بالرغم من تجاهل اهل السياسة واصحاب السلطة الراي العام الا ان الشعب فرض نفسه في العديد من المواقف والقرارات واعطى كلمته خاصة مع انتشار عمليات استطلاعات الراي العام او ما يعرف بالقياس واصبح السياسيون واهل الاختصاص في الكثير من المجالات الحيوية، الاقتصادية منها والاجتماعية يتعايشون ويتفاعلون مع نتائج استطلاعات الراي وعلى اساسها يقررون البرامج والخطط بالزيادة او بالنقصان. وتعتبر البلدان المتقدمة عريقة في تقنية استطلاعات الراي العام لان ظهورها كان مبكرا، على خلاف المجتمعات العربية والبلدان النامية الحديثة العهد في استعمالاتها بالرغم من انتشارها الملحوظ في الاونة الاخيرة لا سيما بعد ثورات الربيع العربي، الشيء الذي يجعلنا نقف عند جملة من نقاط الاستفهام حول الاساليب والمناهج المعتمدة في عمليات استطلاعات الراي ومدى نجاعتها في هذه المجتمعات. ألفت البلدان المتقدمة التي تنتهج الديمقراطية وتعتمد على مبدا سيادة الشعب التعامل مع تقنية قياس الراي العام، الا انها عرفت العديد من الصعوبات التي ابت الا ان تفقدها قيمتها وتوقعها في خانة التشكيك والتضليل. ولعل ابرز حادثة في هذا الصدد هي التي عاشتها الولاياتالمتحدة في منتصف الثلاثينات حين ارسلت مجلة "ليتراي دايجست" الامريكية 10 ملايين استبانة عبر البريد في الانتخابات الرئاسية انذاك، واعيد منها مليون استبانة فقط تلخص هزيمة الرئيس فرانكلين روزفلت امام منافسه حاكم كنساس الفريد لاندون في حين كشفت نتائج الانتخابات فيما بعد فوز روزفلت باغلبية ساحقة الشيء الذي جعل الولاياتالمتحدةالامريكية تكثف من مساعيها لتطوير آليات ومناهج تقنية استطلاعات الراي العام مرورا في السبعينات الى اعتماد نوعان من الاستطلاع ويسميان استطلاعات المتابعة والاستطلاعات اللاحقة وصولا الى اعتماد آليات حديثة وتقنيات متطورة تستند الى برامج عالية الجودة في ضمان سرية المعلومات لا سيما تلك التي تنجز عبر المواقع الالكترونية. وانتهجت معظم البلدان الاوروبية نفس المنهج الذي سارت عليه الولاياتالمتحدةالامريكية في الاهتمام بتقنية قياس الراي العام وعيا منها بالأهمية البالغة التي تكتسيها من خلال نتائج استطلاعات الراي في العديد من المجالات ومدى نجاعتها في تلك البلدان من ذلك الانتخابات الرئاسية الايطالية التي اجريت مؤخرا وسط صعوبات كبيرة خاصة مع تقارب التصويت بين المترشحين، الاول بير لويجي برساني زعيم حزب اليسار والثاني برلسكوني من تحالف اليمين. وقد سبقت نتائج هذه الانتخابات نتائج لاستطلاعات الراي العام التي قامت بها العديد من الشركات الخاصة والحكومية في ايطاليا وحازت على اهمية من ناحية مصداقية الاجابات الى حد ما.. وتعتبر البلدان النامية وبلدان العالم العربي حديثة العهد في استعمالات استطلاعات الراي العام بالرغم من انتشارها مؤخرا لا سيما في بلدان الربيع العربي بواسطة العديد من المؤسسات والشركات التي تعنى بقياس الراي العام سعيا منها للتأثير في صناعة القرار السياسي الذي يمثل تحديا كبيرا في الوطن العربي الا ان جملة من الصعوبات والاشكاليات التي تعترض عمليات استطلاعات الراي العام في المنطقة العربية تحول دون نجاحها من ذلك ضعف البنية المؤسساتية لعملية صناعة القرار ومؤسساته والفردية المطلقة في القيادة والحكم وعدم الاعتراف بالراي الاخر والخضوع له. ولا يفوتنا في هذا الصدد نسبة الوعي لدى اهالي المنطقة العربية ومدى تقبلهم لمثل هذه التقنيات في ابداء ارائهم لعدم تعودهم التغلغل في السياسة ولا حتى التلميح في الحديث عن الساسة واهل السلطة لان هذه الشعوب لم تتذوق طعم الديمقراطية الحق عبر سنوات حكمت فيها حكام عشقوا الكراسي ورموا بالراي العام عرض الحائط. وهذه الحقائق التي تعيشها بلدان العالم العربي تفرض نمطا معينا في تقبٌل الكم الهائل من الارقام التي تطل علينا بين الفينة والاخرى بواسطة شركات ومؤسسات حكومية تعنى بقياس الراي العام في مجال السياسة بالخصوص، وترشح حزب دون اخر ورئيسا دون غيره وكثيرة هي النتائج التي تفرزها عمليات استطلاعات الراي العام. ومع ان ممارسة الاستقصاء في العالم العربي تعتبر ضعيفة وتشوبها بعض النقائص الا انه لابد من تواجدها في تلك المنطقة لان معرفة اراء ومواقف الناس وميولاتهم السياسية وغيرها امر ضروري في بناء ديمقراطية صحيحة تُنسج على منوال الشعوب المتقدمة في العالم وهو ما ذهب اليه احد المختصين العرب في مجال سبر الاراء عندما قال "عندما نعطى نتائج وارقام زائفة ومغلوطة امر شديد الخطورة، لكن ذلك لا يعني تجاهل اراء ومواقف الناس"، وتأكيده على ضرورة "تطوير هذه التقنية واجراء دراسات استقصائية تعكس الواقع العربي بدقة والابتعاد عن كل الضغوط والإغراءات التي تمارس على مؤسسات وشركات استطلاعات الرأي في المنطقة العربية". ولكي يتسنى كسب ثقة الجمهور حول هذه التقنية التي اهتزت في العديد من المرات لا سيما في بلدان الربيع العربي، لا بد من تطبيق قانون يُعنى بمراقبة الدراسات الاستقصائية واحترام آلياتها.