- حين تختلط مشاعر الحزن العميق بقوة الإرادة والإيمان بالتغيير الايجابي لحياتنا لا يمكن إلا أن تتحول المأساة إلى رغبة انتصار ممزوجة بالأمل فتجتاح نسمات السعادة ملامحنا ولعل هذه المشاعر المختلطة هي التعبيرة الأكثر ارتساما على وجوه التونسيين الحاضرين في تظاهرة "فنانون ضد الجريمة"، التي نظمت يوم الأحد أمام منزل شهيد الوطن شكري بلعيد.. هم مواطنون تونسيون دون انتماء إيديولوجي أو حزبي يفرقهم.. فأغلبهم لم يكونوا من أنصار الجبهة الشعبية بقدر ما كانوا من أنصار الثورة التونسية (شغل، حرية، كرامة وطنية)، الشعار الأكثر بروزا مساء الأحد في تظاهرة "فنانون ضدّ الجريمة".. ما ميز هذا الاحتفال الملتزم بضرورة مقاومة العنف بالفكر والكلمة الحرّة، حضور عائلات تونسية زاد في قيمة احتفالهم حضور البراعم الصغيرة الحاملين لعلم تونس.. هم أطفال عبروا ببراءة عن أحلام ثورة كادت تضيع بين مجالس الساسة فيما كان شباب النخبة التونسية حاضرا بإبداعاته وانتشرت ملكاته ومواهبه بين زوايا الفضاء المخصص للاحتفال فبعضهم اتخذ من النحت والرسم لونا تعبيريا فيما كان الشعر والغناء والعزف مواهب لآخرين.. أمّا المسرحيون فتجولوا بين الحضور يبثون الأمل في نفوس المواطنين ويتحاورون حول أفكار تلتقي أحيانا وتختلف في أحيان أخرى.. فاغتيال شكري بلعيد ورغم ما تركه من حسرة عميقة في قلوب التونسيين إلا أنه كان الصدمة التي جعلت الكثيرين يستفيقون من سباتهم ويفتحون فكرهم للحوار من أجل تونس الثورة. "الصباح" واكبت تظاهرة "فنانون ضد الجريمة" المنظمة من قبل نقابات المهن الفنية ونذكر منها نقابة المهن الدرامية المبادرة بهذه الخطوة بدعم من نقابتي المهن التشكيلية والموسيقية.. وهناك أمام بيت الشهيد شكري بلعيد تأكدنا أن تونس لن تكون أرضا للسواد حيث رفرف رمز الوطن عاليا ببياضه الناصع ولون دماء شهدائه على مرّ الأزمان.. علم تونس ارتسم على جدران الحدائق المجاورة لموقع اغتيال شكري بلعيد بأنامل أطفال لم يخطئوا رسمه وفنانون يحملونه في فكرهم وأصواتهم حيث ردّد الفنان لزهر الضاوي كلمات هي أكثر من أغاني ملتزمة ولعلها صور من تاريخنا التونسي الزاخر بالآلام والآمال حفظها الحاضرون وردّدوها صحبة أبنائهم بإحساس يفرض على الهازئين بقدرة التونسي على الاختيار والقرار المخجل من جهلهم.. الحلم بوطن أفضل هل الحلم بوطن أفضل ينعم فيه أبناؤه بالكرامة والحرية ويشرق بألوان فكرية وعقائدية مختلفة يجعل من الفنان ضرورة يساريا عند البعض ولعله ملحد وكافر في مواقف أكثر تطرفا.. هل الفنان والمثقف الذي يدعو للحوار ونبذ العنف وقتل النفس وإسقاط تونس في هوّة الاغتيالات هو عدوّ للوطن؟ هذه التساؤلات طرحتها النخبة المثقفة في بلادنا منذ الأيام الأولى للثورة التونسية وقد اصطبغت ملامحها بأمل في ثقافة بديلة يحميها انعتاق البلاد ودخولها في مرحلة تنعم بالحرية بعد سنوات نوفمبرية أساءت كثيرا للثقافة غير أن رياح اليمين لم تأت بمشروع ثقافي واضح ولم تلتق في أفكارها مع أهل الفن لتكون القطيعة ثمّ البيانات التنديدية فأعمال العنف والتهديدات والاعتداءات فصار الفنان عاملا مقاوما لظلامية قدمت من بعيد عوض أن يكون عاملا مساندا في بناء تونسالجديدة.. هذا الحال طالما تحدثت عنه الفنانة ليلى طوبال الكاتب العام لنقابة المهن الدرامية وطالما أصدر الهيكل الذي تمثله بيانات تحذر من العنف وفي لقائها مع "الصباح" مساء الأحد - احتفالا بشهادة شكري بلعيد- كما وصفتها كاتبة إبداعات مسرح الحمراء قائلة: "تظاهرة 'فنانون ضد الجريمة' هي دفاع عن هويتنا التونسية نكرم خلالها شهيد الوطن شكري بلعيد الذي لن نقبل فيه العزاء لأننا لا نبكي شهداءنا بل نزفهم" وأضافت محدثتنا قتلة شكري بلعيد أرادوا إبلاغنا رسالة ونحن نقول لهم لن يردعنا التهديد وسنواصل محاربتنا للتطرف والعنف كما شددت ليلى طوبال على أن كل من ساهم في تنظيم تظاهرة "فنانون ضد الجريمة" لن يغادروا تونس، باقون للمقاومة وإن من قدموا مطالب للهجرة من فنانين (قرابة 3500 طلب هجرة) لا يعنيهم فمازال في تونس نخبة لن ترضخ لأعداء الفكر الحر. أمّا الفنان والنقابي أنس العبيدي فاعتبر الاعتداء على الحضارة والثقافة والفكر هي من أبشع أنواع الاعتداءات مشيرا إلى أن الفنانين من نقابيين وغيرهم لن يصمتوا أمام تزايد العنف تجاه النخبة من مثقفين وإعلاميين مشيرا إلى أن اغتيال شكري بلعيد هو اغتيال للفكر فينا قائلا: "نحن صامدون وسنحارب الظلاميين بالفن والكلمة وأدعو الشعب التونسي لأن يعي مخاطر هذه الهجمة الظلمية على هويتنا وثقافتنا". ومن جهته أكد الممثل نصر الدين السهيلي أن الثورة ومكاسبها أذابت القطيعة بين المواطن التونسي ونخبته الفنية والإعلامية مشددا على أن التونسي واع بما يحدث وأصبح قادرا على التمييز بين من يخدعه ومن يقدم له الحقيقة لذلك نشاهده اليوم مساندا للفنان الصادق والإعلامي الموضوعي في نقله للأحداث وهذه التظاهرة هي صورة عن حالة الاكتشاف من جديد التي يعيشها التونسيون مع نخبتهم الثقافية. وكشفت الممثلة نجوى ميلاد أن اغتيال الشهيد شكري بلعيد هو منعرج بالنسبة للنخبة التونسية ولا يمكنها بعد مقتل هذا القيادي السياسي والمناضل أن تعود لسباتها وحان الوقت للوقوف في وجه كل من يحاول جرّ تونس لمستنقع الاغتيالات والقتل فهذه ليست تونس الحضارة والاعتدال والثقافة فيما بين الرسام محمد علي العيادي أن اغتيال شكري بلعيد أثر كثيرا على الفنانين في تونس لأن اغتياله هو تهديد للكلمة والفكر الحرّ وأصبح الفنان دون أن يشعر يمارس رقابة ذاتية على إنتاجه الفكري والفني فيما وصف رسمه لملمح شكري بلعيد هو نقل لما يعنيه له هذا الشهيد فهو رمز لفكر معين. تظاهرة "فنانون ضد الجريمة" تنوعت ألوانها وأنماطها واجتمعت أصوات فنانيها منادية بحب الوطن حيث تميز صوت روضة عبد الله وأمتع الفنان لزهر الضاوي الحضور الذين تفاعلوا كثيرا مع آمال الحمروني ولبنى نعمان والقراءات الشعرية والمسرحية وكان من أبرز الفنانين الحاضرين نور الدين الورغي وعز الدين قنون وسليم الصنهاجي وصباح بوزوية وغيرهم. وقد شهدت التظاهرة نخبا مثقفة من عدد من البلدان العربية وأجانب كما واكبها عدد كبير من الإعلاميين. نجلاء قموع