بقلم: الأستاذ محمد الحبيب الأسود - إنّ القتل كما مارسته بعض الجماعات المتطرّفة على كثرة أسمائها، تطبيق لفهم منحرف فظيع وخطير لمبدإ الجهاد في الإسلام، وكلمة الإرهاب التي وردت في الآية الكريمة التي يعتمدها هؤلاء لتأصيل العنف وإباحة القتل بين المسلمين، لم تكن تعني في الأصل إرهاب المؤمنين ولا حتى إرهاب الكفارأعداء الدّين إذا لم يقاتلوا المسلمين ولم يرفعوا ضدّهم سلاحا، فقوله تعالى (وأَعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل، ترهبون به عدوّ الله وعدوّكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم، الله يَعلمهم، وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يُوفّى إليكم وأنتم لا تظلمون) (الأنفال:61) قد جاء في سياق الحديث عن مجاهدة الكفاروقتالهم، وليس في القرآن آية واحدة تشيرإلى جوازإرهاب المسلمين بعضهم البعض إذا ما اختلفوا في الرأي وتنازعوا الحقّ في السياسة أوفي فهم نصوص الوحي... والكافرهو الذي لا يقرّ برسالة محمد عليه الصلاة والسلام ولا يدين بدين الإسلام ولا يؤمن بالقرآن وقد أباح الله جهاد الكفارفي صورة واحدة، وهي إذا ما اعتدوا وبدؤوا هم بالقتال وصدّوا المسلمين عن سبيل الله أو أرهبوهم واحتلوا أراضيهم، ومنع الاعتداء عليهم في غيرهذه الحالة بصريح قوله تعالى (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا، إنّ اللهَ لا يحبّ المعتدين) (البقرة:189)، وإن كان القتال على أشدّه وجنح الكفّار للسّلم وأرادوا إنهاء الحرب، فإنّه تعالى أمربالكف عن قتالهم متى انتهوا (فإن انتهوا فإنّ الله غفور رحيم) (البقرة:191) (فإن انتهوا فلا عُدوان إلاّ على الظالمين) (البقرة:192) (وإنْ جنحُوا للسّلم فاجْنح لها وتوكّل على الله) (الأنفال:62)، بل طلب من المجاهدين في سبيله دعوة الكفار إلى السلم وعدم القتال حتى وإن كان المسلمون هم الأعلى والأقوى، وذلك في قوله تعالى (وإن تستفتحُوا فقد جاءَكم الفتح، وإن تنتهوا فهو خير لكم، وإن تعودُوا نعدْ، ولنْ تغنيَ عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت، وأنّ الله مع المؤمنين) (الأنفال:19) (قل للذين كفروا إن ينتهُوا يُغفرلهم ما قد سَلفَ، وإنْ يعُودُوا فقدْ مضَتْ سنّة الأوّلين) (الأنفال:38)... فواضح من نصوص القرآن أن الإسلام لا يبيح القتل وسفك الدّماء حتى مع الكفارأعداء الدّين، إلا في حالات قصوى لا مفرّ فيها من قتالهم وجهادهم حفاظا على النفس والدّين والوطن، لكن بعض من كان في فهمهم للدّين سوء وغلو وتطرّف، قد عمّموا هذه الحالة الاستثنائية وجعلوها قاعدة عامّة، سواء مع الكفارأومع المسلمين الذين يخالفونهم الرأي، وهذا نتاج عقدة الانتماء التي يعيشها هؤلاء، حين اعتقدوا في أنّ فهمهم للإسلام هو أسلم الأفهام وأصحّها، وأنّ الانتماء إلى جماعتهم هو انتماء للإسلام، وأنّ الخروج منها أو عليها هو خروج من الإسلام ودخول في الكفر وانخراط في "المجتمع الجاهلي"، وبهذه العقدة فهموا الجهاد في سبيل الله على أنه جهاد وقتال وإرهاب لكل من خالف فهمهم للدّين في ما أجازالله اختلاف الأفهام فيه، فأباحوا دماء المسلمين، وترويع الآمنين، وما أمرالله ولا رسوله بهذا أبدا... لقد جعل الإسلام شهادة أن لا اله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله، لوحدها كافية لتأمين الكافروحقن دمه وهو في ساحة الحرب يخوض المعركة ضدّ المسلمين، حتى وإن قالها نفاقا، فالإيمان مكمنه القلوب التي لا يعلم سرّها إلا الله، وأمّا الإسلام فهو تلك المظاهرالخارجيّة التي تسمح للمرء بالانتساب للمسلمين، وأمرإيمانه وصدقه موكول إلى الله تعالى، ومن أجل ذلك لم يأمرالله بقتل المنافق أو طرده من المجتمع المسلم، ولم يفرض عليه عقوبة أوحدّا، ما لم يتواطأ مع العدوأو يظهر الفساد وما يستوجب أخذه به على الخيانة والتآمر، فهذا عبد الله بن أُبَيْ بن سلول زعيم حركة النفاق الكبرى في التاريخ، وعلى رغم نفاقه البواح، فإنه لمّا مات قام الرّسول عليه الصلاة والسلام، وصلى عليه كما يصلي على أي مسلم توفاه الأجل، فكره عمربن الخطاب ذلك، فأجابه نبي الهدى والرحمة، بأنه لو يعلم أنّ الله سيغفرلابن أُبَي بن سلول إذا استغفرله أكثر من سبعين مرة لازداد في الاستغفارله، إشارة إلى قوله تعالى في شأن المنافقين (استغفرلهم أوْ لا تستغفرلهُم، إن تستغفرْ لهُم سَبعين مرّة فلنْ يَغفرَالله لهم) (التوبة:81)، ولمّا جاء ابنه يطلب ترخيصا من الرّسول لقتل أبيه لكثرة ما صدرعنه من أعمال النفاق، وخشية أن يقتله أحد غيره فيحزذلك في نفسه ويحمله بالعصبية على معاداة قاتل أبيه، أجابه نبي الهدى والرحمة بأنه لا يقرّهذه الجريمة، ولا يريد أن يقال عن محمد "إنّه يقتل أصحابه" ودعاه إلى أن يرفق بأبيه ويحسن صحبته... هذا في أمرالمنافق، والمنافق هو الذي يظهرالإسلام ويبطن الكفر ويضمرالعداء للمسلمين، فكيف يكون الحال مع المسلمين الذين يعتبرهم البعض عصاة بتركهم الصلاة أوالصيام، أو مخالفين لهم في الرأي والمذهب، ولكنّهم مؤمنون يشهدون بالله ربّا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا... ليس من حقّ أحد تكفيرالنّاس، وليس لأحد منازعة الخالق حقّ تصنيف عباده إلى مؤمنين ومسلمين ومنافقين وكفارحسب سريرتهم بعد أن أظهروا الإسلام (يَا أيّها الذين آمنوا إذا ضرَبتم في سبيل الله فتبيّنوا، ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السّلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدّنيا فعندَ الله مغانمُ كثيرة، كذلك كنتم من قبل فمنّ اللهُ عليكم، فتبيّنوا، إنّ اللهَ كان بما تعملون خبيرا) (النساء:93)، فالإسلام دعوة إلى السلام، وسبب لاطمئنان القلوب وأمن النفوس، وقد أمرالله بالدعوة إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة (لا إكراه في الدّين، قد تبيّنَ الرشدً من الغيّ) (البقرة:255) (ادعُ إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجَادِلهُمْ بالتي هي أحسن، إنّ ربّك هو أعلمُ بمن ضلّ عن سبيله، وهوأعلمُ بالمهتدين) (النحل:125)... والرأي عندي، أنّ الحكمة في مسائل الحكم، هي البرامج السياسيّة الجادّة، والعمل بحقّ الاختلاف، والاجتهاد من أجل إحلال الوفاق بين مختلف الاتجاهات السياسيّة والمذاهب الفكريّة داخل المجتمع الواحد، وليست الحكمة في توزيع شهائد الكفروالإيمان بين الناس، والتنظيرلإرهاب الخصوم وترويعهم وإكراههم على الرأي الواحد والفهم الواحد، فهذا ما لا نجد له في أصول الإسلام نصّا واحدا يقرّه، فلحكمة بالغة خلق الله الناس مختلفين في الأمزجة والأفهام والعقول (ولو شاءَ ربّك لجعلَ النّاس أمّة واحدة، ولا يزالونَ مختلفين إلا من رَحِمَ ربّك، ولذلك خلقهُم) (هود:118)، والاختلاف في الرأي لا يقلل من إسلام الناس ولا يفسد لودّهم قضيّة، فالأمركله لله، وليس في الإسلام سلطة دينيّة لأحد على أحد تخوّل له إكراه الناس على دينه وفهمه ورأيه، فالله يخاطب رسوله (فذكّرْ إنّما أنت مذكّر، لست عليهم بمسيطر) (الغاشية:22) فكيف يكون الخطاب إلى من هم دون الأنبياء والرسل؟ والله بيده القلوب يقلبها كيفما يشاء (ليْسَ عليك هُداهُم، ولكنَّ اللهَ يَهْدي منْ يشاءُ) (البقرة:271)... والآيات في هذا كثيرة لا تخلو منها سورة من سورالقرآن، ولا نكاد نقرأ قصّة من قَصَص الأنبياء، حتىّ نجد أكثرمن موقف في هذا السياق، فالعنف منبوذ في ديننا نقلا وعقلا مهما كانت دوافعه في غيرما أمرالله، ومهما كانت أشكاله، ومهما كان مصدره، فحتّى الطغاة المستبدّون المتكبّرون في الأرض بغيرالحق، أمرالله بمخاطبتهم باللين والحجّة والبرهان (اذهبَا إلى فرعونَ إنّه طغَى، فقولا له قولا ليّنا لعلّه يتذكّرأوْ يَخشى) (طه:42-43)، كما أمرجلّ جلاله في صورة ما إذا اختلف المسلمون فيما بينهم وأوشك الخلاف أن يفسد ودّهم، أن يتصالحوا ولا يركنوا إلى نزوات الشيطان، وأن يحافظوا على وحدة الأمّة ولا يفرّقوا دينهم (وأطيعُوا اللهَ ورسولَه، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهبَ ريحُكُم، واصْبروا، إنّ اللهَ مع الصّابرين) (الأنفال:47) (فاتّقوا اللهَ وأصلحُوا ذاتَ بينكم، وأطيعوا الله ورسُوله إن كنتم مؤمنين) (الأنفال:1) وقد نزلت هذه الآية في حقّ المسلمين لمّا اختلفوا في تقسيم الغنائم، وادّعى كلّ طرف منهم الأهلية والأحقيّة في الفوزبالنصيب الأوفر، وأوشك الأمرأن يصل إلى حدّ التناحر بين المهاجرين والأنصار... فالاختلاف والخلاف بين المسلمين ليس مدعاة للتباغض والتناحر والتحريض على قتل بعضهم البعض، ولا يقرّ الإسلام أي شيء من ذلك، بل جعل جزاء القاتل والمقتول النارلتعمّد كلّ واحد منهما مصادرة رأي الآخروحقه في الاختلاف، وإكراهه على رأيه أوإزهاق روحه... وتكفيرالناس لإباحة دمائهم، كما جاء في اجتهاد بعضهم من أنّ « الكفرحكم من عمل عملا لا يحتمل تأويلا غيرالكفر» ليخوّلوا لأنفسهم إصدارالأحكام بالكفرعلى هذا وذاك، ما أنزل الله به من سلطان، فكيف يجوز تكفيرالناس إذا نطقوا بالشهادتين، ولم ينكروا من الإسلام شيئا من أركانه، حتىّ وإن لم يؤدّوا ما عليهم من واجبات دينيّة من حيث أنّهم عصاة، والحال أنّ الله قد جعل النطق بالشهادة فاصلا بين الكفر والإيمان حتى وإن قالها صاحبها نفاقا؟ فأي عمل يمكن أن يأتيه مسلم قائم بواجباته أوغير قائم لا يحتمل تأويلا غيرالكفر؟.. إنّ اقتراف المعاصي وارتكاب الذنوب( الصغائرأوالكبائر) ليس حجّة لأحد على أحد لإصدارحكم بالكفرعليه، ولم نسمع بشيء من ذلك إلا عند الخوارج، أمّا أهل السنّة فقد قال منهم الإمام الأعظم أبوحنيفة النعمان «لا نكفّرمسلما بذنب ولو كان كبيرة»...