الحمامات - الصباح: حطّ جمهور غفير يتكون أغلبه من رجالات الثقافة والمهتمين بالآداب والفنون ليلة الثلاثاء الرحال بمسرح الهواء الطلق بالحمامات لحضور عرض "مانيفاستو السرور" الذي افتتح الدورة الخامسة والأربعين لمهرجان الحمامات الدولي. وإن كان طرح اسم الأديب الراحل علي الدوعاجي في هذا العمل كفيل بإثارة الفضول فإن ارتباط العرض بالفنان توفيق الجبالي المسرحي المعروف الذي تولى انتاج العرض وإخراجه يجعل الفضول مضاعفا. ولم نكن بالتالي بعيدين عن التساؤل: إلى أي مدى نحن إزاء عملية إعادة اكتشاف على يدي الجبالي لعلي الدوعاجي الأديب التونسي الراحل وتقديمه في الصورة التي وعد بها في حديثه السابق لعرضه، صورة تكشف مدى استيعابه لشخصية الرجل المتعددة والثرية وتقديمها في عمل فرجوي يستهدف بالخصوص تلك الجماهير التي لا تعرف عن هذا الأديب الذي تكرمه بلادنا من خلال إحياء ذكرى مائويته الأولى إلا النزر القليل. لقد ظل الرجل كذلك على غزارة انتاجه حيث تقدر مسرحياته بالمئات وأشعاره وأغانيه كذلك إلى جانب اسهاماته في ساحة الإعلام والفنون التشكيلية وغيرها. وإلى أي مدى سيستفيد الجمهور من تجربة الجبالي وخصوصيات عمله وخاصة جرأة طرحه في الظفر بعمل فرجوي يجمع بين شواهد الإعتراف لشخصية استثنائية وتاريخية وأسباب العمل الفني القادر على شد الإهتمام حتى وإن كنا أو فرضنا أننا لا نعلم شيئا عن الدوعاجي. كان العرض أخيرا أمامنا منذ أن دقت الساعة العاشرة ليلا. صمت بالغ وفضول كبير رافق البداية واهتمام تواصل إلى النهاية وأكثر من ذلك لقد بدت تلك المشاهد التي تلت العرض مباشرة أشبه ما تكون بالسوريالية. أجواء الفرحة تمنح الجبالي أجنحة أكثر من مائة مشارك من الشباب استمروا على المسرح يعيشون اللحظة بكامل ما يمكن أن تتيحه من مشاعر. يصطفون لأجل صورة تذكارية مع السيد عبد الرؤوف الباسطي وزير الثقافة والمحافظة على التراث الذي شهد العرض كاملا إلى جانب والي نابل وعدد من الإطارات الجهوية. وفجأة تتعالى الأصوات وتهتف باسم الجبالي الذي يأتي قافزا وكأن أجواء الفرح قد منحته أجنحة ليلتحق بالجمع. كانت الحركة على الركح ملفتة للإنتباه. وكأن الفرجة ينبغي أن تتواصل إلى ما بعد العرض رغم أن مدة هذا الأخير لم تكن قصيرة. حوالي ساعتين ونصف. كل الأطراف المشاركة في "مانيفاستو السرور" كانت موجودة على عين المكان. المؤلفان محمد رجاء فرحات وعز الدين المدني يتلقيّان بدورهما التهاني. يعلن رجاء فرحات أن العرض إعادة اكتشاف لعلي الدوعاجي الذي كدنا ننساه رغم أنه جزء من الذاكرة التونسية ويغدق عليه بكم من الأوصاف الحميدة التي تلتقي كلها في وصف عبقرية الرجل ويقول عز الدين المدني من جهته أن الدوعاجي هو ذاك الذي شاهدناه على المسرح ولكن العرض لا يختزل شخصيته بالكامل ويشدد على أن أمورا كثيرة لم يشر لها العرض وأنه سيصدر له خلال الشهر القادم كتاب جديد بالفرنسية يضم أشياء للدوعاجي لا علم لأحد بها من قبل. ويذكّر عز الدين المدني بنفس المناسبة مستفسريه أنه كان ولازال يعمل كل ما في وسعه لإعادة اكتشاف الدوعاجي ليقدمه خاصة بين يدي جمهور الشباب الذين لا يستطيعون حسب رأيه هضم عرض "مانيفاستو السرور" ماداموا لا يعرفون شيئا عن آثار الرجل الأدبية والإعلامية والفنية. ولم يتردد المسرحي المنصف السويسي الذي كان من بين الحضور في الإعلان عن مباركته للتجربة معربا عن سعادته الكاملة بعودة مهرجان الحمامات للأصل والأصل عنده يتمثل في الإحتفاء بأبي الفنون. كانت الأجواء احتفالية على الركح .و مع ذلك وإذا ما عدنا إلى بداية العرض فإننا ندرك أن الأمور لم تكن بديهية إلى هذا الحد. كانت عملية الإقلاع صعبة شيئا ما. طالت المشاهد قليلا وكأن المخرج تعمد تمطيط المشاهد الأولى ليثير تساؤل الجمهور وشوقه. لكن مع مرور الوقت. تحرّرت الأصوات والأبدان وبدأنا نتحسس بصمات توفيق الجبالي ووخزاته التي كم أسعدت الجمهور ودفعته للضحك بصوت عال. رويدا، رويدا ندخل عالم الدوعاجي. نقتحمه من الداخل ونغوص في أعماق هذه الشخصية. ولا ننكر على توفيق الجبالي نجاحه في تقديم صورة واضحة المعالم للدوعاجي. لم يؤلهه ولم يقدم له صورة مجردة. وإنما قدم لنا شخصية إنسانية شفافة تحمل كل متناقضات المبدع الصادق من ملكات ومشاعر وعقد كذلك. الثأر للدوعاجي والإنتفاضة ضد تلك النهاية البائسة وبدت بصمات الجبالي واضحة جدا في المشهد الأخير. لقد اقتصّ بطريقته الخاصة من التاريخ. الدوعاجي الذي نعرف أنه مات وحيدا وبائسا وهو لم يقفل عامه الأول بعد الأربعين تبكيه امرأة عاشقة وتقام له جنازة رمزية ويودعه الناس بالولولة والنحيب وكأنه أراد من خلال ذلك اعلان ولادة الدوعاجي مجددا بعد الموت. وقبل ذلك لم ينفك العرض يقدم ابداعا لا يمكن إلا أن نندهش إزاءه عندما نعلم أن الدوعاجي كان قد عاش فيما بين 1909 و1949. ولا نزداد إلا دهشة عندما نستمع للدوعاجي يطرح قضية وجودية بأسلوب دقيق وبعيدا عن الإستهجان وهو الذي لم يبق على مقاعد المدرسة إلا عامين أو ثلاثة. وقد لخص الدوعاجي القضية في قصيدة بالدارجة التونسية يتساءل فيها بأسلوب يجمع بين النباهة والفطنة والظرف عما فعل بحياته وماذا ينتظر من هذه الحياة. كان توفيق الجبالي وفيّا لعهده. قال قبل العرض أنه لن يقدم الدوعاجي في صورة المبدع المتعب والمقهور وكان له ذلك. فلا شيء يشير إلى ما ترسخ في الأذهان حول ما يعرف ب"فنان الغلبة". حتى مشهد وفاة الدوعاجي الذي كان مأساويا حسب الرواة تحول إلى مشهد طريف. الدوعاجي يأفل أمام الكاميرا وهو يتحدث إلى مصدح المذيعة ( كريمة الوسلاتي ) في إعلان عن ذلك الصوت الذي يصدح عاليا وبالمناسبة فإن الجمهور اكتشف في هذا العرض المذيعة كريمة الوسلاتي تخطو خطواتها الأولى على المسرح وهي من بين تلاميذ توفيق الجبالي بورشة المسرح التابعة لفضاء التياترو. اعتمد العرض إذن على الهواة من تلامذة التياترو. وهو ما جعله ينضح بروح الشباب وبعفويته واندفاعه. لكن بانت ملامح العمل الحرفي الذي قام به توفيق الجبالي والتأطير الذي خص به الجماعة مستعينا بذلك بفريق من الفنيين والتقنيين الذين برهنوا على قدرة واضحة على الخلق ومن أبرز هؤلاء المخرجين المساعدين غازي الزغباني ونوفل عزارة والشاذلي العرفاوي وفؤاد ليتيم وصمم الرقصات نجيب خلف الله. اعتمد العرض إلى جانب السرد على أشكال فنية متعددة من بينها الغناء والرقص الكوريغرافي واستغل الجبالي بالخصوص الأجساد الرياضية للشبان والشابات لتجسيد الرقصات والمشاهد الإستعراضية كما استغل تقنيات تعدد الأبعاد خاصة في بداية العرض ومن خلال المشهد المحيل إلى مقهى تحت السور الشهير الذي كان يجتمع فيه الدوعاجي مع النخبة الثقافية والسياسية. احتل الجانب الرمزي في العرض مساحة كبيرة. وتجنب المخرج أن يكون عرض " مانيفاستو السرور" درسا تلقينيا مرتبطا بعصر الدوعاجي فحسب وجعل منه عرضا فرجويّا يحمل جمالية خاصة حيث تختلط فطنة الدوعاجي وطرافته بذكاء الجبالي وقدرته الكبيرة على تمرير الإحالات على هذا العصر بأسلوب فرجوي عصري وبالغ الطرافة مستفيدا من تكنولوجيا العصر وكان مشهد " المروقية " الشهير من أقوى الدلائل على ذلك. ولا ينبغي أن نغفل النص في هذا العمل. كنا إزاء توليفة ذكية وكوكتالا يختزل عمق التجربة الإنسانية ويعطي صورة واضحة عن تنوع تراث الدوعاجي وسخائه في العمل وطرافة أسلوبه وجمعه الذكي بين الجد والهزل. احتلت المرأة في العرض مكانة جوهرية ولمسنا بوضوح ما يحمله المبدع الراحل من مشاعر متناقضة تجاهها. فهو تراه يلاحق المرأة تارة ويخشاها أخرى. وقد لا ينبغي أن نغفل ما احتله "السفساري" من مكانة وكان في عمق عدد من اللوحات الكوريغرافية التي صممت للعرض كما أنه تم استخدامه لدوره الوظيفي ولما يحمله كذلك من رموز. ويبدو أن نجاح العرض كان وراء ما تقرر من إعادة برمجته في سهرة الإربعاء القادم بمهرجان الحمامات قبل أن يحل موعد السابع عشر من جويلية الجاري بمهرجان قرطاج الدولي.