اللغة للممنوع والمحظور الجنسي، وأن جماليات الشر- بوصفه قيمةً فنية وقعت بلورتها تاريخياً منذ رسوم لاسكو الحائطية - تكمن في قدرة الفن والكتابة الإبداعية على نزع الحجاب الأخلاقي عن تصورنا للوجود. تقودنا كتابة التخوم إذن، كما الكتابة الشبقية والصوفية، إلى مراتب الجنون العليا، تلك التي بلغها أدباءٌ مثل الماركيز دي ساد، يولا، جون جيني، بودلير، والتي تمكن» باتاي» كذلك من تصعيدها وتوصيفها - على نحو شديد الفظاعة - من خلال اهتمامه المكثف بظواهر الشذوذ البشرية وحيوانيّتها، السلوكية منها والدينية. قراءة نصوص» باتاي» الأدبية - خصوصاً «تاريخ العين»، «السيدة ادواردا»، «التجربة الباطنية» - والفكرية - على غرار «الأدب والشر» و- «الايروسية» - كفيلةٌ بإثبات ما لفكرة الشر والاختراق من جماليةٍ عليا لا تخلو من صدى سياسي وقوة مقاومة. وكما جاء في ملف «لو نوفيل أوبسرفاتور»وترجمة ليليان حاتم انه في في رواية «التجربة الداخلية»ذكر قائلا: «أؤلف للذين ما أن يشرعوا في قراءة روايتي يسقطون فيها كما في حفرة» وفي روايته «طقوس قاسية» يبرز فيها شذوذ جارح وهمجية آتية من عمق العصور في ظل فولكلور زمنه التجديفي.. ليست مصادفة أن يتمكن «ميشال فوكو» من الكتابة ذات يوم أن جلّ ما بقي للقيام به والتفكير فيه وقوله يعود إلى باتاي وسيبقى كذلك لفترة طويلة «قصة العين»، «السيدة إدواردا» و»أمي»، قلّما نُشرت جميع النصوص المجموعة هنا عوض نشرها في جدية في حياة باتاي. حتى رواية «زرقة السماء» المعروفة جداً والتي ألفها عام 1935 وكان في الثامنة والثلاثين، لم تُطبع كاملة إلا بعد مرور عشرين عاماً على تأليفها. ولقد دخلت روايات «جورج باتاي» وأعماله القصصيّة مجموعة « لاپلياد» الرائعة حديثاً، فهذا الكاتب كان يحلم بالتمتّع بالشهرة الشائنة فقط ولا يحبّذ الانتماء سوى إلى «نخبة مشاهير دنيئة».. وقصص باتاي الخيالية الموجزة الدنيئة ليست كتباً لقراء الروايات بل هي عدوى حمى. جاء في رواية «التجربة الداخلية»: «أؤلف للذين ما أن يشرعوا في قراءة روايتي يسقطون فيها كما في حفرة».. لعجز باتاي حقاً عن نشر ملخص الاستسلام للأسوأ من دون عوائق، اذ اعتبرته باريس مناضلاً يسارياً متشدداً ضد الفاشية. «زرقة السماء» حيث ينفجر كل عمل سياسي مثير للسخرية في كل صفحة، في تهلل كئيب يتعدى الألم النفسي المبرح. لكن وضع باتاي كموظف وخشيته الرقابة لا يوضحان ازدواجيته حيال النشر، إذ حمل العديد من نصوصه اسماً مستعاراً مثل لورد أوش في رواية «قصة العين» وبيار أنجيليك في «السيدة إدواردا». لا بد أن باتاي حفظ الدرس النيتشوي، فعلى كل رجل عميق التفكير أن يضع قناعاً. لكن ذلك الدرس تضاعف في العربدة وفي الاهتمام بالاحتراق بدلاً من الاستمرار وفي رفض تكديس الأموال بواسطة اسمه... إذا كان ثمة ناحية تميّز «باتاي» عن الرواية الفاسقة فهي منطقه في الإسراف والإفلاس والتبذير الهوسي. تقديم رواية مشوّشة بالتجارب المثيرة في مقابل ضجر الحياة الملتفة على نفسها والتكديس الرأسمالي..