من شأن حالة التأهب والاستنفارالأمني التي تعيش على وقعها تونس منذ فترة تحسبا لما يمكن أن تؤول إليه عملية الشدّ والجذب بين جماعة "أنصار الشريعة" التي تصرّ على عقد مؤتمرها السنوي بالقيروان وبين الحكومة التي اتخذت قرارها بمنع انعقاد هذا المؤتمر بسبب "ما يمثله من خرق للقوانين وتهديد للنظام العام" أن تدعو اليوم وأكثر من أي وقت مضى التونسيين سلطة ومعارضة ونخبا بمختلف انتماءاتهم السياسية والفكرية الى تجاوز صراعاتهم الغبية من أجل السلطة ليكونوا سدّا منيعا لكل محاولات الدفع بالبلاد الى الفتنة والسعي الى اعلان الوحدة المقدسة ودعم المؤسسة الأمنية الباسلة بمختلف مكوناتها من جيش وشرطة وهي التي لم تتردّد حتى الآن في الدفاع عن راية الوطن الموحد لتونس وشعبها، في وجه مختلف مخاطر التطرف والارهاب الزاحفة على البلاد من غابات الشعانبي كما من مخططات أصحاب تلك السيارات التي تسعى لتهريب وترويج السلاح في ربوعه أو فتاوى دعاة التحريض على الحقد والكراهية بين أبناء البلد الواحد. قد لا نكشف سرّا اذا اعتبرنا اليوم أن ما تعيشه البلاد من اهتزازات خطيرة ومن تراجع لمقومات السيادة ولهيبة الدولة وغياب سلطة القانون ليس سوى حصيلة حتمية للأخطاء المتكررة لمسؤولي "الترويكا" على مدى الأشهر الماضية في التعامل مع مختلف مظاهر العنف التي بدأت يوم أهينت راية تونس واغتصبت حرمة الجامعات وانتهكت حرمة المساجد والأضرحة ومقامات الأولياء الصالحين حتى بلغت مرحلة الاغتيال السياسي باستهداف الشهيد شكري بلعيد لتتكرربعد ذلك عمليات التطاول والاستخفاف الى درجة التحقير والاستهزاء بمؤسسات الدولة ورموزها وقد اعتقدنا خطأ أن تلك الجريمة البشعة ستكون منعرجا في إعادة قراءة المشهد واستقراء الأخطاء وتصحيح ما يجب تصحيحه لإنقاذ أهداف الثورة وتعزيز مسارالانتقال الديمقراطي وهو ما لم يحدث للأسف.. إن ما يستهدف تونس اليوم يستوجب تجاوز دائرة اللوم الى حين.. فاللحظة تفرض على كل أصحاب المسؤولية الاحتكام الى ضمائرهم واستعادة وعيهم وتجنيب الرأي العام كل تلك الذرائع والتبريرات التي طالما شنفوا بها الأسماع وهم يرددون أنهم لم يتخطوا السنة الأولى من الديمقراطية وأنهم مازالوا بصدد تعلم أبجديات السلطة تماما كما أنه لم يعد من مجال لتكرار تلك العبارات النارية في أروقة المجلس التأسيسي على غرار "لن يمرّوا أو على جثتي" فتونس اليوم لا تحتاج مزيد الجثث بقدر حاجتها للافكار والوعي والإرادة السياسية الصادقة في الاختبار القائم في مرحلة قد يراهن البعض من خلالها عن مكابرة أو جهل لدفع البلاد الى طريق الفتنة ورفض راية تونس الوطنية واستصغار تاريخ ومكانة وحضارة شعبها ورفع بدلا من ذلك في وجهه راية الجهاد تحت غطاء عقائدي متشدّد. واذا كانت جماعة "أنصار الشريعة" بإصرارها على أن تكون فوق كل القوانين والمضي قدما في تنظيم مؤتمرها اليوم وتجاهل قرار الحكومة الرافض لذلك، تسعى إلى ترهيب التونسيين ونشر الخوف والرعب في نفوسهم فان عليها أن تدرك أنها أبعد من أن تفهم هذا الشعب، وأن الرسالة التي وجهتها للرأي العام في الداخل والخارج ستكون الرسالة الخطأ في الوقت الخطإ وذلك لسببين، أولهما أن التونسي قد حطم جدار الخوف يوم تمرّد وثارعلى الظلم والاستبداد والفساد وانتصر للحرية والكرامة والعدالة. وأما السبب الثاني فهوالأهم في قناعتنا فإن كل المحاولات الجارية انطلاقا من مدينة الاغالبة التاريخية وغيرها من المدن التونسية للترويج على أنها تخوض حملة ضدّ الكفار من أهل البلاد وأنها تقود موجة مع الفتوحات الإسلامية لا يمكن أن تجد لها موقعا في النفوس إلا لمن كان يجهل التاريخ ولا يدرك مدى تعلق وغيرة التونسيين بدينهم الذي عرف طريقه الى تونس قبل أربعة عشر قرنا ولا أحد يملك أن يزايد على أغلبية التونسيين في انفتاحهم على كل الشعوب واحترامهم للأديان.. تونس تاج على رؤوسنا، وستبقى فوق كل المؤامرات، وأكبر من كل الفتن وكل محاولات جرّ البلاد الى الصراعات الجهوية، أو القبلية، أو العرقية التي لا مكان لها..