"إنّ كل الحروب التي قامت بها الدول الإمبريالية منذ سنة 1991 سواء في العراق أوأفغانستان أو ليبيا، وما يحدث في سورية وما يُخطّط له في "مالي" كلّه حروب تفكيكية... إنّ العدوان على "مالي" سيستهدف بالدرجة الأولى الجزائرالتي ستكون أولى الدول المتضرّرة منه وسيستهدف ثرواتها وسيادتها وهي التي احتفلت منذ فترة قصيرة بالذكرى الخمسين لاستقالها": (دانيال كلوغستاين،المنسق الثاني للوفاق، وأمين حزب العمال الفرنسي). حين يعلن وزيرالخارجية الفرنسي"لوران فابيوس" عن قبول الحكومة الجزائرية السماح للطائرات الحربية الفرنسية بعبورالمجال الجوي الجزائري بكل حرية ودون شرط أوقيد، لتشنّ غاراتها على مواقع الجماعات "الإسلامية الجهادية" المسلّحة في شمالي "مالي" ليضعها بذلك في ورطة حقيقية، وحين يلتزم صُنّاع القرارالجزائرين عدم الإدلاء ببيانات أوتصريحات رسمية توضح على الأقل وجهة النظرأو المقاربة التي أعتمدت لتغييرالموقف، يحقّ لنا طرح الأسئلة التالية: ما هي المعطيات والدوافع التي عدّلت الموقف المبدئي الرافض للتدخّل العسكري الخارجي، فما بالك إذا كان تدخّلا سافرا في شؤون دولة ذات سيادة أولا، وفي دولة إسلامية، ثانيا، وفي منطقة غاية في الحساسية الجيو-استراتيجية باعتبارها بوابتها الخلفية، ثالثا؟ ما هي ورقات الضغط أوالابتزازأوالضمانات، أو في حدّها الأدنى، التطمينات، التي تلقّتها الجزائرمقابل تورّطها من حيث تدري أولا تدري في مستنقع، هي تعلم علم اليقين أنّ ارتجاجاته لن تتوقّف عند الشمال المالي؟ ألم تقف الجزائرموقفا "حياديا"، حين نأت بنفسها عن تدخّل حلف شمال الأطلسي بليبيا، رغم علمها أنّها ستدفع ثمن موقفها ذلك باهظا؟ ألم يكرّرالمسؤولون الجزائريون على مسامع الجميع وعلى أكثر من صعيد، معارضتهم المبدئية لأي شكل من أشكال التدخّل العسكري في مالي، مُصرّين أن الحل الأمثل والأجدى لا بدّ أن يكون سياسيا وسلميا؟ ألم يرفضوا العرض الأمريكي الذي وافتهم به وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون،، خلال زيارتها الأخيرة، والمتمثّل في مشاركة القوات الجزائرية، جنبا إلى جنب مع قوات أفريقية أوغربية أو كليهما، التصدي للحركات "الجهادية" وفي حربها على كل من تصمهم ب"الإرهاب"؟ ثم ألا يمكن أن يُفسّرموقفها الأخيرعلى أنه مشاركة، ولو بشكل غيرمباشر، في هذا العدوان ممّا قد يزجّ بالجزائر في متاهات هي، الآن تحديدا، في غنى عنها؟ أين وكيف يكون الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، ، قد نجح حيث أخفقت وزيرة الخارجية الأمريكية، هيلاري كلينتون؟ لا يمكن مطلقا أن نقنع بهذا الحديث المكرورعن مجرّد احتمال "وجود مصلحة مشتركة بين فرنسا والجزائر" في شنّ هذه الحملة واقتراف هذه الخطيئة، ولا نقول خطأ؟ كما لا يشفع ولا يبرّرما ورد على لسان الدبلوماسي والوزيرالأسبق عبد العزيزرحابي الذي يصرّ على أن "الجزائرلا تملك أي خيار" حين يعلّق مسألة السماح باستخدام المجال الجوي على شمّاعة "التزام الجزائربالقرار الأممي عدد 2085، القاضي بتقديم تسهيلات عند نشرقوات عسكرية في البلاد". ولا حتى ما جاء على لسان المتحدّث باسم خارجيتها، السيد عماربلاني، المُصرّح: "ينبغي أن نلاحظ أن مالي، في إطارسيادتها الكاملة، طلبت مساعدة قوى صديقة لتعزيزقدراتها الوطنية في مكافحة الإرهاب". إن القبول بالتدخّل العسكري والسماح بعودة المستعمرالفرنسي إلى ما يعتبره حدائقه الخلفية، في منافسة محمومة مع الأمريكيين والصينيين لوضع اليد على مقدّرات أفريقيا، ضمنيا كان أو علنيا، قسرا أو رغبة، لن يقضي على هذه الحركات ولن يحجّم دورها. على العكس تماما فإنّ تشظّي هذه المنظّمات المسلّحة وتفرّقها في مسارح لها فيها امتداد وعمق وروافد، وفي واقع جيو-استراتيجي وجيو-سياسي متفجّر، وعلى حدود أقطارتعيش حالة من اللا-توازن، أوعلى حافة التحوّل إلى "الدول الفاشلة" في ظلّ مناخ الفوضى الأمنية والعسكرية، كل ذلك سيضاعف من حجم الخطرويوسّع دائرته. الأدهى والأمرأنّه قد يؤجّجه داخل الجزائرنفسها، خصوصا أن جذوره وفتائل ألغامه الكامنة والملجمة تتوالد كالفطرالسام، فما بالك إذا قُدّمت الذرائع والمبرّرات؟ سياسة المشي على الحبال، التي كانت في مرحلة ما مغرية، ما عادت آمنة وها قد عمدت فرنسا إلى توريطها في هذا الملف الإنفجاري بالغ الخطورة، وفي متاهات خوض حروب بالوكالة، التي لا تضمن مطلقا لا أمنا ولا قرارا سياديا، وإن توقّفت "العمليات النّوعية" عند الحدود الجزائرية. إنّ رهان حكومة الجزائرعلى أن العدوان الفرنسي الذي لا يستهدف كما هومُعلن "استئصال الجماعات الجهادية"، بل توظيف لهذه الذّريعة بغية التسلّل من جديد نحومجالات حيوية تخسرها تباعا، هو رهان غير مضمون ومغامرة غيرمأمونة العواقب. ففرنسا هولاند لا تختلف كثيرا عن فرنسا ساركوزي، إذ السياسات والاستراتيجيات الكبرى تحدّدها المصالح الحيوية للدولة، وإذا كان ساركوزي قد أرسل طائراته وعينه على آبارالنّفط الليبية، ما حدا ببارلسكوني أن يصرّح ودون مواربة: "ما حدث في ليبيا جرى وفق قرار للحكومة الفرنسية بالذهاب إلى هناك والتدخّل في نزاع داخلي وتقديمه أمام المجتمع الدولي في إطار ثورة"، فإنّ فرانسوا هولاند، يرسلها لوضع اليد على مقدّرات مالي وثرواته: مناجم اليورانيوم المالية النيجيرية، على سبيل الذكرلا الحصر! أما الحديث عن "إيقاف هجوم المجموعات المسلّحة الإرهابية باتجاه الجنوب" وعن "تفادي انهيارمالي" وعن"والمسارالسياسي ومسار التنمية"، كما يحاول لوران فابيوس، إيهامنا، فمغالطات وضحك على ذقون من يتراقصون كما تراقص بعضهم في بن غازي رافعين أعلام الغزاة! مُمتنّين شاكرين لفرنسا عمليات "هرّها الوحشي، Opération Serval"! من تخونه ذاكرته فليعد بها قليلا، قليلا إلى أفغانستان والعراق، أو حيثما حلّت قوات المستعمر. واهم أيضا من يعتقد أن عملية "الهرّ الوحشي" ستكون مجرّد نزهة. فهذا وزيرالدفاع الفرنسي" جون ايف لو دريان"، نفسه، يقرّمناقضا تصريحات سابقة منتشية بخمرة ذاكرة استعمارية أنّ: "الوضع صعب". وأنّهم كانوا "يدركون من البداية أنّ العملية ستكون صعبة جدا"! الجنرال كارترهام، قائد القيادة المركزية الافريقية، هوالآخر، يُعزّز نفس التصوّربقوله: " إنّ عملية مواجهة الجهاديين في مالي مُعقّدة وتحتاج لأشهرمن التخطيط، نظرا لارتباط الأزمة بأكثرمن طرف في المنطقة ولأن الحكومة في "مالي" أصبحت ضعيفة بعد الانقلاب." هؤلاء الذين يوهموننا أنهم بعدوانهم هذا إنّما يحاربون "الإرهاب" ويجتثّون حركات تهدّد الأمن والسلم، هم أنفسهم من زرعوها ودرّبوها وسلّحوها!! الاستراتيجيون وصنّاع القراروالولايات المتحدة تحديدا، أسّسوا لسيطرة هذه الجماعات "الجهادية" المتمركزة في المنطقة، على قوس يخترق أهم المصالح الاستراتيجية الفرنسية، والغربية عموما، في منطقة تتجاوز مساحة القارة الأوروبية ذاتها، بدءا من مالي فموريتانيا فالنيجر، أين تختزن أضخم مناجم اليورانيوم. هناك حصلت شركة "أريفا"، الفرنسية على امتيازات استغلالها منذ عقود، وهي التي تزوّد ثلث المفاعلات المنتجة للطاقة في فرنسا بالوقود النووي. ● باحث في الفكرالإستراتيجي الأمريكي، جامعة باريس