ثلاثة احداث قد لا يبدو ظاهريا بينها رابط جغرافي او تاريخي من آسيا الى اوروبا وامريكا اللاتينية استقطبت اهتمام العالم خلال الساعات القليلة الماضية لتحمل في طياتها رسائل لا تخلو من الاثارة وتجمع على ان وجه العالم يتغير ويتجه نحو تحقيق تحولات جغراسياسية قد لا تتضح ابعادها وانعكاساتها قريبا.. وهي تحولات لا يمكن الاستهانة بها ولا يمكن ان تمر دون ان يكون لها وقعها على اكثر من موقع في العالم.. فبين الاعلان عن ولادة كوسوفو ذات المليوني نسمة كاحدث دولة منسلخة عن يوغسلافيا السابقة.. وبين الاعلان عن فوز المعارضة في الانتخابات البرلمانية الباكستانية.. واقرار حزب الرابطة الاسلامية الموالي للرئيس مشرف بهزيمته في تلك الانتخابات.. وبين الاعلان المفاجئ للرئيس الكوبي فيدال كاسترو الاستقالة بعد نحو نصف قرن قضاها في السلطة ما يمكن ان يشغل اهتمام الخبراء والملاحظين وصناع القرار السياسي لوقت طويل لاسيما ان كوسوفو كانت مسرحا لحرب عرقية في القرن الماضي.. اما باكستان فهي اليوم تمثل مركز الحرب المعلنة على الارهاب بعد تسرب فلول القاعدة لتتمركز على حدودها الطويلة المتشعبة مع افغانستان فيما تبقى كوبا اخر رموز الشيوعية المتبقية في الغرب، وقد كانت كوبا الحلبة المفتوحة خلال الحرب البادرة وكادت ان تحتضن اول مواجهة بين القوتين النوويتين الروسية والامريكية خلال ازمة الصواريخ الكوبية في الستينات قبل ان تتغلب الديبلوماسية وتقرر موسكو سحب صواريخها من خليج كوبا مقابل سحب امريكا في صمت صواريخها من تركيا.. لقد اختار كاسترو الذي لم تنهكه الاحداث وانهكه المرض ان يعلن اعتزاله السلطة على طريقته بشكل قد يفتح المجال لكثير من القراءات لا سيما ان الرجل لم يكن يخفي تمسكه بقيادة كوبا حتى اخر الحياة.. وربما يكون كاسترو آثر الاستفادة من دروس حرب العراق وسحب البساط امام اعدائه وضمان تحول سلس في البلاد بعد ان بلغ مرحلة لم يعد معها بامكانه ان يستمر في التحكم في القلعة الشيوعية المتبقية بنفس القبضة الحديدية التي اعتمدها طوال نحو نصف قرن شهد فيها العالم من التغييرات والاحداث والتطورات ما تجاوز كل التوقعات بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وانهيار جدار برلين... واذا كان البيت الابيض اول من اعترف ورحب باستقلال كوسوفو فقد كان ايضا اول من دعا الى دعم الديموقراطية في الجزيرة الكوبية المتاخمة للولايات المتحدة حيث بشر الرئيس بوش من رواندا بمساعدة الشعب الكوبي على ادراك نعم الحرية بما يؤكد ان كوبا لا تزال على اجندة اهتمامات واشنطن التي تبقي عينها مفتوحة على حركات وسكنات وحتى نوايا الجار المتمرد والزعيم الثوري الذي طالما ارق رجال الاستخبارات الامريكية الذين فشلت كل محاولاتهم المعلنة والخفية للتخلص منه والقضاء عليه نهائيا على مدى خمس عقود بدات منذ عهد الرئيس ايزنهاور.. ولعل ذلك ما يفسر رفض الادارات الامريكية المتعاقبة الاستجابة لطلب رفع الحصار عن كوبا المتجدد في الاممالمتحدة بمساندة اكثر من مائة وثمانين بلدا مقابل اعتراض اربع دويلات غير معروفة بينها اسرائيل على هذا الطلب.. ومع ان الاعلان عن استقالة كاسترو من منصبه سيسدل الستار على مسيرة طويلة لرجل كان ولايزال موضوع اهتمام اعدائه قبل انصاره ومؤيديه فان هذا الاعلان الذي جاء في شكل رسالة حملت توقيعه لم تكن لتزيل الغموض حول مصير كوبا وما اذا كان راوول كاسترو الشقيق الاصغر للزعيم الكوبي ووزير دفاعه ورفيق ثورته الذي تجاوز السبعين من العمر سيتولى زمام الامور بشكل رسمي بعد ان كان يتولى نيابة شقيقه خلال مرضه وهو ما يعني استمرار كوبا في توخي الخيارات التي كان رئيسها المتخلي راهن عليها مند النصف الثاني من القرن العشرين مع بعض التحولات باتجاه اصلاح الاقتصاد وكسر قيود العزلة التي فرضت طويلا على كوبا.. اسباب كثيرة قد لا تخلو في اغلب الاحيان من الغرابة ارتبطت بمسيرة الزعيم الكوبي فيدال كاسترو بمختلف محطات حياته، ما جعله يحمل اكثر من لقب متناقض في آن واحد فهو الزعيم الثوري وصاحب الخطب التي تستمر بالساعات وهو الرفيق ومحامي المساكين في نظر مؤيديه كما في نظر الكثير من شباب العالم الثالث الذين عايشوا صعوده واستلهموا من تجربته الثورية وحرصوا على الظهور بمظهره والجمع بين لحيته وبين زيه العسكري الذي اكسبه الى جانب صديقه الارجنتني تشي غيفارا وجماعتهما من اصحاب الذقون الطويلة الاحترام والهيبة في ستينات القرن الماضي.. وهو ايضا ابن الاثرياء الذي رفض التفرد بالثروة وقدم المساعدة للثوريين من افريقيا الى امريكا اللاتينية واختار محاربة الفساد والظلم الذي ارتبط بنظام الرئيس السابق باتيستا ليتحدى بعد ذلك اكبر قوة في العالم ويتمكن من البقاء والاستمرار رغم الحصار المفروض عليه منذ اكثر من اربعين عاما... ولكن كاسترو في كل ذلك لم يكن يحظى بالاجماع في كل محطات حياته السياسية الطويلة وهو يبقى ايضا الى جانب هذه الاوصاف وغيرها وكما تصر واشنطن على نعته دكتاتورا يمسك بالشعب الكوبي بقبضة من حديد ويمنع عنه حقه في العيش بحرية وممارسة الديموقراطية، وهو موقف تشترك فيه واشنطن مع معارضيه من ابناء اللاجئين الكوبيين الذين فروا الى امريكا الى جانب منظمات وهيآت دولية للدفاع عن حقوق الانسان وغيرها.. والحقيقة ان تفرد كاسترو بالحكم على مدى زهاء خمسة عقود لم يعرف ثلاثة ارباع الكوبيين معها حاكما غيره ليس السبب الوحيد وراء بقاء اسمه حاضرا بقوة في الاذهان، ولا شك ان الفضل الكبير في ذلك يعود الى سياسات مختلف الادارات الامريكية المتعاقبة التي ساهمت من حيث تدري او لا تدري في تحويل الرئيس الكوبي الى اسطورة حية وهو الذي عايش او كاد عشرة رؤساء امريكين اشتركوا في اعلان العداء له وفشلوا في الاطاحة به ولو ان كاسترو انتظر موعد الانتخابات الرئاسية القادمة في امريكا لكان بامكانه ان يضيف الى سجله انه الزعيم الذي تحدى عشرة رؤساء امريكيين... لقد ظل كاسترو والى وقت قريب العدو الاول لواشنطن قبل ان يتراجع ويخلفه في هذا المنصب اسامة بن لادن واذا كانت لحية بن لادن واتباعه شكلت هاجسا حقيقيا للاستخبارات الامريكية التي باتت تجد نفسها مضطرة للبحث في كل مرة عما اذا كانت اللحية التي ظهر بها بن لادن بعد كل شريط جديد حقيقية ام مصطنعة فان لحية كاسترو بدورها كثيرا ما شغلت الاستخبارات الامريكية التي وجدت نفسها مضطرة لتجنيد خبرائها والبحث عن الطريقة الانسب لتسميم كاسترو حتى بلغت مختلف محاولات التسميم الفاشلة التي قامت بها الاستخبارات الامريكية للقضاء على كاسترو اكثر من ستمائة محاولة وهو رقم قياسي في استهداف مسؤول سياسي باعتراف وثائق الاستخبارات الامريكية نفسها سواء بمحاولة التقرب من حراسه او طباخيه او مساعديه او العملاء او غيرهم من المحيطين به دون جدوى. وبعد ان فشلت الاستخبارات في تسميم ملابس او طعام كاستر، وبعد ان عجزت عن تسميم سجائره المفضلة او مواقع السباحة المفضلة لديه لم تجد افضل من بحث محاولة تسميم غريبة جدا باعتماد تسميم حذاء الرئس الكوبي بما يمكن ان يسرب السم الى لحيته ويتسبب في سقوطها وبالتالي في هزيمته نفسيا واجباره على الظهور بمظهر مهين امام الكوبيين تمهيدا للقضاء عليه ولكن كاسترو ينجح في الاحتفاظ بلحيته طوال عقود ليستمر في رحلة التحدي المعلن للقوة الاولى في العالم... ورغم كل ما قيل ويقال عن كاسترو فان نهاية مسيرته السياسية سواء كان الامر خيارا شخصيا او نتيجة ضغوطات داخلية من شانها ان تسجل فشل سياسة العزل والعقوبات الطويلة التي فرضتها السياسة الامريكية على كاسترو والتي عجزت عن القضاء عن لحية كاسترو ناهيك عن شخصه وافكاره التي رفض التخلي عنها وقد ضمن في نهاية المطاف الا يسمح لامريكا بالضحك على الذقون في كوبا...