أصدرت الشاعرة والمنتجة الإذاعية علياء رحيم هذه الأيام مجموعة شعرية جديدة اختارت لها عنوان "بماذا تعدني.. أيها الليل؟" التحمت فيها مع الحزن والألم واتخذتهما موسيقى روحية تستعيدها لتنفس عن رغبة دفينة في التواصل مع من يشترك معها في الإحساس بالغربة عن الواقع ورفض السائد والسواد.
في قصائد ديوان "بماذا تعدني..أيها الليل؟" تنعي علياء رحيم الجمال كقيمة اشترك فيها التونسيون وطالما قدسوها وتنعى التفاؤل في داخلها وفي لغة أبناء وطنها.. هذا الوطن الذي تراه جريحا سائرا في هالة من السواد نحو ليل يزداد ظلمة وقتامة فتفقد الضمائر المستنيرة في متاهاته سبيلها إلى نور يعقم جروح المغامرة إلى المجهول.. وتنعى علياء الوطن كما أراده أبناؤه عندما تمردوا على الدكتاتور وفكرة التطلع إلى التغيير إلى الأفضل التي تقبر "في ممرات الصمت" وعلى" إسفلت الكلام المختنق" و"في فراغ اللغة "وفي متاهات الإبهام" وحيث لا مغيث. هذا الوطن الذي "صهل كحصان مقعد" تعفنت قروحه وأنهكه السير مثل "ضرير تتعكز على خيط دخان" و"علق ربيعه بين مخالب عقاب" و"باسم قبيلة الوحل علّقت زهرة الملح فيه في مضيق فتوى" (وزهرة الملح "بتلاتها" أو قصباتها عادة ما تكون خالصة البياض كغشاء يطفو على سطح الملاحات يحتفظ بها صناع الملح لأنفسهم لجودتها الفائقة). وطن نعته الشاعرة تارة بالتلذذ باستعادة النكبات وطورا بالدعوة إلى إيقاد الحواس للاستنارة بها بعد ان هجرت الأقمار والنجوم لياليه وتركته لآلام المخاض وحيدا. ولكن الشاعرة ووسط كل هذا الظلام الدامس رأت لهذا الوضع مخرجا فيه الكثير من أحلام الشعراء وهو الرجوع بالشعر إلى لغة الشارع المتمردة على الصيغ الجاهزة وعلى المعاني المتعارف عليها والتي تم إيقافها وحصرها فيه. بدت الشاعرة علياء رحيم في ديوانها الثاني هذا روحا غريبة وحسا مرهفا في استدعائها لهذه الإيقاعات الموسيقية الحزينة وهذا الحنين بكل هذا الصدق وهذا العمق وبهذه النظرة المختلفة للأشياء وهذا التمرد على المطر والحزن والصخب النفسي الصامت الواجم بين يأسها وأملها واحتراقها السياسي تتلظى بين مأساة وطنها والتطاول على بنات جنسها فتقول:"سماء بلادي ابعد من البعيد// وارضي بلا قدمين //وهذه انا.. دونك //في هشاشة الغوغاء.. //انمو كشبكة العنكبوت".. تمرد على هذا السواد المحدق المتوعد شرا بألوان قوس قزح الذي يحبه التونسيون ويتعايشون في ظله وعلى أساسه. قصائد علياء في هذا الديوان تؤكد في اغلبها على صعوبة الخروج من دائرة الحزن إلى دائرة التفاؤل والعالم الأرحب والأوسع.. تتألم وتتوجع فتخرج الحروف منهارة منهكة من بين أضلعها لتشكل صورة متقنة الصنع - كقولها:"في لوحة المعنى الهارب //إلى جسارة الضوء..."- وحقيقية للواقع وتعكس الخوف من ان:" يظفر الجلاد بآخر أنفاسنا " الصفحة 64( قصيدة أبناء الريح) وفيها تقول : " باختصار شديد// لم يفارق الجلاد يوما جلدنا // فاضطررنا إلى ممارسة الحياة خلسة...// استحضرنا المجاز وسرّجنا الدلالات // استحضرنا الغائب والمبني للمجهول// وامسكنا بناصية الاستعارة..." لعلياء رحيم الشاعرة ميزة سرد تجعل من قارئها يستمتع بقدرتها على الإيغال في وصف الحزن والعذاب والجوع إلى الحرية والشقاء بثقل الرفض والصراع مع النفس ومع ما يختلج فيها من أفكار. ولصور الحزن في قصائدها وقع ونكهة متفردتين تقول في الصفحة 42 "مهزوزة أنا يا ليل// كفراشة في معتقل العناكب // كهزيع أمل يلبس جلباب أنفاسه.. محبطة //كعاشق منسي في خلاء الوله//كشتاء ممنوع عن المطر// فبماذا تعدني كي أستريح؟" وفي هذا الإطار يدخل سؤالها:"بماذا تعدني أيّها الليل".. ليل رفضته وتحدثت عنه بكل هذا التشاؤم والإحباط ما هو في النهاية إلا تأكيد على انه غير قادر على الانبلاج وحده على نور وهو تأكيد على حاجته لمطر يصرع الهزيمة في أنفسنا ويقد حواسنا نستنير بها لتنقشع ظلمة تتلبد وتزداد قتامة تؤكد به علياء لقارئها بان وقوفنا ونحن ننتظر ان ينبلج الليل على صبح كما نشتهيه وكما يجب ان يكون لا يمكن ان نحصد منه غير الحيرة:"لا جفن لقلقي في شرود اليقين " لان الخلاص من الظلمات التي" تتوغل في مضائق أوردتي"كما تقول هي لا يكون برفض السائد منها بل بالتحرك والفعل. في هذا الديوان نجد علياء ما بعد 14 جانفي 2011 بأحاسيسها ومخاوفها وقراءتها الخاصة لما تبع"الثورة" من أحداث.. نجد رفضها للغيمة السوداء الخاوية التي تخيم على تونس ونجد نضالها من اجل الكلمة الحرة ودعوتها إلى الصمود والمقاومة والمحافظة على المواقع والإقرار بالاختلاف الذي يساهم في تغيير عقليات الإقصاء والتغول.. نجد أيضا دعوة للعبور واقتحام العتمة التي سببها انتشار اللون الأسود في بلادنا بما في داخلنا من أفكار مستنيرة لنتجاوز هذه المرحلة الصعبة من تاريخنا.