ينطلق عرض "كلام الليل صفر فاصل" وهو من آخر إنتاجات فضاء "التياترو" بالعاصمة بجملة من التحذيرات تنبعث من الركح وكأنها بلاغات عسكرية (طبعا مغلفة في طابع كوميدي ساخر) ونحن نعيد الكرة إلى أصحابها ونحذر أن كل من كان يتخيل أن العرض فرصة للضحك وللاسترخاء والترويح عن النفس قد أخطأ العنوان. صحيح العرض كوميدي وساخر ولكنه يندرج في خانة الكوميديا السوداء. ليس في الأمر مزحة وإنما "كلام الليل" هذه المرة وإن كان عرضا فنيا عالي الجودة فهو امتحان صعب لأعصاب المشاهد ولحظة قاسية في حياة المولعين بالفن الرابع لكنها لحظة لابد منها ولا يمكن التملص منها ولا يمكن لمن يعتقد أنه في قلب الساحة الثقافية أن ينفذ بجلده وأن يتجاهل عرض"كلام الليل, صفر فاصل"فقد ارتقى بها فضاء التياترو إلى مرتبة الضرّورة الملحّة وليس في الأمر مبالغة. تدور أحداث المسرحيّة في مناخ مشحون مليء بالحيرة والأسئلة القاسية التي تقتحم على المتفرّج عقله ووجدانه وتستفزّه وتحفزّه فتصبح العمليّة ليست مجرد مشاهدة لعرض فني وإنّما امتحان ذهني يأخذ نسقا تصاعديا ويزيد مع كل مشهد من العرض في رج العقول وتحفيزها على التخيل وعلى التفكير بالتوازي مع تحريك شحنات من الأحاسيس المتضاربة. ولعل توفيق الجبالي وقد صعد بنفسه على الركح مستندا على كل من رؤوف بن عمر ونوفل عزارة قد حقق مبتغاه عندما استطاع أن يستدرج المشاهدين- وأغلب العروض التي قدمت للمسرحية تمت بشابيك مغلقة - للإنخراط في العملية قسرا. ليس أمامك من حل عندما تأخذ مقعدك في مسرح التياترو الذي تهيّأ وجدد تجهيزاته وتجمّل في موسمه الثقافي الجديد لاستقبال روّاده بإدارة من حديد للثنائي توفيق الجبالي وزينب فرحات, ليس أمامك من حل سوى أن تنسجم مع اللحظة وأن تنساق مع العرض. لن تكون مجرد مستهلك في هذه المسرحية ولن تجلس مرتاحا في مقعدك وإنما ستهتز وتنتفض وتتساءل وتغضب وتضحك أحيانا ولكن الضحك هذه المرة على عبث اللحظة. في خطوطها العريضة كلام الليل صفر فاصل شبيهة بالحلقات الأخرى لكلام الليل. هي تقوم على مواجهة الشخصيات للمتفرّجين بالإعتماد على خطاب ناقد وساخر للوضع السياسي والإجتماعي ولكن العرض الجديد فيه اشتغال مكثف على حركة الممثل وتجديد للسينوغرافيا وكان توفيق الجبالي قد فسح المجال أمام مسرحيين متدربين للإسهام في العرض بتأطير من قيس رستم. الكتابة الركحية التي تولاّها توفيق الجبالي بنفسه في تصوّر واخراج له بمساعدة نوفل عزارة بالإضافة إلى رؤوف بن عمر ونوفل عزارة وأمينة بن دوّة وريم الراشدي وغيرهم جعلت المشاهد على موعد مع عرض فنّي مسرحي متكامل فيه اشتغال على النص وفيه فرجة مسرحية حقيقية وفيه خطاب مسرحي واضح وتم خلاله توظيف جيد للإضاءة وللمؤثرات الصوتية واستخدام لعدد من الألوان الفنية الأخرى من بينها الكوريغرافيا والفيديو. مشاهد قريبة إلى عالم السريالية المتفرج تستوقفه كذلك ديكورات العرض والملابس وعدة أدوات تم اعتمادها على الركح وظهر الممثلون أمام الجمهور في حالة تشوّه جسدي أحيانا في مشهد شبيه باللوحات السريالية. كلّها عوامل استخدمت لمحاصرة المشاهد بمعنى آخر الإستحواذ على انتباهه في كل لحظة. اعتمدت لغة الإشارة في بعض ردهات العرض. استعمل علم تونس والنشيد الوطني حتى أنّه تم اقتطاع بعض فقرات من نصوص شكسبير تلاها رؤوف بن عمر بلغتها الأصلية (الإنقليزية) مع ترجمة فورية. العرض يغمر المشاهد ويحيط به من الزاويا الأربع ينغلق عليه ويأخذه في تياره وليس لك إلا أن تغوص في عالمه وتتابع سيل المشاهد بعين ثاقبة وبعقل متحفز وبروح متوثبة. هكذا أراد توفيق الجبالي ومن معه أن يخاطبوا العقول وأن يرجوا المشاهد وأن يقذفوا في داخله بذلك الشك الذي تعودنا أنه يقود إلى المعرفة. اختار توفيق الجبالي جمهوره ولو بشكل غير مباشر. لا حاجة له بمن جاء من أجل الهزل فالهزل في هذا العرض طعمه مر جدا وتكاد تتحسّس المرارة على لسانك وأنت تتابع أحداث المسرحية. الهزل في هذا العرض قاس جدا يضعك أمام مرآتك وللأسف فإن المرآة لا تعكس وضعا جميلا. بل العكس يرتد إليك الوضع في كامل القبح. أغلب المشاهد تدور في غرفة للأموات. ولابد للإقرار بقدرة الممثلين الثلاثة على مواجهة دور الميت بتلك القوة ببرودة أعصاب لا تتاح إلا للمثل القدير وقد كنا أمام ممثلين من طراز رفيع. والمناخ رهيب حيث تكاد رائحة الموت تزكم الانوف. مشاهد الجثث فوق عربة الموتى بالأغطية البيضاء رهيبة جدا. وأحد المشاهد بالذات لا يمكن أن نتابعها دون أن نشعر بعبثية الوجود وهي تلك التي كانت فيها الشخصيات في وليمة تقتات على جثة تنهشها وكلما قضمت منها إلا وتفتحت الشهية وخرجت الأنياب. الأحداث تدور حول مشهد متأزم حيث تسود الفوضى ويطغى الشعور بالحيرة وبعدم وضوح الرؤية اضافة إلى اتهامات واضحة للسياسيين إلى هؤلاء الذين لا ينتمون إلى جماعة الصفر فاصل بتهديد مستقبل البلاد إن لم نقل إدخالها في حالة سبات أو موت سريري. مع إشارات مباشرة إلى أن الأحداث تدور بعد الثورة. والتركيز كان على العقول المستهدفة. الأجواء غالبا حزينة ومتشائمة حتى وإن اختار توفيق الجبالي أن يترك الباب في نهاية العرض مفتوحا على أمل موجود وإن كان ضئيلا جدا.