تم أوّل أمس بقاعة الفن الرّابع بالعاصمة عرض مسرحية "ترى ما رأيت" سينوغرافيا وإخراج أنور الشّعافي وإنتاج مركز الفنون الدرامّية والركحيّة بمدنين نص المسرحية مقتبس من ديوان للشاعر التونسي المهاجر كمال بوعجيلة وعنوانه " ترى ما رأيت". "ترى ما رأيت" مسرحيّة تبحث عن القطع مع السائد والإضافة للموجود والاختلاف مع المتداول من خلال مشاهد المسرحية التي تبدأ بإحالة المتلقّي عبر إيحاءات إلى حالات المرض والضعف والوهن والموت.. وترسم معاناة الشعور بالغربة والقهر والظّلم من خلال نصّ غير تقليدي في عرض إتسم بالحركات والتّعبيرات الجسديّة الفردية والجماعيّة كما كان للموسيقى حضورها لإبراز مختلف الحالات النفسية التي تمر بها شخصيات المسرحيّة وقد جسّدتها على الرّكح مجموعة من الممثّلين والممثلات من خرّيجي المعاهد العليا للمسرح وهم نجيب بن خلف الله وجلال عبيد ونورشان شعبان وفاطمة بنور وجهاد الفورتي ومكرم المانسي ووليد الخضراوي. وبما أن أهمّ سمة لعالمنا المعاصر هي التحوّلات المعرفية والتي هدمت كثيرا من الحواجز وكانت مقدّمة لولادة القرية المعرفية الكونية فقد جاء المسرح التجريبي ليواكب هذه التغيرات وبالتالي استغلها المخرج أنور الشّعافي أحسن استغلال لما اعتمد على توظيف السّكايب مثلا. ومن الواضح أنّ المخرج أنور الشّعافي مؤسّس المهرجان الوطني لمسرح التجريب بتونس يعمل على أن تكون له اضافة في تاريخ المسرح التونسي الحديث، ذلك أنه اعتمد توظيف تقنيات حديثة لم نشاهدها في مسارحنا ولا في مسارح الدنيا من قبل كتوظيف "السّكايب" وتشريك ممثلة افتراضية. العرض كان أيضا فيه إشارة تبدو واضحة لإقامة الشاعر كمال بوعجيلة في المستشفى بفرنسا ومعاناته الغربة في المهجر لمدة عقود. ونعتقد أن توظيف الممثلة الافتراضية من خارج الفضاء الركحي أكبر دليل على ذلك.. ثم ان دراما هذا العمل تطرح قضية "الحرقان" أو الهجرة غير الشرعية وما تحمله من معاناة، ومن ألم نفسي... العرض ككل كان عبارة عن اجتماع فضاءين يجسّدهما الجسد والحركة في تقنية مسرحية تضاهي الصوت والكلمة في تلاحم جميل وتنافر رائع.. واذا ما علمنا أن تزامن ولادة المسرح التجريبي كان في العالم كله دفعة واحدة تقريبا، خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين وأن هذه النوعية من المسرح لم تحمل شرف ولادتها اسما محددا كمسرح اللامعقول على يد يوجين يونسكو وصموئيل بيكت وفرناندوا أرابال.. فالمسرح التجريبي هو مسرح الكل بامتياز أوربي – عربي – أمريكي.. لان الكل ساهم ويساهم في تطويره ووضع خصائصه أي خصائص المسرح التجريبي. وهو يمتاز أيضا بتجاوزه لكل ما هو معلّب ومألوف وسائد ومتوارث.. لذلك نجد ان أنور الشعافي قد عمد في هذا السياق على الإتيان بالجديد واختراق الثوابت التقليدية عبر تيمات تتمثل في تحميل العمل التجريبي إمكانية تجاوز الخطوط الحمراء البنوية والشكلية من خلال جسد أو فضاء أوسينوغرافيا أو أدوات.. ومنها تفكيك النص وإلغاء سلطته، أي إخضاع النص الأدبي للتجريب، والتخلص من الفكرة ليقدم حالة فنية وليس أفكارا أو ترجمة حرفية للنص، وبالتالي خلق فضاء أوسع للأداء ذات دلالة معبرة.. كما وظف الإضاءة والحركة والرقص على حساب النص وبالتالي اصبح المخرج -المحور في العمل، في حين أصبح الممثل - أداة في تشكيل العرض الحركي حيث تتوزّع مساحة السرد على الشخصيات وفق حوار مركب،، كما أن السينوغرافيا كانت هي الأخرى البطلة وهنا حقق الشعافي النجاح والإضافة الفنية والابداعية خاصة في توصيل الحالة الفنية وكأن الحركة هي اللغة التي يضاف إليها الإشارات والأدوات المتاحة لمحاكاة المتفرج. لقد كانت أطروحات العرض أكثر منطقية عبر توظيف عناصر العمل وفق توليفة متكاملة للغة والحركة والإشارة زادها ثراء اعتماد وسائل الاتصال الحديثة. وفي النهاية يبقى التجريب ضرورة من ضرورات الحياة بمجملها، والمسرح يطرح أسئلة كبيرة وكثيرة وهذه إحدى مهامه الأساسية، ويعكس إلى حد كبير الهواجس التي تعتري باطن الإنسان قبل ظاهره، ورغم الأسئلة المطروحة وجديتها، يجد المسرح نفسه يحمل هم التجديد والتصدي لقضايا معاصرة ويوحد النظرة إليها عبر رؤيا متقدمة، أو على الأقل رؤيا يمكننا من خلالها فهم ما يجري حولنا عبر صيغ جمالية وفنية، لكنها في جوهرها تمثل جزءا من مكاشفة يتصدى لها المسرح كفن أزلي باقٍ مادام الإنسان موجودا. لقد نجح انور الشعافي في "ترى ما رايت" في تحقيق المتعة المسرحية للجمهور الذي لم يتوافد بالعدد المطلوب.. ومن خلاله اكد انه لا يمكن أن يولد العمل الفني الجيد إلاّ من مخرج له نزوح نحو التجريب، وأن يكون متحرراً من التاّبوهات التي ذكرناها سابقاً حين يكون فكره آخذاً، وغير متوقف عند حدود معينة ويسمح لنفسه أولاً أن يجرّب على الكثير ممّا يحيط به، وهكذا يولد الابداع كما ولد في السابق عند أدمون وجان جينيه ويونسكو.