لا نذيع سرا إذا قلنا أن معظم المواطنين التونسيين، من شمال البلاد إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، قد تقبلوا بارتياح شديد إعلان الهيئة الإدارية للإتحاد العام التونسي للشغل عشية أمس إلغاء الإضراب العام الذي كان مقررا اليوم الخميس، والذي ربما كان سيشرع الأبواب على مصراعيها أمام مجهول نخشاه وأن تكون نتيجته المتوقعة مزيدا من تعكير وتسميم الأجواء والأوضاع - الصعبة والخطيرة بالأساس - التي تشكو منها البلاد، وبالتالي سد كل منافذ الحوار، وإحلال التصلب والتطرف والعنجهية محلها. هذا الارتياح الشعبي العارم لا بد من وضعه في سياقه وفهمه الفهم الصحيح إذا كنا بالفعل نريد لتونس تجاوز المرحلة الصعبة، التي تمر بها في الوقت الراهن، بعيدا عن التأويلات والحسابات السياسوية الخاطئة التي تسعى لاستثماره خلافا للحقيقة والواقع وذلك بتقديمه على أنه انتصار لطروحات وسياسات ثبت بالدليل القاطع فشلها وإفلاسها. وفي مقدمة هذا الفهم الصحيح الاقتناع التام بأن ترحيب التونسيين في غالبيتهم بقرار إلغاء الاضراب العام لم يكن سببه معارضة الشعارات التي رفعها الاتحاد والمطالب التي نادى بتحقيقها وعدم الاقتناع بشرعيتها، وإنما الخشية على مستقبل تونس من التبعات الخطيرة للمضي قدما في خيار الإضراب العام على فرص البحث عن إيجاد توافق بين مختلف مكونات المجتمع المدني لإنجاز المصالحة والانتقال الديموقراطي بصورة سلسة وسلمية، في ظرف غاية في الحساسية نحتاج فيه إلى تضافر كافة الجهود وتوحيدها من أجل الخروج من هذه المرحلة الانتقالية بأخف الأضرار وبحد أدنى من الوفاق إلى بر الأمان. فالاتحاد العام التونسي للشغل - وكما عهدناه دائما على امتداد تاريخه النضالي حيث شارك منذ تأسيسه بفعالية في مختلف المراحل التي مرت بها البلاد بدءا بمرحلة الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي وانتهاء بمعركة بناء الدولة الحديثة - اختار هذه المرة مجددا الاختيار الأسلم ألا وهو تغليب الحكمة والتعقل وإرادة الحوار وتقديم مصلحة الوطن والمواطنين على مصالحه الذاتية... اختارت هذه المنظمة الشغيلة الوطنية العريقة الدوس على جراحها رغم ما تعرضت له مقراتها وأعضاؤها من انتهاكات واعتداءات وصلت حد ممارسة العنف الجسدي على أيدي مجموعات لم تعد انتماءاتها وتوجهاتها المعادية للديموقراطية ومدنية الدولة خافية على أحد، وإعطاء فرصة أخرى للحوار الذي نتمنى أن يكون هذه المرة بناء بالفعل، وليس محاولة لربح الوقت. الآن وبعد هذه الخطوة المحمودة، التي تنم عن إحساس عميق بالمسؤولية من جانب قيادات اتحاد الشغل، باتت الكرة في ملعب حكومة "الترويكا" وأكبر تشكيل فيها حزب حركة النهضة للرد عليها الرد الايجابي المطلوب والذي يرتقي إلى مستوى ما يعلقه شعبنا من آمال وطموحات... هذا الشعب الذي أنجز ثورة على الدكتاتورية والظلم باتت مضرب الأمثال عبر العالم. هذا ما نتمناه من أول حكومة انتخبها الشعب في تاريخ البلاد. فتلك هي رسالتها الحقيقية، ونأمل أن لا تخونها أو تتنكر لها.