اليوم تونس الجريحة الشهيدة.. الثكلى بآلام شعبها ودماء شهدائها الأبرار ودموع أبنائها.. تنتحب وتبكي.. وتودع شهيد الحرية شكري بلعيد، شهيد الديمقراطية الجنين الذي يريدون اجهاضه.. والحرية التي ما زلنا نرنو اليها ودفع من أجلها الشعب الغالي والنفيس.. اليوم ما كان يخشاه الجميع وحذر منه العقلاء وكل العائلة الديمقراطية الوطنية الشريفة.. وقع أخيرا وحدث فعلا.. شكري بلعيد الذي استغاث طلبا للحماية الأمنية، وفضح بالدليل القاطع خفافيش الظلام -كما يسميهم دائما- حين هددوه بالتصفية والقتل، واستهدفوه بالضرب والشتم والاعتداء بمناسبة او غير مناسبة.. استشعر فعلا حتفه وتوقع اغتياله. تصفية شكري بلعيد واغتياله ماهو الا مقدمة لاغتيال الديمقراطية الناشئة في تونس وارباك الوضع الأمني الهش ومحاولة لإشعال فتيل الفتنة والحرب الأهلية.. اغتيال بلعيد لم يكن الأول حتى نستفيق وتستفيق النخبة السياسية وأصحاب القرار في البلاد، فقد كانت حادثة اغتيال لطفي نقض في تطاوين قبل أشهر ناقوس انذار لم يأبه به على ما يبدو البعض.. ولم تعره بعض الأحزاب اهتماما واضحا وصريحا، ولم يتخذ في شأنها موقفا صارما واتخاذ القرارات الجريئة لتطويق العنف السياسي نهائيا من اجل ضمان سلمية الانتقال الديمقراطي وحد أدنى من الأمن والطمأنينة، كانت النتيجة أن تمادى من لا يريد الخير لهذه البلاد في تأجيج الاحتقان السياسي، وكبرت ظاهرة العنف ككرة الثلج فكانت الاعتداءات المتكررة على اجتماعات الأحزاب وعلى السياسيين مهما كانت انتماءاتهم وعلى المثقفين والإعلاميين حتى باتت لا تحصى ولا تعد.. وغلبت للأسف صيحات العنف والتأجيج والترهيب والتخوين وخطابات التطرف والتشدد، صيحات التعقل والتهدئة والحوار وكان العنف أعلى صوتا وأكثر استعدادا لاحتلال المشهد السياسي العام وربما تحريكه ودفعه لمزيد الاحتقان. اغتيال الشهيد شكري بلعيد ماهو الا نتيجة لتهاون الجميع في احتواء العنف السياسي، والكل يتحمل المسؤولية وعلى رأسها الحكومة وخاصة الطبقة السياسية والرموز السياسية لمختلف الأحزاب والمجلس التأسيسي.. لقد نبه الكثيرون وحذروا من خطورة التجاذبات السياسية والتهاون في التعامل مع ظاهرة العنف السياسي والتسامح مع مريديها ومؤيديها والفاعلين فيها، وكان العديدون عرضة للعنف أو للتهديد ومنهم اعلاميون ومثقفون ونخب سياسية في السلطة والمعارضة أمثال الشيخ مورو ونجيب الشابي، والشهيد شكري بلعيد وكانوا ضحايا له وطالبوا بضرورة انهاء حمى العنف.. والجلوس على طاولة الحوار من أجل تونس ومن أجل سلمية المسار الانتقالي. لقد تحرك العديدون من الحريصين على مصلحة البلاد وانتقلوا للفعل فصدرت دعوات الحوار السياسي من أكثر من جهة، شخصيات واحزاب ومنظمات.. ولعل في مبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل في أكتوبر الماضي خير شاهد على ذلك.. لكنها للأسف كانت منقوصة فلم يلب الدعوة لمؤتمر الحوار ممثلي أكبر شريكين في الحكم ونعني بهما حزبي المؤتمر والنهضة بدعوى مشاركة حركة نداء تونس.. رغم نجاحها النسبي في لم شمل القوى السياسية وخرجت بتوصيات ذهبية لم ترى طريقا للتفعيل والتطبيق. ومازاد في الطين بلة فشل التوافق على التحوير الوزاري ووصلت المفاوضات السياسية لتوسيع الحكومة وتشريك أكبر عدد ممكن من القوى السياسية الوطنية إلى طريق مسدود بفعل غلبة المصالح الحزبية والفئوية الضيقة على المصلحة الوطنية، وتبادل الاتهمامات من هذا الشق او ذاك سواء من داخل الشركاء في حكومة الائتلاف انفسهم، او من خارج الائتلاف من قوى المعارضة، في فشل التوصل إلى توافقات لتشكيل حكومة جديدة على اسس ونظرة جديدة قوامها التمهيد لإنجاح الانتخابات المقبلة وتأمين التوافق السياسي ومقاومة العنف ومحاسبة الفاسدين..وظني أنه لو نجح الفرقاء السياسيون في تشكيل حكومة وحدة وطنية او حكومة تكنوقراط كما دعا اليها البعض مع تحييد وزارات السيادة..لما وصلنا إلى هذا الوضع الخطير الذي تمر به البلاد. اليوم لا بد من وقفة حازمة وصارمة وثورية بحق للتصدي للعنف، وإن كان لا بد من قرارات مؤلمة وتنازلات فلتكن، فنحن في مفترق طرق إما الاكتفاء بالتنديد والترحّم على دماء الشهيد والشهداء قبله -وهذا المنطق لن يخرجنا من دائرة الجدل والتجاذبات السياسية- أو التوحّد من أجل تونس والوقوف وقفة رجل واحد وأمة واحدة ضد العنف، وتغليب منطق العقل والحكمة، والذهاب فورا نحو حل الحكومة وتشكيل حكومة انقاذ وطني او حكومة وحدة وطنية، وبعث رسالة قوية إلى من يقف وراء اغتيال بلعيد، أن لن نيأس وسنتوحد من أجل عزة تونس واستكمال اهداف الثورة النبيلة السلمية ولن ننجر ابدا نحو اراقة المزيد من الدماء والعنف..