ينتابني شعور مستكنه كلّما أطلّت علينا ذكرى استقلال تونسنا وحلّت بين ظهرانينا، يرمي بي بعيدا إلى هذه التونس التي وَسِعَتْ فَحَوَتْ كلّ من عليها في تناغم ذوَباني، صَهر الكلّ في بوْتقتها كي تفرز لنا هالة، شكّلت معيارا اعتمدنا عليه في مقياس الصيرورة الكيانية للكيان التونسي الذي تكيّن منذ حِقب ونما في سيْح الزمن وسَهْدته، إلى أن بات على الشكل الذي تشكّل عليه آنًا وبان فيه حينًا، تراه تارة يُجهد ذاته في تفكيك قُمْقُمه عسى أن يخرج من فيه من قَعْقعه إلى أعْله. ونعني هنا الجهد النضالي التونسي في تفتيت البُعْبع الفرنسي الجاثم، حتّى يتسنّى لهذا الكيان المتكيّن على النمط الحداثي أن يتسلّل من ثنايا الجمود الدهري والسكون الفعلي التي لازمته أزلاً وأحاطت به حِقبا، وها هو أوان نفض دياجيرها قد حان، وبُرهة التجسيم قد أحْينت بتونس، فتشكّلت دولة الاستقلال الرانية إلى عصرها والمتوثبة إلى عَصْرَنة من فيها لتحقيق ما حلم به روّادها الأول: حلم الحداثة، فانقضّت على بايليك متهالك، ترنّح على وقع الزمن فدحرجته إلى التاريخ، وأجهزت على تيّار من صلبها يتشبّث أغلب أنصاره بثوابت عدّتها رجوعا قهْقرَى إلى لجّ الزمن السحيق الراسخ في يمّ السكون والجمود وإن خُيّل إليه انسيابه، إنّه التيّار اليوسفي. الاستقلال جهد جماعي متواصل وهنا أطلّ علينا سؤال في خضمّ هذا اللجج اللفظي الذي التجّ كالموج وما لجّ كالماء، وتعرّج بنا في تعرّجات الوجود الفرنسي بتونس، فدعانا إلى طرح ماهية الاستقلال أمام التراكم النضالي التونسي، فبان ذكره ذكرى جماعية وإن أفردناها، ذكرى دم شهيد وثبات مناضل أو/ ومقاوم وتضحية زعيم، هذه هي ذكرى الاستقلال التونسي إن أردنا أن نحييها، فإنّما كيْ نحيّي هذه الروح الجماعية التي ألمّت بالتونسيين ولو نسبيا، منذ أن وطئ الفرنسيون أرضهم فهبّوا للتصدّي إليهم، وأحيوها ثانية في خمسينات القرن العشرين ولو نسبيا مرّة أخرى، متنادين إلى التحرير الذي أزف وإلى الاستقلال الذي وجب، فكان لهم ذلك يوم 20 مارس 1956. لكن، لم يكن هذا اليوم، يوم الاستقلال، صنيعة فرد واحد فقط، بل هو صنع مجموعة بأكملها، روّادها خضبوا أرض تونس بدمائهم وتضحياتهم وهم ممّن ينتمون إلى حزب الدستور الجديد، وإن لا يعني هذا تناسي الآخر إن كان دستوريا قديما أو نقابيا أو شيوعيا، كلّ طرف من موقعه ووفق حجمه ومدى إشعاعه وجماهيريته، وهنا لا بدّ أن نتوقّف حول هذه الألفاظ ونحيلها إلى من يستحقّها في نظرنا أي حزب الدستور الجديد. كما أنّ بداية مسارّ هذا اليوم الذي تجسّم في ذلك التاريخ، إنّما حدثت منذ أن فقدت تونس سيادتها حتّى وإن لم يكن ذلك باديا، لأنّ الاستقلال هو ثمرة جهد متواصل وإن بدا خافيا وظهر بطيئا وإن لاح ساكنا إن لم نقل متراجعا، هذا هو الاستقلال الذي يجب أن نحتفل به اليوم، وأعتقد أنّ واجبنا يكمن تجاه كلّ الأجيال التي لم تعايش هذه اللحظة التاريخية، تاريخ التوقيع على بروتوكولات الاستقلال، في دفعها نحو تجاوز النظر على أنّ هذه الذكرى مجرّد توقيع على ورق لاستقلال غير مفقوه لديها، إلى درجة عجزها أحيانا حتّى لا نقول غالبا عن تحديد توقيته كي لا نقول دلالته، لأنّ من شأن مثل هذه النظرة أن تهمّش هذه الذكرى، إن لم نقل تئدها في ظرف بتنا في أمسّ الحاجة فيه إلى استنهاض أمثال هذه الذكريات النضالية، التي يجب علينا أن نفتخر ونفاخر بها لدى أجيالنا حتّى تتفاخر بها هي أيضا، ظرف بات فيه الاستقلال وسيادة الدول رهن أهواء أقوياء العالم أو بعضه. الاستقلال ليس منّة من المستعمر وهذا يعني أنّ الاستقلال يُنتزع وليس يوهب في طبق جرّاء خدمات محدّدة كما حلا للبعض أن يردّد ذلك تجنّيا على زعماء تونس، ولم يدر أنّه بذلك يتجنّى على نفسه أيضا، لأنّ هذا الاستنقاص المعيب والمعاب يتجاوز شخص هذا أو ذاك ليطال رمزا بأكمله، ليطال تونس في سيرورتها التحرّرية، والشهداء الذين وهبوا أجسادهم قربانا لها دون حسابات ضيّقة، وأجيال المناضلين الذين ضحّوا بأنفسهم وعائلاتهم ومواقعهم من أجلها. إنّ هذا الاستقلال يُنتزع وذلك منذ أن حاول البعض إيقاف المسارّ الحتمي للوصاية الدولية الاقتصادية التي فُرضت على تونس سنة 1869، إنّ هذا الاستقلال يُنتزع وذلك منذ أن حاول محمّد الصادق باي - وعلى عكس ما أُمطرنا به وإلى الآن- إيقاف السقوط الحتمي للإيالة التونسية على يد فرنسا سنة 1881، فإمضاؤه على معاهدة الحماية هو إمضاء من لا حول له ولا قوّة، إمضاء العاجز الذي لا يمكنه دفع ما حدث أو إيقاف حركة التاريخ، إمضاء الرافض الذي لا يمكنه رفض التوقيع، بالرغم من أنّه ساهم عن وعي وعن غير وعي في هذا المسارّ، والثابت أرشيفيا أنّه لم يكن راضيا وقانعا ومغتبطا باحتلال بلده، إنّ هذا الاستقلال يُنتزع وذلك منذ أن أبدى محمّد العربي زرّوق رئيس بلدية تونس الحاضرة رفضه للتوقيع ولو كان إكراهيا. إنّ هذا الاستقلال التونسي يُنتزع وذلك منذ أن هبّت غالبية القبائل التونسية وتصدّت للزحف الفرنسي على التراب التونسي، واستبسلت في الدفاع عن حوزها بالرغم من اللاتوازن التسليحي، وبالرغم من أنّها بدت منهكة جرّاء الجوائح التي حلّت بها منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر. إنّ هذا الاستقلال يُفتكّ وذلك عندما لم تتمكّن فرنسا من الإجهاز على روح الرفض التي استحكمت بالتونسيين طيلة فترات وجودها على أرضهم، فهي تارة تخفت فتبدو محتشمة وتتوهّج تارة أخرى فتلوح روحا ثورية لا تلوي على شيء إلاّ طرد المحتلّ من أرضها، هذه هي الروح التي صمدت أمام القمع الفرنسي الذي ابتدأ منذ ربيع 1881 إلى حدّ أحداث بنزرت الأليمة سنة 1961. ولم يكن هذا القمع الفرنسي كرْتونيا كما لم يكن الرفض التونسي ديكوريا، وبالتالي لم تكن الثورة التونسية مجرّد زوبعة في فنجان سرعان ما أطلّ منه الاستقلال المُهْدَى، وممّا يؤسفني هنا هو سريان مثل هذا الحكم المسبق لدى العديد من الأجيال التي لم تعايش فترات الوجود الفرنسي في تونس، لا بل وهي مقتنعة به وكأنّه من المسلّمات البديهية أو هو فعلا كذلك، وباتت المقارنة بين نضالات التونسيين ونضالات الجزائريين ضدّ ذات المستعمر سانحةً للتدليل على تواضع النضال التونسي، إن لم نقل عدمه أمام "عظمة" التضحية الجزائرية! بينما "جرائم" فرنسا في تونس منذ 1881 إلى سنة 1961 لم تجفّ دماء ضحاياها بعد، والتي يرقى بعضها دون مبالغة أو تهويل إلى مرتبة "جرائم حرب" و"جرائم ضدّ الإنسانية". من واجبنا المحافظة على بريق الاستقلال لدى كلّ الأجيال صحيح أنّ تضحياتنا لا ترقى إلى ذاتها الجزائرية، بالنظر أساسا إلى اختلاف طبيعة الاستعمار لدى كلّ بلد منّا، لكن تعدّ تضحياتنا متماشية مع الواقع الذي فُرض على التونسيين فرفضوه، أمّا أن يغالي بعضنا عن قصد وعن غير قصد، فيمسح بجرّة كلام سرعان ما يسري سريان النار في الهشيم نضال شعب بأكمله من أجل استرداد حرّيته السليبة، فإنّ هذه مسألة في حاجة إلى نظر، خاصّة إذا اعتبرنا أنّ بعضا من دوافع عجز بعض الأجيال الحاضرة حتّى لا أقول معظمها عن الإجابة على أسئلة تتعلّق بتواريخ مفصلية وأحداث- منعرج تهمّ نضال التونسيين من أجل الانعتاق، إنّما تكمن في هذا التمترس المجانب لحقيقة ما حدث لدى أذهان من سمع، فوقر في الذاكرة واتخذها مستقرّا لا يتزحزح عنها حتّى وإن بيّنت له حيادها عن الواقع. وإنّي أخشى أن ينطبق الأمر ذاته على رجالات تونس وزعمائها الذين عملوا ما في وسعهم كي تتحرّر بلادهم، فإذا بالنسيان لفّهم والإعراض عن ذكرهم وذكر مزاياهم علينا يترصّدهم، وبات المحظوظ منهم مكتفيا بلافتة أو يافطة تحمل اسمه مثبتا في زاوية شارع أو معلّقا فوق بناية عمومية، في انتظار قدره المحتوم يوما، إن لم نتلقّف نحن المسألة منذئذ ونعمل على تلافي هذا النُكْران الذاكري حفاظا منّا على هذا التوهّج الناصع لنضال شعب تونس من أجل حرّيتها وخوفا عليه - أي التوهّج - من أن يخفت فيخبو أُواره ويصبح نسيا منسيا، وكأنّ شيئا لم يكن، وكأنّ شيئا لم يحدث، وكأنّ تونس لم تحتلّ، وكأنّ تونس لم تقاوم، وكأنّ تونس لم ترفض الوجود الأجنبي، وكأنّ تونس هي البلد الذي يحتضن محتلّه، ويرقص على أنغام مجنزراته، وكأنّ تونس بلد طيّع لا تنكسر فيه شوكة الغاصب، ولا يتفتت عنده قوس الغازي. وإنّ أخشى ما أخشاه هو أن يتمترس هذا الشعور يوما ما لدى أجيالنا الحاضرة واللاحقة، وعليه يجب أن نعمل على إدامة الشعور بالاعتزاز بنضالات آبائنا وأجدادنا، وأن نستنبط طرقا بيداغوجية أخرى أكثر فاعلية وأكثر وقرا في الذاكرة وفي اللاوعي حتّى ننشئ أجيالا متشبّعة بماضيها وفخورة به وتعتزّ به، وترنو إلى مستقبلها في تواصل مع ماضيها الذي تستمدّ منه مكامن قوّتها وتستبعد منه مكامن ضعفها، فتدرك بالتالي قيمة كلمات على غرار الاستقلال الذي لم تنعم به إلاّ بعد أن أراق أجدادها دماءهم من أجله، فتصبح هي بدورها غيورة عليه وتعمل ما في وسعها للمحافظة عليه والذود عنه إن لزم الأمر. وهنا فقط يكمن المغزى الحقيقي في إحياء ذكرياتنا الوطنية، وذلك عندما تكون هذه الأجيال واعية بالمكاسب التي تحصّلت عليها وبأنّها هي المؤتمنة للمحافظة عليها، عندها يحقّ لنا أن نحتفل بكلّ " فخر واعتزاز" وفي " كنف العزّة والشموخ" بذكرى استقلال تونس.