القائد التاريخي للثورة الكوبية فيدل كاسترو أعلن يوم الثلاثاء الماضي ، تنحيه النهائي عن الحكم، في رسالة هادئة لم يشأ أن تكون وداعاً، طاويا بذلك صفحة طويلة من حياته ومن تاريخه، بل لنقل فصلاً من تاريخ كوبا والعالم المعاصر.واستقبلت واشنطن هذا الإعلان بفتور حيث اعتبر الرئيس الأميركي جورج بوش أنّ "هذا الانتقال (للسلطة) يجب أن يؤدي في نهاية الأمر إلى انتخابات حرة ونزيهة... وليس ذلك النوع من الانتخابات المعدة سلفا، التي كان الأخوان كاسترو يحاولان خداع الناس بها على أنها انتخابات حقيقية". قليلون هم الذين يعلمون أن الولاياتالمتحدة كانت الدولة الأولى التي اعترفت بالثورة الكوبية. لكن ذلك الاعتراف تحوّل إلى عداء كامل نتيجة الأسلوب القمعي الذي اعتمده كاسترو في التعامل مع الذين اعتقلهم من أنصار الدكتاتور المخلوع باتيستا، ثم بأسره أكثر من ألف جندي أميركي خلال أزمة "خليج الخنازير"، وهو ما دفع واشنطن الى فرض حصار عليه لا يزال قائماً. و كان الزعيم الكوبي فيديل كاسترو البالغ من العمر 82 عاماً قد تنحى "مؤقتاً" عن الحكم نتيجة الحادث الصحي الخطير الذي تعرض له في26 يوليو/تموز2006 ،وخضوعه لعملية جراحية "معقدة" في الأمعاء ،حيث لم يعلم بذلك إلا شقيقه وأطباؤه ، فتسلم السلطة مؤقتا شقيقه راوول كاسترو. و كانت هذه أول مرة منذ الإطاحة بالدكتاتور السابق باتيستا حليف أمريكا ، و دخوله المنتصر إلى هافانا مطلع عام 1959، و استلامه مقاليد السلطة فيها بعد نجاح الثورة الكوبية ، يسلم كاسترو قيادة الحزب الشيوعي الحاكم، ومنصب قائد القوات المسلحة، و رئيس المجلس التنفيذي للدولة لراؤول شقيقه. من المتوقع أن ترشح الجمعية الوطنية ( البرلمان) راؤول كاسترو 76 عاما ليخلف شقيقه, رغم أن احتمالات ترشيح آخرين بينهم رئيس البرلمان ريكاردو الاركون ووزير الخارجية فيليبي بيريز روكي وسكرتير مجلس الدولي كارلوس لاخي مازالت قائمة. طيلة 48 سنة من حكمه ،تحدى الزعيم الكوبي واشنطن و الحصار الاقتصادي الذي تفرضه الولاياتالمتحدةالأمريكية على بلاده لأكثر من أربعة عقود.ولم يتمكن عشرة رؤساء أمريكيين و 13 إدارة حيث أن بعضهم انتخب مرتين- من إسقاط فيديل كاسترو المتحصن في جزيرته البعيدة عن السواحل الأمريكية بنحو 60 ميلا بحريا، يتحدى و يقارع الإامبريالية الأمريكية بنفس الحماس الثوري ، الذي كان يتمتع به عندما دخل مظفرا إلى هافانا في كانون الثاني 1959، قبل أن يفرض حكما ثوريا على ثلاثة أجيال من الكوبيين. لقد استطاع أن يهزم عشرة رؤساء أميركيين من دوايت ايزنهاور إلى جورج بوش الابن لمجرد أنه بقي في هافانا على رأس الثورة التي عبر عن التزامه المطلق بها ذات يوم بشعاره الشهير: الاشتراكية أو الموت. لكنه لم يستطع في النهاية أن يقاوم هزيمته أمام المرض رغم اعترافه في كلمة التنحي عن السلطة أن هذه المعركة الصحية التي يخوضها هي جزء من معركته مع الولاياتالمتحدة التي يصفها بالخصم الذي فعل كل شيء ليتخلص مني ولذلك كنت مترددا في التجاوب مع رغبته. يتذكر جيلان من القرن العشرين على الأقل أسبوعا حاسما بين 22 و 28 أكتوبر /تشرين الأول عام 1962، كاد أن يقود إلى نشوب نزاع نووي بين القوتين الأعظم: الولاياتالمتحدةالأمريكية و الاتحاد السوفياتي. فتم احتواء أزمة الصواريخ السوفياتية الموجهة على الولاياتالمتحدةالأمريكية من الجزيرة بفضل تحلي الرئيسين جون كينيدي و نيكيتا خروتشوف بضبط النفس. و في المقابل تخلت واشنطن عن استخدام القوة لقلب نظام الحكم الثوري في كوبا، و ذلك بعد سنة من محاولة قامت بها وكالة المخابرات المركزية(سي.آي.إيه)و آلت إلى فشل ذريع في عملية خليج الخنازير لإنزال قوات قوامها 1400 من مناهضي كاسترو. لم يكن كاسترو قائدا شيوعيا في بداية حياته الثورية بل كان محاميا وطنيا مناهضا للسياسة الأمريكية و متأثرا كثيرا بأفكار الثورة الفرنسية ، ولا سيما أفكار مونتسكيو. وقاد الحماس الثوري لهذا المحامي الشاب أن يقتحم المجال السياسي في السادسة و العشرين من عمره، ما دفعه في 26 تموز 1953 إلى تنظيم عملية الهجوم على ثكنة مونكادا انتهى بمقتل عدد كبير من رفاقه. لكن يبدو أن العداء البهيمي الذي تكنه أمريكا للثورة الكوبية دفعه لاعتناق الشيوعية وهو في بداية حكمه، الأمر الذي جعله يقيم تحالفا استراتيجيا و قويا مع الاتحاد السوفياتي دام ثلاثين سنة.وانتهت عملية تصدير الثورة الكوبية إلى بلدان أمريكا اللاتينية ، و تصدير الجنود الكوبيين لنصرة الحركات الوطنية التحررية التي استلمت السلطة في كل من أنغولا و الموزامبيق وأثيوبيا و الصومال إلى الإخفاق الكامل في نهاية الثمانينيات و التسعينيات، إذ تحولت تلك البلدان الإفريقية التي اعتنقت الإيديولوجيا الماركسية إلى بلدان حليفة لأمريكا. مع نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي ومعه تجربة الاشتراكية المشيّدة، لم يستلهم كاسترو الدروس من تجربة "الأحزاب الشقيقة" في الصين و فيتنام ، بل أصر على عدم تقديم تنازلات للرأسمالية في حين يرزح الا قتصاد الكوبي الذي يعاني من حصار أمريكي شديد منذ العام 1962، تحت بيروقراطية قمعية تقنن النقص المستمر في المواد الأساسية. لقد وجدت كوبا رئة جديدة تتنفس منها الأوكسيجين متمثلة بفنزويلا هوغوشافيز، التي تحولت إلى حليف رئيس، و شريك تجاري للجزيرة الشيوعية ، إذ يقدم الريئس شافيز نفسه أنه الوريث الروحي لفيديل كاسترو. من الناحية النظرية ، الخلافة للزعيم الكوبي تمت تسويتها منذ زمن بعيدلمصلحة شقيقه الأصغر راؤول كاسترو ، الذي يعتبر ساعده الأيمن ، بوصفه وزيرا للدفاع الذي يسيطر على الجيش البالغ قوامه 150 ألف فرد ،و الشرطة. ومعروف عنه أنه أكثر قسوة من شقيقه، ولكن أكثر عملية.و منذ عام 1956، الشقيقان كاسترو لا ينفصلان. ومنذ نجاح الثورة الكوبية عام 1959 ، توزعت أدوارهما بوضوح ، إذ أشرف راؤول على جهازالاستخبارات، والقيام بالأعمال الحقيرة ،ومراقبة شقيقه الأكبر الذي كان ضحية نحو 650 محاولة اغتيال من قبل ال"سي أي ايه"، والقضاء على "أعداء الثورة". وتولّى فيديل، الخطيب البارع، وعظ الحشود وتحريض الشعب ضد الأميركيين. وكان راؤول في تكوينه الأساسي شيوعيا منذ أن كان طالبا،على عكس فيديل الذي كان اشتراكيا. فقد تعرف راؤول إلى بعض الجواسيس الروس عندما تدرب مع بقية الثوار في المكسيك، وكانت تلك بداية التعاون الوثيق بين كوبا و الاتحاد السوفياتي.و بينما ركز فيديل على الجانب الإيديولوجي في العلاقات مع الاتحاد السوفياتي ، ركز راؤول على الجانب الاستخباراتي.وعندما أصبح فيديل أمينا عاما لحزب الثورة الاشتراكية، أصبح راؤول نائبا له.وبعد عشر سنوات من الثورة، عندما تحول الحزب إلى الشيوعية، أصبح فيديل أمينا للحزب الشيوعي الكوبي،و أصبح راؤول نائبا له.و عندما وضع دستور جديد في السنة عينها، أصبح كاسترو رئيسا للجمهورية،و أصبح راؤول نائبا له. عاشت كوبا 45 سنة من الحصار مع فيديل ، و أصبحت حياة الكوبيين تقتصر على ثلاثة أفعال:السرقة،والهروب بحرا، و الرضوخ. وبعد تنحي كاسترو،من الضروري أن يعطي راؤول نفحة جديدة من الحرية الاقتصادية للكوبيين على الطريقة الصينية. إن كلمة "إصلاح" ممنوعة هناك. فسيضمن راؤول بقاء الحزب الشيوعي حزبا وحيدا و حاكما، لكنه سيعلن سياسة السوق المفتوح، و يطلق أيدي المستثمرين الكوبيين، و يفتح الباب أمام رؤوس الأموال الأجنبية. لكن راؤول بسبب كبر سنه، و مرضه، و إدمانه على الكحول ، لن يقدر على أن يستمر في الحكم لمدة طويلة.فهو رجل مرحلة انتقالية. هناك علامات استفهام كثيرة تحيط بمصير النظام الذي يتركه فيديل كاسترو وراءه في هافانا، وكذلك مصير اشتراكية الفقر،إذ ينبع الخوف الحقيقي لفيديل كاستروبعد رحيله من ابتعاد الشباب الكوبي عن الثورة ونزوله إلى الشوارع مطالبا بالحريات السياسية، التي قد تؤسس لثورة ديمقراطية جديدة على غرار ما شهدته عدة بلدان أوروبية شرقية عندما انهارت فيها الشيوعية. *كاتب تونسي