لا يوجد عاقلان في وجود خيط رفيع يربط رجال الافتاء من ائمة وعلماء دين ورجال السياسة على مر التاريخ حيث تحدث المؤرخون عن التلازم بين الرجلين وبالتالي بين الدين والسياسة.ولطالما اجتهد ما اسماهم البعض ب"مفتي البلاط او السلاطين" الى شرعنة ما يقوم به الحكام الذين طوعوا رجال الدين مستغلين كل السبل اما بالاكراه او الاغراء بمنصب هام في الدولة او امتيازات خيالية. وتعد ظاهرة هذا النوع من الافتاء قديمة تجدد مع كل نظام حكم يتولى مقاليد الدول بما فيها تونس التي ميزت بعض الفتاوى نظامي بورقيبة وبن علي وحتى الحكومة الحالية. "الصباح الاسبوعي" القت الضوء على "الفتاوى الدينية ذات البعد السياسي واثرها عبر التاريخ في مقارنة بين الامس واليوم ودور المفتي في هذا الشان. ..غير ملزمة يؤكد الدكتور وخطيب الجمعة كمال عمران ان الفتاوى بكل انماطها غير ملزمة لانها اجتهادات لعلماء، وقد اصبح لها اهمية في تاريخ الثقافة الاسلامية عندما نزع الناس الى الاخذ عن الرجال من فتاوى- دون العودة الى الكتاب والسنة.ويضيف قائلا:"لا ارى وجها للفتاوى السياسية رغم ان المخيال العربي الاسلامي يقول ' اذا رايتم العالم بباب السلطان فاتهموه' ، فما القول اذا والسياسة جائرة لكن لو كان الفرد عالما بدينه لا يمكن له اتباع عدد من الفتاوى فمرضاة الله سبحانه وتعالى قبل كل شيء والذي يفتي سياسيا فهو مخطئ وفتواه لا تلزم الا شخصه،عموما نحن في حاجة الى التفقه جيدا في الدين لفهم امور كثيرة والتمييز بينها". 3 نقاط بدوره يشدد المحلل السياسي صلاح الدين الجورشي على ان الحديث عن هذا الموضوع يقود اساسا الى ثلاث نقاط سريعة، حيث يقول:"اولا تبدو العلاقة بين الفتوى والسياسة مستمرة في الزمان والمكان ويعود ذلك الى ثلاثة اسباب تتمثل في المنظومة التشريعية الاسلامية التي لا تضع حدودا فاصلة بين الديني والسياسي وتاريخنا الذي يتحدث عن احتياج الانظمة والسلاطين للشرعية الدينية التي يستمدونها من مصادر متعددة من اهمها وقوف المفتي لصالح السلطان.اما ثالث الاسباب فهو حول وجود نزوع لدى بعض الفقهاء للاقتراب من السلطان لتحقيق اهداف خاصة وهو ما يطلق عليهم ب'فقهاء السلطان'". تلازم .. ويتابع محدثنا:"ثاني النقاط تتمثل في دور الفقهاء ورجال الافتاء الذي اعتقد انه مهم وضروري لاضفاء البعد القيمي على الحياة العامة وهم يلعبون دورا ايجابيا في مساعدة المواطنين على تحقيق التوازن وحل المشكلات التي تعترضهم لكن الفقيه كالقاضي يجب ان ينتبه الى حدوده لانه في لحظة من اللحظات قد يفقد دوره ويتقمص دور رجل السياسة. وبما ان عالم السياسة قام على النسبية ويدور حول المصالح فعلى الفقيه او الامام او الخطيب ان يدركوا بانه سيكون من الخطر ان يتحولوا الى سياسيين من فوق المنابر لانهم يحاولون فرض مواقفهم حول احداث سياسية بحجة انها واجبات دينية. كما ان الواعظ مطالب ابان الصراعات بان يكون عامل توفيق وتهدئة وتقريب لوجهات النظر لا داعيا الى الفرقة والتحريض وهو ما يمكن ان يوقع رواد المساجد في الفتنة ". اما النقطة الثالثة فقد تحدث الجورشي بخصوصها حول ثقافة المجتهد التي يجب ان تكون واسعة وتنطلق من الواقع المعيش وتمكن صاحبها من بعد النظر وبذلك يقع تنزيل الحكم الشرعي في سياق اللحظة التاريخية التي تسمى حكم المناط (حكم المناط هي حسن تنزيل الحكم على الواقعة) وهو شرط من شروط نجاح الفتوى وفعاليتها والا اصبحت اعادة لانتاج الماضي في سياق تاريخي مختلف وبلا من ان تكون الفتوى اجابة وحلا تصبح جزءا من المشكلة على حد تعبيره. سياسة "العصا والحلوى" من جهته يعتبر الدكتور سالم لبيض المختص في علم الاجتماع السياسي ان "علماء السلطان"تاريخيا كانت تمارس معهم سياسة "العصا والحلوى" فاذا قبلوا تبرير سياساتها والترويج لها لدى العامة فهي تكافؤهم وان هم رفضوا تدفعهم الى ذلك بالتهديد والوعيد على حد تعبيره، ويضيف في هذا الشان:"نجد هذا النوع من المفتيين والمشرعنين دينيا لسياسة الحاكم في كل التجارب السياسية ، ولعل اقصى ما عرفته التجربة التونسية هو تبرير افطار رمضان ابان حكم الحبيب بورقيبة وتبرير غلق المساجد زمن بن علي. عادة ما يستخدم الحكام الائمة للتاثير في الناس لكن ما تختلف به التجربة الحديثة لبلادنا عن التجارب السابقة هو كون السلطة السابقة كانت ذات طبيعة علمانية - مثل بن علي وبورقيبة ليسا رجالي دين- اما تجربة ما بعد الثورة ابان الحكومة المنتخبة ديمقراطيا فان امتلاك الحاكم بالمعنى السياسي للمرجعية الاسلامية او محاولة تقديم نفسه من خلالها كسلطة سياسية وفي الان نفسه امتلاك المؤسسة المسجدية وخطة الامامة بالذات في غالبها وليس كلها- لترويج سياساته وتقديمها لعامة الناس على انها القول الفصل دينيا يشكل نوعا من الخطورة خاصة لما بات بعض الائمة يتكلمون في قضايا لم يرتق الاجتهاد الديني الى ايجاد مواقف تجاهها بوصفها قضايا حديثة لم يخض فيها القدامى مثل قضية الاضراب والنقابيين ..". إعادة نظر ويواصل الدكتور سالم لبيض حديثه:"وان كان الدين له راي في الشان اليومي والعام للناس فان الالتقاء بين رجل السياسة والدين بجعل الاول بمنأى عن المحاسبة بوصفه تمثيل لكلمة الله في الارض ، كما ان الثاني سيكون محمي من قبل رجل السياسة حتى وان اخطأ في مواطن صعبة رغم ان كل بني ادام خطاء. ومن هذا المنظور وجب اعادة النظر في العلاقة بين الرجلين لانها اعطت في التاريخ دكتاتورية دينية بادوات يبايبة ذلك ان التجارب التي عاشتها الشعوب اسست الى رجل دين لحاكم حقيقي وواجهة شكلية لرجل السياسة لان السلطة كلها تتمركز عند رجال الدين وليس السياسة". أين المفتي؟ في ظل هذا التماهي بين رجلي الدين والسياسة تساءل كثيرون عن دور المفتي في هذه المرحلة وفي غيرها من الحقبات التاريخية حيث جمع بين المنصبين السياسي والديني ، وقد ظهر ذلك جليا ابان عهدي بورقيبة وبن علي اذ غاب الفصل في قضايا خلافية هامة وشائكة. فمفتي الجمهورية (كما يبينه الأمر 107 لسنة 1962) مستشار الدولة في شؤون الشريعة وأصول الدين والمراسم الإسلامية، ويضطلع بكل ما يسند إليه من مهمات دينية أخرى، مطالب الان اكثر من اي وقت مضى لممارسة مهمته الذي اختير لها خاصة في هذا الظرف الذي كثر فيه الفكر الجهادي التكفيري واختلط فيه الحابل بالنابل والسياسي بالديني.