نهاء الانقسام أمنية طغت على كل الآمال مع انتهاء السنة المنقضية وهي أمنية يدرك مريدوها ثمنها ووقعها عندما يتعلق الامر بسيادة الامم ومصائر الشعوب... الانقسام والتشتت الذي بات أشبه بالعدوى الخطيرة التي تهدد بالتمدد الى بقية دول الربيع العربي، لم يعد حلما فلسطينيا فحسب مع نهاية هذا العام بل حلما يراود الكثير من الشعوب التي تشعر أنها توشك أن تخسر كل تلك الاهداف النبيلة التي أجمعت بشأنها الشعوب في مواجهتها للاستبداد والظلم والفساد وفرقتها لاحقا الصراعات الحزبية والحسابات الضيقة التي صمت أذانها وشغلتها عن التحديات والرهانات الانية والمستقبلية ... ولا شك أن المخاوف من فخ الانقسامات اذا ترسخت وتجذرت بين أفراد الشعب الواحد ليست مبنية من فراغ ولكن مردها تجارب قائمة كانت ولا تزال برهانا على أن كل انقسام قابل للاستمرار والامتداد بين أبناء المجتمع الواحد أشبه بداء السرطان اذا ما استفحل بالجسد حيث لا تنفع معه كل الادوية والعقارات فينتهي الامر بصاحبه الى الاستئصال بكل ما يعنيه ذلك من خيارات أحلاها مر: فإما تشويه الجسد، أو فناؤه... والامثلة في ذلك متعددة: فصراع يوغسلافيا السابقة انتهى بها الى ثلاث دويلات (صربيا وكرواتيا والبوسنة والهرسك) وذلك بعد حرب عرقية مدوية انتهت باتفاقية دايتون ... وبالعودة الى أمنية العام التي رفع شعارها شعوب دول الربيع العربي فلا شك أنها ارتبطت بمشاعر الخوف والريبة ازاء التناقضات الحاصلة في هذه الدول التي تجد نفسها في مواجهة مخاطر التطرف والعنف السياسي الذي يجتاح ربوعها ويهدد مختلف فئاتها السياسية والاجتماعية وذلك نتيجة سنوات طويلة من التصحر الفكري وغياب ثقافة التعددية والقبول بالآخر واصرار أطراف دون غيرها على الهيمنة على المشهد السياسي والغاء الاخر بكل الطرق مرة باعتماد ورقة التكفير وأخرى بتوخي منطق العزل السياسي والاجتثاث بدعوى تحصين أهداف الثورة ومأن الشعوب التي ثارت على جلاديها غير قادرة على حماية الثورة من الانتهازيين والاعداء . وبالعودة الى مخاطر الانقسامات فان نظرة عاجلة على الخارطة العربية قد يكشف الكثير من الاسباب الكامنة وراء تلك المخاوف فالتجربة السودانية كفيلة بأن تلخص خاتمة المطاف عندما يسود منطق الهيمنة ويتغول توجه سياسي بعينه دون اخر ليقطع الطريق على كل تداول سلمي على السلطة والواقع أن تقسيم السودان الى سودانين شمالي وجنوبي ليس وليد اليوم ولم يبدا مع أزمة دارفور ولكنه - وهذا الاهم - بدأ منذ 1993 عندما أعلنت الحكومة السودانية استناد الحكم للشريعة دون مراعاة لبقية الاقليات المسيحية وغيرها والتي وجدت بعد سنوات من الصراعات سندا لها غير بريء بالتأكيد للمطالبة بالانفصال وتأكيد استقلالها عن الخرطوم بكل ما يعنيه ذلك من تفكيك للثروات الطبيعية والبشرية. والمخاوف من التقسيم تتجدد اليوم في العراق الذي يتجه الى مزيد الصراعات الدموية بين السنة والشيعة والاكراد، وقد يكون في "الاستقبال " المتشنج الذي حظي به صالح المطلك نائب رئيس الوزراء العراقي في الانبار وهو يتلقى الاحذية والحجارة ويضطر للهروب تحت طلقات العيارات النارية لحراسه، ما يؤكد أن المشهد العراقي ليس بمنأى عن مخاطر التقسيم التي تفاداها حتى الآن رغم سنوات الحرب الطويلة مع ايران ومنها حربا الخليج الاولى والثانية وسنوات الاجتياح التي جعلت العراق يعيش على حربا أهلية مدمرة. ومن العراق الذي لا يعد استثناء وهو الذي يزعج الكثير من القوى الاقليمية والدولية عندما يكون موحد الصفوف قويا ومتماسكا، الى المشهد السوري المرشح أكثر من أي وقت مضى للتفكك والانقسام أمام تفاقم الصراعات بين الجيشين النظامي و"الحر"، وهو الأمر الذي علق عليه باحث اسرائيلي بالقول أن ما يحدث في سوريا أفضل ما يمكن أن تطلبه اسرائيل وهي ترى عدوها اللدود يتهاوى دون أن تطلق رصاصة واحدة... والمؤسف أن مخاطر الانقسامات اليوم تكاد تكون ميزة دول الربيع العربي، وليبيا التي خربتها العصابات المسلحة ولا تزال اليوم في صراع غير محسوم في مواجهة التنظيمات المتطرفة التي تهدد وحدتها، والامر ذاته في اليمن الذي وبدل أن يتجه الى الاستفادة من الفرصة الجديدة التي تتاج له بعد سقوط نظام عبد الله صالح فإنه يصحو على مطالب بالعودة الى تقسيم اليمن بين جنوبي وشمالي وكأن الثورة قامت لإعادة تقسيم الشعب اليمني وتشتيت جهوده. وفي مصر لا يبدو المشهد بعيدا بعد الاعلان الدستوري الذي منح الرئيس المصري صلاحيات لا سابق لها لتكرس نتائج الاستفتاء على الدستور تقسيم الشارع المصري الى فئتين متناحرين وكأن الاسلامي والعلماني والمسيحي لا يحملون نفس الهوية... وفي تونس فإن الانقسامات الحاصلة بعد سنتين على الثورة تكاد تكون سيد المشهد، بل ان الانقسام الذي يتفاقم يوما بعد يوم في ظل خطاب سياسي يفرق الصفوف بدل أن يوحد بينها ويشحن النفوس ويدفع بها الى التباغض والتناحر والفتنة بدل التقارب والتكامل والتنافس على ما يمكن أن يخدم المصلحة الوطنية حتى بات الجميع يخشى أن تكون انتخابات 23 أكتوبر آخر انتخابات ديموقراطية في البلاد... قد يكون من المهم، في أعقاب هذه الومضات حول خطر الانقسامات عندما يفوق الحد المحتمل، التوقف عند المشهد الفلسطيني الراهن بكل ما يتخلله اليوم من دعوات اسرائيلية ملغمة قد تبدو في ظاهرها مؤيدة للتفاوض مع حركة "حماس" لكنها في الواقع تدفع الفلسطينيين الى مزيد الفرقة والتشتت والغرق في متاهات الصراعات التي لا تنتهي فتمنح الفرصة بذلك للاحتلال لمواصلة مشاريعه الاستيطانية وتدفع بالفلسطينيين الى الهاوية، بل ان الشعب الفلسطيني الذي خبر حجم وحقيقة المعاناة على مدى نصف عقد من التشتت والخلافات والتطاحن الى حد الاقتتال يدرك اليوم أنه لا مجال لعودة للقضية الأم التي غابت عن أغلب المنابر والمحافل الدولية والاقليمية بدون الكلمة السر التي فقدت بريقها ومغزاها وهي كلمة الوحدة التي باتت غريبة عن القاموس السياسي الفلسطيني. لقد كانت كلفة الانقسام الفلسطينيين باهظة وبلغت في أحيان كثيرة كلفة الاحتلال المهين، حتى أنه إذا حدث أن توجه مسؤول فلسطيني الى المجتمع الدولي للمطالبة بوضع حد لجرائم الاحتلال بات يجد في انتظاره تلك السمفونية المشروخة وتلك الدعوات التي لا تخلو من التهكم الى انهاء انقساماتهم بدل المطالبة برحيل الاحتلال... الاختبار القادم لدول الربيع العربي سيتحدد بالتأكيد في مهمة لم الشمل والاختبار لن يكون هينا، فأعراض ومؤشرات الانقسام تتفاقم وتستفحل، من تونس الى مصر وليبيا وسوريا والعراق والرهان لن يكون محسوما...