ينعقد اليوم مؤتمر الحوار الوطني بمشاركة أحزاب ومنظمات وشخصيات وطنية، دعا إليه واقترحه الاتحاد العام التونسي للشغل. هذا الحوار الوطني لطالما انتظرته الأغلبية الساحقة من التونسيين التي ترغب في نجاحه حتى تتفق الفرقاء السياسيون على خارطة طريق واضحة المعالم تخرج بتونس من مخاطر المجهول وبراثن الصراع السياسي وكابوس فشل العملية الديمقراطية الناشئة. ورغم أهمية هذا الموعد، وتأخر الاستجابة الفعلية لمبادرة المنظمة الشغيلة التي أطلقتها قبل أشهر عديدة، إلا أن الخشية من فشل الحوار والعودة بالتالي إلى المربع الأول مربع المزايدات والتجاذبات السياسية والعنف السياسي المتبادل بين المعارضة والأغلبية الحاكمة.. مؤشرات مخيفة بدأت تطل بوجهها القبيح وتهدد من فرصة نجاح موعد تاريخي قد لا يتكرر ثانية.. يتزامن موعد الحوار الوطني وتتوسطه عدة مواعيد ومناسبات هامة، وكلها ذات معاني ودلالات رمزية سياسية وتاريخية لا يمكن أن تكون خارج السياق.. فبالأمس مرت ذكرى غالية على التونسيين جميعا ذكرى عيد الجلاء، جلاء آخر جندي فرنسي مستعمر من الأراضي التونسية واستكمال الاستقلال.. واليوم هو موعد مفصلي وتاريخي لأبناء "دار الصباح" -قلعة النضال من اجل حرية الكلمة واستقلالية الإعلام الوطني عن السلطة التنفيذية وعن كل التجاذبات السياسية-بما ان اليوم سيشهد انعقاد جلسة تفاوضية ثانية بين ممثلي الهياكل النقابية والحكومة بعد فشل الجلسة الأولى قبل أسبوع.. في الحقيقة فرضت قضية "دار الصباح" نفسها على المشهد الوطني وتفاعل معها -اما سلبا او ايجابا- مكونات الطيف السياسي، كما جلبت انتباه الرأي العام الوطني والدولي، وكسبت تعاطف أهل المهنة ومكونات المجتمع المدني والحقوقيين واصحاب الكلمة الحرة. بل إن النضال المشروع لأبناء الدار الذي يتواصل ليومه التاسع والأربعون على التوالي اكتسب رمزية ذات دلالة عميقة، إذ هو يمثل بوابة رمزية لمطالب القطاع الإعلامي ككل في اعلام حر وتعددي مستقل ونزيه، ورفض لكل محاولات تهميش الإعلاميين ومحاولة الهيمنة على الخط التحريري للمؤسسات الإعلامية عمومية كانت او خاصة، وتدجين الإعلام وتركيعه لخدمة أجندا سياسية معينة.. كما ينعقد الحوار الوطني قبل يوم واحد من موعد الإضراب الوطني الذي دعت إليه النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين في جل المؤسسات الإعلامية. ووبغض النظر عن مدى استجابة المؤسسات الإعلامية والصحفيين لدعوة الإضراب من عدمه.. فإن تنفيذه لو بنسب متفاوتة يعد سابقة تاريخية تحصل لأول مرة في تونس ومؤشرا سلبيا على عمق التهديدات التي يتعرض لها هذا القطاع، وتدني فرص الحوار بين هياكل المهنة والسلطة التنفيذية، رغم وجود رغبة متبادلة من الطرفين، لكن المرور إلى الفعل ظل غائبا ولم تصدر عن الحكومة سوى اشارات مبهمة لا تنبئ بخير بما أن الاستجابة إلى دعوات الحوار لم تكن كافية، وفسح غياب الحوار المجال لحالة من عدم الاكتراث وعدم المبالاة.. لكن الملفت للانتباه أن اشارات "التشويش" على مؤتمر الحوار الوطني عوض انجاحه، وسعي بعض الأطراف السياسية دق طبول الرفض والوعيد والاءات السياسة، ومحاولة فرض شروط معينة على منظمي مؤتمر الحوار.. كانت السمة الغالبة لحالة المشهد السياسي ما قبل الحوار وهي السمة التي فرضت نفسها حتى يوم أمس على حساب "النوايا الطيبة" والرغبة الحقيقية في الحوار.. مما بعث برسائل غير مطمأنة وقلل من فرص نجاح الحوار قبل انعقاده. مع الإشارة إلى أن المشهد العام للبلاد ككل تغلب عليه مظاهر التوتر والاحتقان الاجتماعي وتكرر حالات العنف السياسي في أكثر من مكان.. مع السعي المحموم لبعض الفرقاء السياسيين إلى اذكاء نعرة الصراع السياسي وحشد الأنصار وكأننا أمام معركة انتخابية وليس أمام استحقاق وطني مفصلي يتطلب التحاور على تفاصيل انحاح المرحلة الانتقالية من خلال التوافق على أجندا واضحة للاستحققات الانتخابية المقبلة، والإسراع بتركيز الهيئات الدستورية المستقلة على رأسها الهيئة المستقلة للانتخابات، والهيئة المسقلة للإعلام، والهيئة المستقلة للقضاء العدلي... ففي غياب التوافق السياسي الوطني، ومحاولة فرض طرف سياسي أفكاره وأجنداته ومبادراته على حساب أطراف أخرى دون قبول مبدا مناقشتها سيكون حتما سببا في تدمير عملية الحوار الوطني وزرع بذور فشله.. إن بلادنا تمر بمفترق طرق، والكل يعلم بمخاطر هذه المرحلة الحساسة والتاريخية وتحدياتها.. وغالبية الرأي العام الوطني والشعب التونسي راغب في انجاح المسار الثوري الذي ذهب ضحيته مئات الشهداء والجرحى وعناوينه غير خفية على أحد ولا تقبل المزايدة عليها أو الالتفاف حولها وهي اطلاق الحريات العامة والفردية، ضمان كرامة المواطن والحق في العيش الكريم، محاربة الفساد والمفدسين، ومحاسبتهم، ارساء آليات لديقراطية حقيقية وضمان عدم عودة الدكتاتورية تحت أي مسمى والحكم الفردي والتسلط وتهديد الحريات وقمع الإعلام.. دون ذلك، يصبح من الصعب اقناع الناس حتى يثقوا بهذا الطرح او ذاك.. ولن نخرج أبدا من دائرة الصراع السياسي وسيتواصل تعطل بناء الدولة الديمقراطية المنشدوة.. مزال أمامنا الكثير ليتحقق، والحوار لم يبدأ بعد.. حتى أن فرصة انبثاق حوار وطني جدي داخل المجلس الوطني التأسيسي تبدو ضعيفة وبوادر الغضب والاحتقان والتوتر داخل المجلس تمظهرت في عناوين مختلفة يطول شرحها.. ورغم ذلك يجب أن يكون التفائل سيد الموقف، وتكون ارادة التوافق وتغليب المصحلة العليا للوطن مقدمة على المصلحة السياسية الضيقة.. قالت السيدة عليّا في أغنيتها الوطنية الشهيرة التي عادة ما نستحضرها بمناسبة عيد الجلاء الوطني:" فإما حياة وإما فلا" وانا أقول :" فإما وفاق وإما فلا".. رفيق بن عبد الله