بقلم: مصطفى البعزاوي - يذكرنا هذا العنوان بشعار انتخابات 23 أكتوبر, لكن شتان ما بين الأمس و اليوم. البلاد مضطربة إلى حدود الصدام بين أبنائها في معركة وهمية هي أقرب لمعركة تصفية حسابات منها إلى معركة على منوال بناء تونس المستقبل. فالأطراف المتصادمة هي أطراف سياسية بخلفية إيديولوجية أخذها تيار خطابها المحنط إلى نهايات المواجهة دون أن يكون هناك مبرر للمواجهة ونسي الفرقاء أنهم ينتمون إلى بلاد واحدة و ارض واحدة و لغة واحدة و مصير واحد. تناسوا أن الصراع السياسي لا يمكن أن يتحول إلى عداء لأن العداء لا يبني بلدا بل يبني أحقادا و يخلف ضحايا و أضغا؛ فهل يمكن أن تحصن البلاد و أبناؤها يتقاتلون بهدف النفي والإقصاء؟ نسوا أيضا أن هذه الثورة ليست ثورتهم بل ثورة جيل تربى بعيدا عنهم و حمل مشاكل ومطالب غير مطالبهم و أحلاما غير أحلامهم لذلك كان الأجدر بالنخبة السياسية الحاكمة و المقصية من الحكم أن لا تتفرد بالبلاد تقلبها على هواها دفاعا على مصالحها الضيقة لأنها أصلا لم تكن لاعبا أساسيا في سقوط النظام. لم يخرج الناس للشارع و لم يجابهوا الرصاص و الموت استجابة لنداءات العصيان المدني و الثورة التي أطلقها زعماء هذه النخب السياسية، بل إنهم لم يطلقوا هذه النداءات أصلا و لم يرفعوها مطلقا. إن كل ما كانت تنادي به المعارضة هي مكان تحت الشمس لممارسة حريات بسيطة في التعبير والتنظم و العفو التشريعي العام. شباب هذا الشعب الكريم هو من خرج ينادي بالكرامة و التشغيل و رفع "الحقرة" عن الجهات المهمشة و يطالب بالحق في الثروة والحرية. الشباب الثائر الحالم المثقف الطموح هو من تفجر ليجرف النظام القائم في لحظات وبأقل كلفة بشرية ممكنة، وبقي العالم مشدوها مذهولا أمام نتائج هذه الثورة و تداعياتها. إن طبقته السياسية هي، للأسف، من أجهضت ثورته مرتين. مرة بعجزها عن استثمار الثورة كعنوان من عناوين تفرد هذا الشعب و قدرته على قلب الموازين الإقليمية والعالمية عندما انتشر نمط هذه الثورة في المحيط العربي والإسلامي، ومرة أخرى بعجزها الفاضح على إدارة بنائها وتحقيق المطالب التي رفعها وضحى من اجلها شبابها. وهنا تكمن علة الطبقة السياسية التي لم تستوعب أسرار هذه الثورة ولم تفهمها. وبما أننا شعب تربى على ثقافة الكرة و مصطلحات الملاعب فسوف نستعير من هذه الثقافة بعض مفاهيمها لنصف واقعنا البائس. المتعارف عليه في هذا "العلم" أن الشغب والمشاكل داخل الملعب أو خارجه تأتي دائما من المتفرج، وهذا بالضبط ما يحصل في تونس. فمصدر المشاكل والاضطراب في تونس هو من بقي يتفرج من العائلات السياسية على تشكل النظام الجديد وعلى عكس الملاعب ، فإن الحياة السياسية لا يسمح فيها بالفرجة والإقصاء لذلك كان على كل الفرقاء أن يتشاركوا كلهم في اللعب ضد مصائب البلاد لبناء الخراب الذي تركته الطغمة الحاكمة. وضعية المتفرج دفعتهم للتمترس وراء تابوهات فكرية وشعارات جوفاء لا علاقة لها بالحراك الاجتماعي ولا علاقة لها بالواقع أصلا. كان على الفرقاء السياسيين أن لا يتركوا متفرجا يكون مصدرا لخلق الإرباك والاضطراب. فخرجت علينا من حيث لا نعلم مواضيع وملفات لم تكن بوارد المطالب القصوى لأكثر الحركات السياسية تطرفا. لم نكن نسمع، حتى باستحياء، من يطالب بتطبيق الشريعة ، ولم نكن نتصور أن يكون النقاب مطلبا من مطالب الثورة. انزلقت العائلات السياسية في مستنقع خطابها الضيق واعتقدت الحركات الدينية أنها ستأتي برحمة الله للبلاد في حين ذهب فرقاؤها إلى أنهم ليسوا بحاجة لهذه الرحمة خصوصا إذا جاءت عن طريق الحركات الإسلامية. وقد أبدعت الترويكا، وعلى رأسها النهضة، في خلق الأعداء وتشكيل المناوئين سواء بسوء نية أو بحسنها. نتذكر كلنا مأزق الفصل الأول من الدستور الذي حول البلاد إلى حلقة نقاش كبيرة حول هوية الدولة والمجتمع إلى درجة شك الناس في أنفسهم. وتفاقم هذا الانشطار حتى سكن قبة المجلس التأسيسي ليتحول بدوره إلى حلبة صراع يضيع فيها الوقت والأهداف. وها نحن اليوم أمام خطر الصدام التقليدي بين المنظمة النقابية والسلطة الحاكمة التي للأسف لم تخرج إلى اليوم من ثوب الحركة المعارضة لأنها تقود البلاد كطرف من الأطراف عوض أن تتصرف كمسؤولة عن كل الناس، من معها ومن ضدها. كما أن الاتحاد سيخسر حتما إذا كان ينتقم لمقاطعة النهضة لمؤتمرالحوارالذي حاول أن يسحب فيه المبادرة من حكومة كانت من المفروض أن تبادر به ولا يعطيه الحق في الاستفادة من كل الغاضبين ليستقوي على شرعية يجب أن تثوب إلى رشدها. فهل في اتهام "المعارضة" بمعارضة الحكومة منطق؟ فما دور المعارضة إذا لم تتصيد أخطاء الأداء الحكومي؟ وهل الإدعاء بأن اليسار"يسار" هو تهمة وجريمة تحجم خطابه و تلجم لسانه السليط؟ لقد سقط اليسارفي العالم بشهادة العالم فلماذا يدفع بعض الأطراف جهلا و تحاملا إلى إحياء العظام وهي رميم؟ إن من رحمة الله على النهضة أن يكون لها يسار مثل يسار تونس وإلا لكنا عوض أن نناقش الهيئة العليا للانتخابات والمجلس الأعلى للقضاء و دسترة الحقوق لكنا نناقش تركيبة هيئة الأمربالمعروف و النهي عن المنكر ولكنا نناقش هيئة "الحل والعقد" لتعيين الخليفة و لكنا نناقش الحد الأدنى لسن الزواج ونضع النصوص التطبيقية لتعدد الزوجات ونناقش حد قص اليد, و لكنا نفكر في مدونة ما يجوز وما لايجوز ونطالب بجلد المعارضين أو رجمهم. إن اليسار في تونس ساهم و يساهم في تطوير خطاب الحركة الإسلامية بشكل لا تتصوره و يدفع بها إلى ترقية خطابها ومضامين برامجها ولعله السبب في تميز الحركة الإسلامية في تونس عن بقية كل الحركات الإسلامية الأخرى. خطاب التحريض على اليسار والشيوعيين هو ارتداد من حركة النهضة ليس على ثقافة التوافق والديمقراطية فحسب بقدر ما هو ارتداد على كل ما حققته الحركة الإسلامية من تطور في خطابها الذي أصبح يقبله الناس وينصتون إليه. بعد 14 جانفي كانت الحركة الإسلامية حلا للمجتمع الذي انتخبها وأعطاها ثقة لم تحلم بها فلا يجب أن تخون هذه الثقة و تصبح عنصرا من المشكلة التي تتهدد البلاد حتى تصغر في أعين الناس. على النهضة أن تتحول إلى سلطة شعب لا سلطة حركة وأن تكون قادرة على استيعاب الأنصار والخصوم وأن تدير الشأن العام كطرف مسؤول عن مصير بلاد بأكملها، بما فيها أعداؤها و مناوئوها، وأن لا تسمح بالأزمة مع الاتحاد أن تتحول إلى معركة كسرعظم. ألا تعلم أن الحزب الشيوعي اللبناني هو من الحلفاء الأساسيين لحزب الله الديني. عليها أن تتذكرأن الاتحاد خرج مكسورا من تجربته مع بن على وارتفعت أصوات من داخله تنادي بتطهيره من الفساد و تفضح تواطؤ المركزية النقابية مع النظام، لكن نتيجة فشل الأداء الحكومي في التواصل مع الشعب وبقدرة قادر استعاد نفس هذا الاتحاد عذرية فقدها وتحول إلى قوة مواجهة يقود ولايات بأكملها بعدما كان يواري سوءاته. لذلك علي النهضة، انطلاقا من مسؤوليتها المباشرة على الناس، أن تتدارك الأمر قبل فوات الأوان لأن البلاد مقبلة على مواعيد هي محطات للتفجير أكثر منها للتهدئة والاستقرارإذا بقي الجو مشحونا بهذا التوتر العالي (17 ديسمبر 14 جانفي) . إننا مدعوون إلى نزع فتيل التفجير قبل الندم على التقصير والعناد فالوطن هو وطن كل التونسيين. بقي سؤال لم أفهمه حول رابطات حماية الثورة: من الذي قام بالثورة حتى يؤسّس لها رابطات تحميها؟ "رب اجعل هذا البلد آمنا"