بقلم : عبد الرزاق قيراط - ماذا يجري في تونس هذه الأيّام؟ فالجميع ينادي بالوفاق ويطالب به وينخرط فيه بدعوى "الحفاظ على المصلحة الوطنيّة". اللعبة الديمقراطيّة التي طالما حلمنا بها وأردنا الانتقال إلى نظامها تشهد عمليّة تحريف خطير. لا قيمة اليوم في تونس للشرعية الانتخابيّة التي استبدلت "بالشرعيّة التوافقيّة". وفاق مشبوه لأنّه نقيض الديمقراطية باعتبارها منافسة شفّافة ومعادلة تقوم على مبدإ الاختلاف. بالوفاق يفسد اللاعبون المباراة ويختارون التعادل لأنّه يضمن تجنّب الهزيمة التي ستكون من نصيب الجمهور وحده. هكذا نحن في تونس اليوم، باعت الأحزاب المباراة فخرقت قواعد اللعبة الديمقراطية النزيهة وخرج الجمهور منهزما لأنه لم يفرح بانتصارفريقه بل حرم حتى من مشاهدة مباراة جميلة شيقة يقدّم فيها اللاعبون أداء مقنعا. خُذل الجمهورالذي أعطى أمواله وأصواته لفريق يشجّعه ويؤمن بقدرته على تحقيق الأهداف لصالحه ويطالبه بتسجيلها. فأغلب الفرق أوالأحزاب التي احترفت السياسة نسيت جمهورها وخانت العهود التي ائتمنت عليها. إنه الوفاق إذن فلماذا منحناكم أصواتنا؟ وما قيمة الانتخابات التي أجريت قبل عام والتي ستجرى بعد أشهر، إذا صارالوفاق مقدّما على الديمقراطيّة؟ أليس من الأجدر حفظ الأموال التي ستصرف والصناديق والأوراق والحبر والوقت، مادمتم ستجتمعون في كلّ مرّة لتتوافقوا وتتراضَوْا، وتتنازلوا عن المبادئ والمطالب لبعضكم بعضا. أليس منالأفضل إلغاء المباراة، بدل حرمان الجماهيرمن حضورها، ما دام اللعب الحقيقيّ يجري في حجرة الملابس حيث تعقد صفقات البيع والشراء. إنّه الوفاق إذن فهل سيرضى أنصارالأحزاب الفائزة في الانتخابات بانبطاحها لأحزاب لم تحصل إلاّ على بضعة أصوات، هل سيرضون برضوخ الأغلبيّة لمطالب الأقلّيّة بدعوى ذلك الوفاق والنفاق. ألا يحقّ لأنصارالنهضة مثلا أن يتساءلوا عن انجازات حركتهم التي منحوها أصواتهم؟ هل تحقّق شيء منها بسبب هذا الوفاق العجيب الذي قال الغنوشي إنّه من "الأسس الثابتة لفكرالحركة وسياستها". حينئذ ما الفرق بين حركة (لها مرجعيّة إسلاميّة) ومقدّسات تريد الدفاع عنها وحزب يساريّ يدعو إلى عدم تجريم المساس بالمقدّسات في الدستورالقادم لأنّها مسألة لا يمكن ضبطها وتحديدها. ما الفرق بين النهضة التي تريد نظاما برلمانيّا وبين بقيّة الأحزاب التي تدافع عن النظام الرئاسيّ إذا توافقوا على حلّ وسط يسبق عرض المشروع على المجلس التأسيسيّ ومناقشته قبل التصويت عليه. ألا يمثّل ذلك التوافق تقسيما لغنائم هذا الوطن بين طبقاته السياسيّة بعد أن دمّرت أعصاب شعبه وتلاعبت بمشاعره ومشاريعه؟ ألا يمثّل هذا الوفاق نصرا عظيما لحزب "نداء تونس" الذي جمع تحت سقفه من أقصاهم الشعب عن السلطة فإذا بهم يتجمّعون وبسرعة في حزب مرجعيّته الوحيدة وبرنامجه اليتيم استرجاع تلك السلطة المسلوبة لحماية الأقليّة البرجوازيّة التي حكمت شعبنا منذ الاستقلال. قايد السبسي أيّها الإسلاميّون يعتذر للشعب لأنّه قال يوما إنّ النهضة حزب معتدل، ويعبّرعن ندمه لأنّه طمأن الغرب في زياراته بفكرة أنّ الإسلام لا يتعارض مع الديمقراطيّة. وهو بذلك يقصي الحزب الحاكم ويمهّد لشطبه من الخارطة السياسيّة ! فمن يعزل من؟ ألم يدع الإسلاميّون وشركاؤهم إلى سنّ قانون يمنع المتورّطين من النظام السابق من ممارسة النشاط السياسيّ والدخول في الانتخابات لمدّة خمس سنوات على الأقلّ؟ فلماذا انتظروا كلّ هذا الوقت حتّى تجرّأ عليهم أشباه بن علي وصاروا يطالبون بعزلهم عن الحكم. فمن عجائب هذه الأيّام أنّ الأصوات ترتفع عاليا مطالبة بحلّ حركة النهضة. فهل خافت الحركة فجأة على مستقبلها فالتحقت بمبادرة قايد السبسي باعتباره من دعا إلى الشرعيّة التوافقيّة. الواقع يقول إنّ الأحزاب الحاكمة والمعارضة استجابت "لروح الوفاق" وصارالجميع ينادي به للحفاظ على المصلحة الوطنيّة. فهل ثمّة فرق الآن بين هذه الأحزاب؟ وهل بقي لنا موجب للاستماع إلى برامجها بعد أن صار مبدأ الاختلاف معدوما فيما بينها؟ بدأ الضباب ينقشع، وظهرت حبائل التحيّل الذي يكاد ينطلي على الشعب التونسيّ، وانكشف كل المخادعين الذين عملوا على إفساد اللعبة الديمقراطيّة أوساهموا في تغيير قوانينها الشرعيّة بأخرى يخترعون لها أسماء جميلة خدّاعة. فاستفيقوا أيّها التونسيّون.