فنان لا يركن للسكون.. يعتبر الفن مغامرة وتمرد تحت عنوان "أعماق" يقدم هذه الأيام الفنان التشكيلي التونسي عبد الباسط التواتي معرضه الجديد بدار الثقافة المغاربية ابن خلدون. ويبدو أن "الأعماق" التي غاص فيها الدكتور التواتي لها علاقة وثيقة بالواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي نتخبط فيه في تونس منذ أكثر من عامين... ذلك أن اللوحة المتحفية العادية بدت للفنان عبد الباسط التواتي في "الأعماق" حصاراً قرر محاولة الخروج منه. فحاول واجتهد لجلب وتجريب تقنيات جديدة بهدف إنتاج عمل بصري جديد مبتكر لم يتعود ربما تاريخ الفن التشكيلي مثيلا له على الاقل في تونس. وأراد ربما ايضا أن يوضح للجمهور أن هناك لوحة أخرى غير اللوحة المتحفية تعتمد على وسائل أخرى للتعبير، ووسائط يمكن أن تنقل من خلالها نفس الجماليات، ولكن بروح مختلفة. وهذه المسألة غاية في الأهمية من وجهة نظرنا.... خاصة وقد دأب الفنانون الحقيقيون الذين لا يركنون للسكون ويعتبرون أن الفن مغامرة دائمة، تمرد على المحافظة، وتجاوز مستمر للمنجز المتكرر. فليس هناك في الفن ما هو نهائي، انه تجريب مستمر. وما دام فعل الفنان خاضعا أبدا لتجربته الداخلية فمن المستحيل أن تكون هناك شروط أو قوانين أو أسس شكلية معينة خالدة وثابتة مهما كان نصيبها من الجمال. هذا أول ما يقوله لنا معرض "اعماق" للفنان الدكتور عبد الباسط التواتي المقام حاليا بدار الثقافة المغاربية ابن خلدون بالعاصمة. نجح هذا الفنان في الفكاك من حصار المألوف، وكأننا به قرر من خلال هذا المعرض دعوة الجميع للنظر في ما يكبلنا من حصارات داخلية وخارجية، ولكنه لم يقل لنا كيف نخرج من تلك الحصارات، فهذه خطابة تلعثم الفن، ولكنه كثف تصوير تلك الحصارات بإلحاح عجيب.. كل شيء هناك يوحي بالحصار والكبت والانغلاق، وكان ذلك كافياً لإيقاظ التفكير العميق في كيف السبيل للانعتاق والتحرر من كل ما يكبلنا.. وتستمر هذه الدلالة في تأكيد نفسها في اغلب لوحات هذا المعرض حيث نجد لوحات إطارية اعتمدت تقنية خاصة جدا وتمت معالجتها تشكيلياً. وفي جزء اخر من المعرض استخدم التواتي احد أساليب الفنون المفاهيمية ممثلة في التراكيب الفراغية، حيث نجد بعض اللوحات في تنصيبات مجسمة، استعمل فيها الفنان خامات متنوعة بين القماش وبعض المصنوعات الجلدية والبلاستكية والمعدنية... ونجد أيضا مستطيلاً ثلاثي الأبعاد محاطاً بقماش بألوان شفافة وهناك مربعات ومستطيلات أخرى ومدرجات وحوائط سوداء تبرز منها جميعاً أشكال محاولات الخلاص. وفي كل هذه المجسدات تم استعمال الإضاءة والظلال الملونة كعنصر مهم. وبقيت القيم الجمالية للفن التشكيلي قائمة في الاتزان والهرموني والإيقاع تتجلى قسوة الحصار كلها في هذا الجزء من المعرض، إنها قسوة معاشة، مجسمة في موجودات بأبعاد ثلاثة: طول وعرض وارتفاع. تدور حولها، وتلمسها، بل وتدخل فيها، انك هنا لا ترى الحصار فقط بل تعانيه.. وفي أجزاء المعرض المختلفة نجد أننا أمام نموذج للفن المعاصر الذي لا يشير فيه العمل الفني إلى ذاته وحدها بل يومئ كذلك إلى سياق الحياة التي ينتمي إليها ويتشكل من خلالها. ما هو معروض هنا ليس مجرد تعبير ذاتي محض، انه أكثر تعبيرا عن الوقع المعيش ومعضلات الحياة الإنسانية وحصاراتها المختلفة والمتشابكة... وكأننا بهذا المعرض يعبر عن حالة غضب، أو تشاؤم في جانب منه لأننا نصحو يوميا ونحن في حالة خوف من الأخبار السيئة التي نسمعها على المستوى العالمي والإقليمي والمحلي. هناك الكثير من القلق وكثير من الحصارات التي تحيط بنا: حصارات المرأة، حصارات الإنسان الكائن، وحصارات اقتصادية، وحصارات سياسية، نكسات، هزائم، تفكك، خلافات على المستوى المحلي، وعودة إلى المناطقية، وعودة مخيفة إلى الأفكار الرجعية. كل ذلك يشكل بالنسبة لاي فنان حالة حصار مغلقة. كما أن الحصارات في جانب منها حصارات ذاتية مثل كل أنواع الفوبيا، والخوف على من أحببنا ومنه، والخوف من الحوار مع الأخر، ومن فتح جبهة جديدة لاكتشاف الحياة، كل هذه حصارات تقيد حركتنا وتحول بيننا وبين الآخر الذي غالبا ما يكون مجهولا...