بين تصريحاته في العاصمة القطرية على هامش أشغال منتدى الدوحة بالتزامن مع الاحداث الخطيرة التي عاشت على وقعها البلاد في الأيام القليلة الماضية، من الاحداث الإرهابية في جبل الشعانبي، الى مؤتمر أنصار الشريعة بين القيروان وحي التضامن، وتلك التي أدلى بها غداة عودته الى تونس، سجل موقف رئيس الحكومة تراجعا مهمّا رغم أنه لم يستقطب اهتمام الكثيرين ممّن تولوا تحليل وقراءة أبعاد تصريحات وزير الداخلية السابق ورئيس الحكومة الحالي من إحدى المسائل المصيرية التي لا تخلو من الحساسية في تحديد حاضر ومستقبل البلاد في مواجهة أحد أعقد أخطر التحدّيات والمتعلق بعلاقة بعض التنظيمات الجهادية المسلحة في بلادنا بتنظيم "القاعدة" الإرهابي. النقطة التالية التي يمكن أن يؤاخذ عليها رئيس الحكومة تتعلق بإصراره على أن عمر الحكومة الرّاهنة لا يتجاوز الشهرين والنصف، وفي ذلك -وليسمح لنا رئيس الحكومة- مجانبة للصواب واستخفاف بالعقول لأنه حاول ايهام الرأي العام بأن هناك فاصلا يقطع بين حكومة سلفه حمادي الجبالي، التي تحمّل فيها الحقيبة الأمنية بكل تحدّياتها، والحكومة التي يترأسها والتي تبقى رغم تحييد بعض وزارات السيادة فيها منبثقة عن الترويكا ونتاجا للتوافقات بين النهضة وحلفائها في السلطة ... وبالعودة الى "أنصار الشريعة" وتصريحاته عن الخطر الإرهابي في البلاد، ولو أننا توقفنا عند تصريحات رئيس الحكومة في قطر وتصريحاته خلال أول ندوة صحفية له بعد نحو شهرين على توليه مهامّه الجديدة لأدركنا دون عناء تراجعا ملحوظا في انتقاء الكلمات عند تحديد موقفه ازاء الجماعة المذكورة: من جماعة وصفها ب"الإرهابية والخارجة عن القانون"، الى جماعة "بعض من قياداتها على علاقة بتنظيمات إرهابية"... وكأنه بهذا التحديد ينفي عنها الصفة التي سبق له إطلاقهاعليها، ما من شأنه أن يدعو للتساؤل صراحة عن أسباب ودوافع هذا التراجع وما اذا كان مرتبطا بمراجعة للأحداث والوقائع، أم يترجم عن خطاب سياسي رسمي ذي طابع مزدوج ، يتخذ لونا معيّنا حين يكون موجّها للرأي العام الداخلي، ولونا آخر مغايرا حين يستهدف الخارج أو يدلى به في حضرة الإعلام الأجنبي. ففي قطر، كان رئيس الحكومة واضحا في تصريحاته بشأن "أنصار الشريعة" وقال بكلمات موثقة بالصوت والصورة "ان هذا التنظيم غير قانوني مارس العنف وله علاقة بالإرهاب والدولة تصرّفت وستتصرّف في المستقبل بناء على هذه المسائل". غير أنه وخلال الندوة الإعلامية بالقصبة قال في موقف المستدرك إن "بعضا من قيادات وأفراد التنظيم متورطة في أعمال إرهابية لها علاقة بالإرهاب" قبل أن يحدّد له مهلة ويدعوه الى توضيح مواقفه بالقول "أمامه وقت غير طويل حتى يعطي موقفا واضحا يدين فيه العنف والإرهاب ويتبرأ منهما"، ما يعني ضمنيا أن رئيس الحكومة غير مقتنع بعدُ بأن هذا التظيم الذي كاد يدفع البلاد يوم الاحد الأسود الى شرك الفتنة والذي لا يزال زعيمه أبو عياض -المسؤول الأول عن أحداث السفارة- هاربا، هو تنظيم رافض للقوانين ومعاد لسلطة الدولة ومؤسساتها رغم تورّطه في تجميع ورفع السلاح في تحدّ للسّلطات الأمنية... وقد لوحظ الأمر نفسه في تصريحات سابقة لمسؤولين في حركة النهضة حيث أوحت في البداية بوجود إجماع بشأن تحديد الخطر ومواجهته في رفض قاطع لكل ما يمكن أن يمسّ أمن البلاد والعباد أو يسعى لفرض تغيير النمط الاجتماعي بالقوة فيما كانت الأنظار تتجه الى حيّ التضامن والشعانبي، حتى أن رئيس الحركة راشد الغنوشي لم يتردّد في القول أن "أحداث الشعانبي إرهابية والبلاد في حاجة لجهاد التنمية " فيما حذر وزير حقوق الانسان سمير ديلو من أن "كل من يتطاول على هيبة الدولة أو ينوي ليّ ذراع الدولة سوف يندم آجلا أوعاجلا"، وكذلك وزير الشؤون الدينية نور الدين الخادمي -رغم خطبه التحريضية المعروفة بجامع الفتح والذي اعتبر صراحة ان العنف مرفوض ومدان ومحرّم شرعا بكل أشكاله و صوره مهما كان منطلقه دينيا أو سياسيا أو فكريا"... حتى سرى اعتقاد لدى الكثيرين بأن عقلاء حركة النهضة قد أدركوا حجم الخطر وأجمعوا على ضرورة تغيير الخطاب السّياسي والديني بما يرتقي الى حجم التهديد الإرهابي الذي يترصّد البلاد، قبل أن تسجّل التعديلات والتحوّلات في المواقف متزامنة مع إطلاق سراح الناطق باسم "أنصار الشريعة" بعد ساعات من إيقافه ويعود رئيس الحكومة وكذلك رئيس حركة النهضة في حديثه "للبي بي سي" الى سياسة الهروب الى الامام بالقاء اللوم والمسؤولية عما يحدث اليوم في البلاد من امتداد للفوضى وانتشار لخطر الإرهاب إلى سياسة بورقيبة وبن علي وهي بالتأكيد مواقف لا يمكن أن تساعد على إصلاح المشهد أو تغييره حتى وان احتملت نسبة من الصواب. إن مما ينبغي التأكيد عليه أنه آن الأوان لأن نزيل صورة بن علي من المشهد تماما وبالفعل، ولعل من المهمّ التذكير ببعض ما جاء في حديث مطوّل للدكتور نجيب القروي قبل يومين للإذاعة الوطنية في قراءته الواقعية للمشهد الراهن في البلاد وما ذهب اليه من أنه لو كتب لشهداء الحركة والوطن أن يعودوا للحياة فسيتأسّفون على ما آل اليه الوضع... الدكتور القروي الذي قال انه عجز عن تغيير عقليات رفاقه الذين وقعوا في الخطإ الكلاسيكي المتكرّر ولبسوا جبة الممارسات التي كانوا يحاربونها، اختار الانسحاب والفرجة من بعيد على إخوان توحّدوا تحت مظلة الدكتاتورية في السجون والمنافي وفرقتهم الديموقراطية. ...حتى هذه النقطة لا يمكن أن تكون رسالة السيد رئيس الحكومة للتونسيّين بنخبهم السياسية والفكرية والإعلامية وغيرها: قولوا ما شئتم وسنفعل ما نريد، لأنه قطعا أكثر حكمة ووعيا وقدرة على رؤية الاحداث واستباق الخطر...