" - الشعب.. يريد.. إسقاط النظام".. ربما لم ينتج العرب على مدى تاريخهم المعاصر شعارا مكثفا ومشحونا بذلك الكم الهائل من التحدي والرفض والصدامية مثل هذا الشعارالذي مثل قطيعة حادة بين ثقافة الخضوع والقابلية للاستبداد التي هيمنت على الشخصية العربية طيلة قرون. وبين الإرادة في التحررومواجهة سلطة الدولة القمعية والرفض الكامل لأجهزتها التسلطية الفاسدة، وهي الأقانيم التي مثلت العناصرالأساسية التي تؤثث حاليا معظم الحركات الاحتجاجية التي تموربها بعض أرجاء الوطن العربي المنتفضة. وهوما سوف يقلب مجمل المنظومة القيمية التي طبعت المرحلة السابقة رأسا على عقب، ويعيد التأسيس لمرحلة جديدة ولمنظومة قيمية جديدة قد لا تجد لها تأصيلا في الإرث الاستبدادي الممتد عبرالحقب ولكنها بالتأكيد سوف تنجح في آخر المطاف في إعادة هيكلة الشخصية العربية وفق قيم العصروفي مقدمتها قيمتا الحرية وكرامة الإنسان . لكن يبدوأن المسألة ليست بهذه البساطة ولا يمكن اعتبارها البتة مجرد عملية تحوّل ميكانيكية لا تتطلب أكثرممّا تتطلبه عملية تحويل سكة القاطرة من وجهة إلى أخرى، بدليل استمرار رفع هذا الشعار الصدامي بقوة حتى في الأقطار التي نجحت في التخلص من أنظمتها الاستبدادية وبدأت بعدُ في قطع خطواتها الأولى في مسيرة البناء الديمقراطي أو فيما يفترض فيها أن تكون كذلك. ولعل في المثالين التونسي والمصري أسطع دليل على هذه المفارقة باعتبار تنامي الحركات الاحتجاجية الرافعة لشعارإسقاط النظام في هذين القطرين، ليس في وجه" بن علي" أو "مبارك" وإنما في وجه من أفرزتهم الثورة كحكام جدد حاملين لآمال الناس في التحرر والكرامة والعدالة الاجتماعية. قد ينطرح التساؤل هنا عن الهدف من رفع هذا الشعار/الموقف وهل أنه يعكس حالة من الإحباط واليأس من الثورة واستتباعاتها، أم أنه على النقيض من ذلك يمثل التعبيرة القصوى للإرادة الشعبية في الذهاب بالحالة الثورية إلى أقصى مداها ونقلها من خانة الضبابية والتيه إلى خانة الممكن والمتحقق فعلا على أرض الواقع. قد لا يكون من المبالغة القول هنا إن ما نشهده حاليا من تصاعد لحدة الاحتجاج في وجه السلطات الجديدة التي أفرزتها تداعيات ما يسمى "بالربيع العربي" هو في واقع الأمر نتاج ذينك الموقفين المتناقضين؛ موقف اليأس من الثورة وموقف الإرادة في فرض التغييرالحقيقي على الأرض. ولا يعني اليأس هنا تلك الحالة النفسية المدمّرة التي تشل قدرات الإنسان على الفعل والإنجازبل هو لحظة رفض لواقع متعفّن وإعلان براءة ذمة من المولود المشوه الذي انقذف فجأة من رحم الثورة. لذلك فإن شعار"الشعب يريد إسقاط النظام" ليس في حقيقة الأمرنزوعا نحو الفوضى والعدمية بقدرما هو تعبيرصارخ عن موقف من ذلك النظام ورسالة واضحة العنوان ومضمونة الوصول فحواها أن تلك السلطة قد سقطت فعلا في نفوس المحكومين وفي أذهانهم ولم تعد لها تلك "الهيبة" التي تتيح لأية سلطة أن تستمد مقومات استمرارها ومشروعيتها. وبالعودة إلى المثالين التونسي والمصري وبالاعتماد على ما بينهما من تشابه في الحيثيات والوقائع إلى حدود التطابق، فإنه بإمكاننا رسم صورة عامة مشتركة بين النموذجين من شأنها أن تعطينا فكرة مبدئية عن الملامح الكبرى للمآلات التي تسيرإليها مختلف الانتفاضات المندلعة حاليا في بعض الساحات العربية. ودون التطرق إلى مسألة التداخل والتشابك بين خارطة الأهداف الوطنية وبعض الأجندات الخارجية والتي تبدو جلية للعيان في الحالة السورية مثلا، فإن الملمح الأساسي الذي يكاد يتكررفي أغلب فصول هذا "الربيع العربي" هوأن مجرد إسقاط النظام الدكتاتوري القائم لا يكفي لوحده لتحويل تلك الانتفاضات إلى ثورات حقيقية تقطع نهائيا مع آليات الاستبداد ووسائل اشتغاله وترسي أسس الدولة الديمقراطية المدنية الحديثة القائمة على مبدأي الحرية واحترام كرامة الإنسان. ولا أدلّ على ذلك من مسارعة الحكام الجدد الذين أفرزتهم صناديق الاقتراع إلى الانقلاب على الأهداف الحقيقية التي ثارت من أجلها الجماهير، ومحاولتهم امتصاص ذلك الفوران الثوري بالزيغ به نحو مسارات ثانوية متشعبة لا علاقة لها بتلك الأهداف المبدئية الواضحة. وعوض أن يعمل هؤلاء الساسة على التأقلم مع الواقع الجديد المنبثق عن تلك الانتفاضات والاستجابة للتحديات التي فرضتها استحقاقات الانتقال الديمقراطي، راحوا يحاولون تكييف هذا الواقع وفقا لمرجعياتهم الفكرية والعقائدية مع ما يستتبع ذلك من محاولات لتطويع الإرادات ولجم للأفواه وتقييد للحريات العامة والفردية بشتى الوسائل والسبل سواء منها الموروثة عن الأنظمة القديمة المتهاوية أوحتى تلك الجديدة والمستحدثة والتي اتّخذت مسمّيات عدّة لا علاقة لها بالقواعد المتعارف عليها في التجارب الديمقراطية الأخرى. من ذلك مثلا العمل الممنهج على إثارة النعرات الدينية والطائفية والمذهبية وتجنيد الجيوش الجرارة من الأئمة والدعاة لذلك الغرض، وفي المقابل العمل على إفراغ فكرة الديمقراطية من مضمونها الحقيقي والاشتغال بقوة على مسألة الخصوصيات الثقافية والحضارية لتدميرالبعد الكوني الشامل لتلك الفكرة. إلا أن اللافت للانتباه هنا أن هذا التعامل المشوّه مع المسألة الديمقراطية لم يكن نابعا بكليته عن نيّة مبيّتة في إعادة إرساء الدكتاتورية من جديد، وإن كان كذلك في جانب هام منه، غيرأنه في جانب آخرهو نتاج طبيعي لعدم تأصل مبدإ الديمقراطية في مرجعيات هؤلاء الحكام الجدد وأدبياتهم، بمعنى أن الافتقاد إلى المرتكزالفكري الواضح والصادق لمسألة الديمقراطية ولمجمل القضايا والإشكاليات المتعلقة بها هوالذي من شأنه أن ينعكس بصورة مباشرة على ممارسات هؤلاء الحكام حال استلامهم لمقاليد الحكم. ولعل المتأمل في نوعية تعامل السلطات الجديدة مع القضايا المحورية والمفصلية في عملية البناء الديمقراطي من قبيل تحريرالإعلام واستقلال القضاء وفصل السلطات وحياد الإدارة... يتبين له بوضوح مدى التخبط الذي طبع ذلك التعامل وحجم النتائج الكارثية الناجمة عنه. لذلك كان من المتوقع أن تعاود تلك الجماهيرالثائرة الخروج إلى الشارع من جديد والهتاف بنفس الشعارات التي رفعتها بالأمس القريب في وجه دولة الاستبداد والفساد، وذلك حتى تبقى بوصلة الثورة دوما في اتجاهها الصحيح نحو أهداف الحرية والكرامة والعدالة والمساواة والعيش الكريم. ومن نافل القول هنا أنّ تحقيق هذه الأهداف الأساسية لا يستدعي تنظيرات إيديولوجية أوعقائدية قادمة من الزمن البعيد بقدر ما يستدعي انفتاحا على متغيرات الواقع وإقرارا بقدرة الشعوب على فرض كلمتها وإرادتها في تحقيق هدفها الاستراتيجي البعيد المتمثل في قيام دولة الحق والقانون. وحتى ذلك الحين من الطبيعي جدا أن يبقى شعار"الشعب يريد إسقاط النظام" سيفا مصلتا على رقاب كل من يتوهم القدرة على مخاتلة تلك الإرادة الشعبية التي أثبتت الوقائع اليوم أنها لا تزال عصية على التدجين. موظف