حاولنا في الجزء الأول من هذا المقال، وضع الاطار المنهجي لتقييم أداء السيد نجيب الشابي بعد 18\10 على أرضية خيار المشاركة التي يقف عليها السيد الشابي. ودفعنا منطق ذلك الخيار إلى حدود ممكناته القصوى وذلك سواء بالعلاقة مع حلفائه، أو في علاقته مع بقية أطراف التعددية الرسمية، أو في العلاقة بالسلطة وسنحاول في الجزء الثاني من القراءة، أن نقيم أداء الشابي ضمن تلك الأبعاد المتشابكة مع أولويات المرحلة، وممكنات تحولها السياسي. 2 من مبادرة18 أكتوبر إلى الترشح لانتخابات الرئاسة 2009 أ المعار ضة الزعيمة لا تفوض لزعيم دون الرجوع إلى تقييم مبادرة 18\10 نلاحظ في ما يتصل بموضوعنا أن عنوان القيادة السياسية لتلك لمبادرة وقع الالتفاف عليه في تسوية مسكوت عنها، مضمونها أن الحيتان الكبرى وإن لم تتنازل لاسم من بينها، فإنها لم تعطل بروز الشابي كعراب لتلك المبادرة من دون أن تمضي له على صك التفويض السياسي المباشر ليتحدث باسمها. وهي حالة رمادية تعكس قدرة التونسيين على القفز على الألغام بدل تفكيكها وإزالتها، وهي أيضا محصلة قد تعزز بسند من مشهود رأيا يزعم أن التونسي بقدر ما يكسب رهان الذكاء يخفق في رهان الشجاعة. ذلك إذا سلمنا أن عائق التراضي على قيادة معززة بثقل الإجماع الوطني، هو بالدرجة الأولى والأخيرة عائق نفسي، محوره ضبط فائض النرجسيات المرضية الذي يتطلب شجاعة الإيثار بأكثر مما يلح على الذكاء. بعد أن تشكلت هيئة 18\10 على مطالب الحد الأدنى، كان من المفروض منطقا أن تطرح تلك الأطراف سؤال الإستراتيجية السياسية المناسبة والممكنة لتحقيق تلك المطالب. فبعد أن حسمت تلك الهيئة سؤال ماذا نريد، كان منتظرا أن تتطارح الرأي وتتبادله في أفق سؤال كيف وبماذا نحقق ما نريد؟ ولكن تلك الهيئة ارتدت بسرعة وبسحر ساحر إلى سؤال الهوية( من نحن؟) والذي من المفترض أنه حسم سياسيا على قاعدة المطالب المركزية الثلاثة لتلك الهيئة، على اعتبار أن تلك المطالب، تحدد في ذاتها موقع الأطراف المجتمعة، وبالضبط موقعها من المصلحة في المشروع الوطني الديمقراطي المنشود. السياسة في الحالة وضمن هواجسها المرحلية، لم تكن بحاجة إلى أكثر من وضوح الموقع كي تتحرك على أرضية المشترك. هذا فضلا على أن الالتقاء على الجامع. يفترض تسليما باختلاف هوية المجتمعين، واحترام ذلك التنوع على أنه عامل اغتناء وخصوبة لحقل المشترك. ولأن المعارضة التونسية وفي المدى المنظور، وبحسب موازين القوى القائمة، لا تتحرك في اتجاه البديل السياسي للنظام القائم، وغير معنية بعنوان التناوب السياسي، الذي لا يفكر فيه تونسيا سوى حالم أو غبي. فلماذا تلك الهرولة نحو دواميس التماهي الإيديولوجي، وكهوف التهارج والتنابذ بالألقاب؟ لم تتوافق تلك الأطراف على زعامة سياسية موحدة، لأنها لم تطرح سؤال الإستراتيجية السياسية وإن طرحته فهي لم تحسمه فالمطالب الثلاثة واضحة، ومنسجمة مع الادنى المطلوب تونسيا، وكان من المفترض أن تشهد الساحة حوارا عميقا وطريفا، بين من يعتقد في ضرورة الحسم الجذري في إستراتيجية المشاركة، والعمل من خارج أرضيتها على توظيف المتاح من أرصدة الحراك المدني والاجتماعي والسياسي في مواجهة مباشرة مع السلطة، تنزع الشرعية عن معمارها السياسي، وترغم النظام على لتقديم تنازلات مفصلية للمعارضة. وطرف ثان يتمسك بخيار المشاركة، لأنه في اعتقاده الممكن المتاح بحساب معادلات الساحة، وموازين قواها، ولأنه يمكن لذلك المتاح أن استجمعت شروط تفعيله، أن يدفع السلطة نحو الانفتاح . ربما يسهل ضمن أفق ذلك الغموض، فهم التعقيد الذي وجده الشابي في استجماع التوافق على زعامته. فالرجل لا يمثل نقطة الوسط، بل الحد القصي لخط المشاركة، والعمل من خلال الشرعية الرسمية بما يعني أن مسار تأكيد زعامته، هو نفسه مسار تجذير خط المشاركة في أوساط المعارضة الوطنية . أن الالتفاف على مسألة الزعامة الوطنية، هو النتيجة لمباشرة لتحايل غير بريء من طرف مكونات تلك الهيئة على سؤال البداية، وشرط التنزيل والمتعلق في الحسم بين أطروحة التجذر وخيار الإصلاح. ب- القاطرة تنحرف عن سكتها لم تطرح أطراف مبادرة 18\10 أصلا قضية الإستراتيجية، وما يستتبعها من خطاب وأداء. بل سارعت إلى طرح فكرة البديل الديمقراطي، وكأنها على أبواب فجر التناوب السياسي. هذا في حين يعلم الجميع، أن ذلك الفجر الذي بدأت خيوطه انبلاجه واضحة على سموات جيراننا، مازالت دونه في تونس ساعات ليل بهيم. هاجس البديل ذاك رمى بتلك المبادرة الطريفة في فخ الحوار الأيديولوجي، وتناقض المرجعيات .والذي طوح بها في سطح الثقافي المفتوح على كل الممكنات، سوى ممكن التوافق السياسي على إستراتيجية مرحلية ممكنة وفعالة. لا يهمّنا كثيرا التركيز على مصلحة أطراف بعينها في ذلك المآل، بقدر ما يهمّنا التركيز على الحصيلة من وراء ذلك التحايل البائس على سؤال السياسة .وهو تحايل مارسته بعض الأطراف التي لا مصلحة مباشرة وعينية لها في انفتاح سياسي، قد يعصف بمواقعها المتقدمة اليوم على ساحة الفعل الوطني، وهي مواقع لم تشغلها بحكم حجمها، بل بحكم الفراغ الذي خلفه خروج الإسلاميين من الساحة. وقد سقط الإسلاميون دون أن يشعروا، في جدل غير مسئول حول ثوابتهم. لا ادري إن كنت مبالغا، إذا قررت أن من جعل الملاحقة الفكرية للإسلاميين(1) أولويته المرحلية، قد نجح بقدر كبير في اختراق الحوار الداخلي للإسلاميين، وفرض عليهم أجندته. فتغير مسار ذلك الحوار من هاجس البحث عن مداخل إعادة البناء إلى شقاوة البحث القصي في الثوابت والمنطلقات وهكذا وكنتيجة لذلك الاختراق، هامت العبارة في حلقة مفرغة بين قائل بمركزية السياسي، وبين من مذكر بثوابت المطلق الديني والدعوي. وهي قضايا من المفترض أن تكون قد حسمت بشرعية نصوص رسمية صدرت عن تلك الحركة قبل محنة 91 . ومن هنا تبدو صعوبة فهم مبدأ الحور نفسه فضلا عن الاختلاف فيه. فقد كان المراقب الخارجي، ينتظر أن تتفجر الخلافات بين قيادات السجن والمهجر، حول خط وأوليات المرحلة التي صيغت في غياب قيادة السجن. ولكن ذلك لم يحصل، بل أبدت كوادر حركة النهضة المسرحة حديثا من سجون النظام، سرعة قياسية في انسجامها وتناغمها مع خط الحركه المرحلي. ولا يرى المراقب الخارجي داعيا، سواء بحساب مطالب المرحلة وطنيا، أو بداعي أولويات تلك الحركة الداخلية، في إثارة أسئلة تبدو مجانية حول هوية الحركة، أوصفتها السياسية. من الصعب فهم ردة كوادر تلك الحركة إلى أسئلة البداية والتأسيس، بعد نجحت بهوتها التاريخية والإيديولوجية وبصفتها السياسية، في فرض وجودها السياسي على ساحة المعارضة الوطنية. بل وتحولت مع تطور يوميات النضال الوطني في العشرية الاخيرة إلى حدّ جاذب لخيار المعارضة للنظام. وأثبتت تجربة النضال الوطني في مفاصله الكبرى وتفاصيله الصغيرة، أن المعارضة لبنفي تونس بدون معنى وبدون فاعلية وبدون أفق في غياب الرقم الإسلامي. هل من المدهش أن نسجل إن حجم إختراق اليسار السياسي التونسي لأجندة النهضة، أخرجها من زمنية إشكالياتها التي يستغرقها سؤال ما العمل؟ وما يتصل به من عناوين ورشة إعادة البناء، ليرميها بعنف في زمنية سؤال الهوية، وما ينز منه من صداع الحيرة وعذاب البحث عن الذات، وهي حالة استثنائية بالمقارنة مع المحيط العربي الاسلامي حيث هيكل المواقع والثقل والتأثير، متعاكس تماما بين الاسلاميين واليسار مع المشهود تونسيا . واذا كان التحايل على سؤال الإستراتيجية السياسية في هيئة !8 \10 والهروب به إلى متاهات البحث عن الانسجام الايديولوجي، قد عاد على النهضة بمصيبة الاغتراب في زمنية التأسيس، فقد عاد على حزب المؤتمر من أجل الجمهورية بمأساة الضياع. كانت غزوة السيد المرزوقي من خارج ذلك المنتظم، بدعوته للعصيان المدني وتصعيد سقف المطالب الوطنية إلى حده الأقصى، حلقة مؤلمة لم تعكس في مقدماتها و محاصيلها إحساس الرجل بالتهميش وخروجه من دائرة الضوء فقط، بل والأخطر، عصفت بالتوازنات الهشة داخل حزبه وقذفت به في أخدود البحث عن مبررات الوجود. ج- الشابي ورحلة الشتاء والصيف في ضل ذلك المناخ كان الشابي يبحث عن شرعية الزعامة باستعادة خطاب القيمة، فنافس المرزوقي في حدة الخطاب وفضح المفضوح تونسيا. وقد كان تذكيره المستمر بأنه يعمل على أرضية المشاركة، يؤشر في نفس الوقت على حدة شعوره بأنه بصدد المناورة بالخطوط الحمراء لمبدأ المشاركة نفسه. إن حرص الشابي عن الشرعية النضالية، جعله ينسى اكراهات موقعه القانوني، وما يفرضه من تخفيض في سقف الخطاب، ووتيرة الحركة، وما يستتبعه من دقة الملفوظ ،وأناقة الأداء. لقد كانت المداخلات العامة للسيد الشابي تحمل خطاب المعنى والحقيقة كاملة، ربما نجح من خلالها في سحب البساط من تحت أقدام المرزوقي، وربما صفق له جمهور الطلبة، وبعض جنرالات المعارك الإيديولوجية، وربما عادت على حزبه بقليل أو كثير من الامتداد الأفقي، لكنه خسر موقعه ودوره على أرضية التعددية القانونية . ولم يخسر ممكن التأثير على أحزاب النصاب الرسمي فقط، بل ودفعها على التنافس في مساندة السلطة بدل إقناعها بالتمايز عنها . هل يذهب بنا التأويل بعيدا عن الحقيقة إذا قررنا أن الشابي قد ربح نصفه الغائب (المناضل) ولكنه خسر نصفه الشاهد(السياسي) ؟؟؟ لقد كانت – ومازالت المعارضة المطاردة رهينة تطورات الوضع الدولي، فهي وفي ضل غياب فضاءات الحركة بالداخل ،اضطرت إلى توظيف مفاعيل الضغط الخارجي، وهو ضغط وإن شهد مؤشره الحقوقي موجات ضغط عالية أصاب من النظام في صورته تشويها، لم ينجح إلا استثناءا في تخفيف إستراتيجية "الكل أمني " التي أدار بها علاقته بمخالفيه. وقد فشل الشابي في اختراق ذلك الإطار دوليا، فرحلته للولايات المتحدةالأمريكية، ما كان يمكن لها أن تستجلب المطلوب منها سياسيا في ضل سياسة المحافظين الجدد، التي أضعفت بأخطائها الإستراتيجية التأثير الخارجي للإدارة الأمريكية في ملف الحريات، وذلك بالنظر إلى سجلها الذي لا يقل سوادا عن سجل دول المنطقة. هذا فضلا عن الثمن الأخلاقي الذي يدفعه اليوم من يقترب من تلك الإدارة، على اعتبارها إدارة محتل. أما علاقاته مع الوسط الاشتراكي الفرنسي فهو وبعد هزيمته الأخيرة في الانتخابات الرئاسية والتشريعية تستغرقه فوضى التجاذب بين أجنحته ، مما عقد على الشابي التواصل معه، فضلا عن المراهنة عليه في المستقبل المنظور. لم يحمل الشابي جديدا فارقا للأطراف الدولية القادرة على التأثير في السلطة حتى تغير من موقفها . ولم تكن صلافة ساركوزي في التعبير على مساندة فرنسا للنظام، سوى الشهادة الأكثر استفزازا على أن الشابي لم يضف قيراطا في ميزان الضغط الخارجي على السلطة . ح- نصف خطوة إلى الأمام... خطوتان للوراء لقد مكنت سنوات النضال الحقوقي العديد من الفاعليات الوطنية من "أحزمة أمن أخلاقية"، منعت السلطة من ممارسة عنفها الفج، الذي كانت لا تتوانى فيه أواسط التسعينات. فتجرأت على أكثر الشخصيات الوطنية إشعاعا، لتتداول أسماء في حجم المرزوقي، والشماري، ومواعدة، على نفس الكأس الذي شرب منه الإسلاميون. الأمر كان مختلفا تماما مع السيد الشابي حيث "جاء عليه الدور" والسلطة تعلمت كيف تكيل عنفها، وتقطّره بميزان دون أن تتخلى عنه. فقد كان الرهان الحقيقي أمام المعارضة بعد 18\10 هو تحويل تلك الأحزمة الحقوقية إلى أحزمة أمن سياسي بناءا على قاعدة معروفة تقول إذا عجزت على مغالبة خصمك لأنه أكثر منك عدة وسلاحا فإن المطروح أمامك أولا أن تحرمه من القدرة على استعمال سلاحه المناورة في الحالة مطروح عليها، أن تتجنب ما استطاعت إلى ذلك سبيلا منطقة اطلاق النار، بحيث تلتف على الخصم بحبال الشرعية الأخلاقية والأدبية، لترغمه في النهاية على دفع ثمن ردود أفعاله في بورصة السياسة. لم تنتظر تلك السلطة الشابي ليستكمل حلقات الربط بين الحقوقي والسياسي، وبادرته بمعركة المقر، لترسل إليه رسالة واضحة تعلن رغبتها وتصميمها على التخلص منه، والعبث بحزبه. فالشابي الذي كان منتظرا منه أن يخترق فضاء القانونية بمطالب الحركة الوطنية، وجد نفسه في معركة وجود مع النظام، الذي مازالت كل المؤشرات تحيل على عدم استعداده مرحليا للقليل من الانفتاح المطلوب تونسيا. وهكذا أجبرت السلطة الرجل إلى العودة إلى أجندته الحزبية، ومن داخل ذلك الحصن، أدار معركة المقر، ثم معركة الجريدة، بل وبادر بالترشح لرئاسيات2009 ،في خطوة ربما أحرجت أصدقاء الرجل في المعارضة بأكثر مما أقلقت خصومه..... حيثيات ومضامين غايات وأبعاد تلك الخطوة سنحاول متابعتها في السطور القادمة من هذا التحليل . نورالدين ختروشي 1 جوان 2008 (1) اليسار التونسي يعيش أزمة غياب موضوعه التاريخي (الصراع الطبقي) بعبثية وشرود حائر الوجه اللئيم لتلك العبثية يمثله القطاع الذي ألتحق بأجهزة الدولة وهؤلاء ومن سوء حظهم يكتبون وثيقة موت اليسار بمقابل بخس إذا قارناهم برفاقهم في العالم حيث أعلن فشلهم سقوط إمبراطوريات ودول و شهدوا على موت الثورة في أحضان الدولة. هذا في حين وقع اليساري اللئيم عندنا وثيقة انتقامه من تاريخه بمقابل فتات أجهزة دولة القمع العاري. قطاع آخر من يسارنا المهزوم سياسيا والمأزوم تاريخيا" تمترس" بخنادق البث الرمزي ليصعد مكبوت جذرية تمايزه الثقافي عن حميمية الأهلي وخصوصية المحلي برافعة المعنى اللائكي وتمثله في ثوب أصولية لائكية متطرفة تحيل في عنفها الرمزي على أصولية القاعدة وعنفها العدمي وتشترك معها في خوف عميق من المستقبل. من حسن حظ ذاكرة اليسار وطنيا أنها مازالت قادرة على بث معنى الطهارة الثورية والتي تمثلها يسارية مناضلة لعبت ومازالت أدوارا مفصلية شريفة في مسيرة استكمال مشروع تحررنا الوطني