لم يكن يوم أمس عاديا في شيء في الذكرى السابعة والخمسين للاستقلال التي استعدت لها البلاد كأفضل ما يكون الاستعداد احتفاء بالحدث الذي يحل هذا العام بعد سنتين على الثورة التي اعتبرها الكثيرون منعرجا ومتنفسا لاستكمال السيادة برفع راية الحرية والخلاص من الغطرسة والظلم والفساد والاستبداد... بالأمس وفي الذكرى السابعة والخمسين للاستقلال لم يبق شارع أو ممر أو حارة في البلاد لم تحتفل بذكرى الاستقلال ولم يقف فيها السياسيون وأصحاب القرار في البلاد تحية اكبار للحدث الذي قدم لاجله التونسيون لغالي والنفيس من أجل رحيل المستعمر الذي تكبر وتجبر في البلاد واستنزف ثرواتها واستباح حرماتها بعد أن تملكه الطمع في أن تتحول تونس الى جزء من فرنسا. بالأمس وفي الذكرى السنوية للاستقلال عشنا على وقع أجمل الايقاعات والابداعات التي فرضها الحدث حتى كادت كل الجدران تنطق فخرا بهذا اليوم وكادت مؤسسات الدولة تهتز اعتزازا بتضحيات الأجيال السابقة واعترافا بدورها في تتويج المعركة النضالية بإعلان الاستقلال... بالأمس كم سعدنا وكم بنينا من الاحلام والطموحات ونحن نرى خروج الأطفال والنساء والرجال محملين بالاعلام والرايات الوطنية ليحيوا ذكرى عزيزة في نفوس جميع التونسيين والاشتراك في التغني بصوت واحد بالنشيد الوطني المظلة الجامعة لكل فئات المجتمع الذي مهما اختلفت توجهاته وخياراته وانتماءاته الفكرية والسياسية وغيرها لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يختلف حول الثوابت الأساسية والمواعيد الوطنية والمحطات التاريخية رمز الماضي ولكن أيضا رمز التواصل بين الحاضر والمستقبل... عذرا على هذه المقدمة وعذرا على كل الحقائق المقلوبة التي تضمنتها والتي فرضتها أحداث الامس والوقائع الباهتة التي رافقت احياء الذكرى السنوية للاستقلال وما تخللها من كلمات وتعليقات لابناء هذا البلد ممن نزلوا صباح الامس الى شارع بورقيبة مرفوقين بأبنائهم وكانوا يمنون النفس بلحظات انتماء واعتزاز صادقة في حجم الحدث فلم يجدوا غير السأم بما ساد قلب العاصمة كما ساد جل المدن من تغييب للحدث بما فرض التساؤلات على كل الحضور حول ما اذا كان التقصيرأمر مقصود أم ما اذا كان التعتيم يتنزل في اطار الخطأ في تقدير الحدث وفي تأثيره ذلك على الرأي العام... طبعا لا يمكن تجاهل الاحتفالات الرسمية في القصر الرئاسي بقرطاج في ذكرى الاستقلال ولا تجاهل خطاب رئيس الدولة المؤقت ودعوته المباشرة للاعلام بالتهدئة وتجنب التشنج فليس أسهل من تحويل الاعلام الى شماعة وتحميله المسؤولية في كل ما تشهده البلاد من أزمات وانزلاقات ومخاطر أمنية واقتصادية وسياسية ومن ارتفاع للأسعار والمحروقات وربما حتى من انتشار لمظاهر العنف وترويج للسلاح في البلاد، ومن يدري فقد يحملون مسؤولية زلات اللسان والتصريحات المثيرة للاستهزاء لكبار المسؤولين في البلاد، ومن يدري فقد يكون الاعلام وراء تجاهل عيد الشهداء العام الماضي واستمرار التجاهل في ذكرى الاستقلال هذا العام... ومن يدري فقد يتحول في وقت لاحق اهتمام الاعلام بمختلف أنواعه وحرصه بالأمس على احياء ذكرى الاستقلال الى تهمة جديدة تضاف الى قائمة الاتهامات التي تنسب للاعلام... سنقول لانه لا تكاد تخلو عائلة تونسية أو قرية أو بلدة من قصص وحكايات رجالات البلاد ومناضليها ولانه لا يكاد يخلو حي في تونس من أسماء الشهداء الخالدين، ولان الذاكرة الوطنية زاخرة بملاحم وبطولات صنعها التونسيون بنسائهم ورجالهم وشبابهم ملاحم شهد لها العدو قبل الصديق في شراسة التونسي ووطنيته واستعداه للتضحية عندما يتعلق الامر بالارض منبع الحياة ومصدر كرامته وأساس وجوده واستمراره لكل هذه الأسباب ولغيرها أيضا من الملاحم التي رسمتها دماء الشهداء في مختلف المعارك من جبل برقو الى بنزرت ستبقى ذكرى الاستقلال عالقة في ذاكرة التونسي لتحفظ الأمانة وتنقلها من جيل الى جيل، وغياب الاحتفالات بهذا اليوم لن يغير من قناعات التونسيين بشأن المواعيد التاريخية والمبادئ التي تجمعهم.. حقيقة قالها الرئيس المؤقت في خطابه بالأمس من لا يتعظ بالتاريخ مجبرعلى تكراره... والتاريخ النضالي من أجل الحرية والكرامة والسيادة هو الذي سيجمع التونسيين دوما وسيكون الفوز لمن أمعن في قراءة التاريخ واستفاد من دروسه ومواعظه الكثيرة بعيدا عن الحقد والبغض والرغبة الجامعة في الانتقام ولا شيء غير الانتقام مهما كان الثمن...