في ركح موشح بالسواد يبزغ ظل شيخ وقور يرتدي البياض الناصع ويتحدث لهجة أهل الجنوب التونسي وتحديدا منطقة تطاوين.. هدوؤه وغموض كلماته يوحي بصراع يحتدم وراء الستار الأسود... ليحتل خشبة المسرح فجأة مجموعة من الشخوص تشع من عيونهم علامات الخوف والخشية.. وتكتمل الصورة الأولى لجديد حافظ خليفة "مراحيل".. هم سبعة أشخاص يرافق احدهم كلب هاربون من البطش والظلم.. رفضون للانصياع لأوامر الإمبراطور وواليه وثاروا على نواميس الحكم.. ثورتهم أخذتهم لكهف مظلم لا نهاية لسواده ولا مفر من مغادرته في النهاية لكن إلى أين؟؟ *عودة أهل الكهف.. والثورة* هذه الحيرة، التي رافقت مختلف شخوص مسرحية "مراحيل" إنتاج جمعية مهرجان عمر خلفت للمسرح بتطاوين اقتبست ملامحها من أسطورة أهل الكهف مازجة في نصها بين الأسطورة السريالية في عهد الحكم الروماني وبين قصة الكهف القرآنية بإضافة شخصية الكلب للرواية إلا أن توافق هذه الحكاية مع الراهن السياسي والاجتماعي والنفسي للتونسيين كان الطاغي على كتابة الأديب المتميز علي دب.. مسرحية "مراحيل" المغرقة في عمق التاريخ كانت معاصرة أكثر لواقعها حاملة بين سمات ديكورها وموسيقاها وتقنياتها السينوغرافية هوية صحراوية تراثية برزت في إيقاعاتها ومواويلها الجنوبية كما في ملابس أبطالها وإضاءتها، التي تفجر من حين لآخر حركة شخوص العمل فيما توحي في أحيان أخرى بغموض المكان وتحيلنا لمعالم الكهوف الغارقة في الظلمة أمّا ستائرها الموظفة كامل العرض بأساليب وألوان وأهداف متنوعة فكانت من أبرز مواطن جماليته وأكثرها إثارة للدهشة ومتعة المشاهدة إلى جانب تقنية خيال الظل، حيث أبدع في صيغتها مخرج هذا العمل، خاصة وأن حافظ خليفة يعد من أبرز أبناء جيله من المسرحيين الشباب في مجال الإخراج والسينوغرافيا وهي بصمة ترافق جل أعماله على غرار "طواسين" وتدرجه في خانة الفنانين المتفردين في تجاربهم المسرحية التجريبية. *شخوص ثائرة والمرأة مشعلها* في "مراحيل" تعددت مرجعيات الشخوص وإيقاع أدائها وتأثيرها في العلاقات المتشابكة فيما بينها كما اختلفت حكاياتها عن الأسطورة المتداولة لأهل الكهف إذ نجد امرأتين بين الشخصيات الثمانية وهما "دينا" الراهبة المتدينة والتي تحاول بث السلام والألفة بين رفاقها في الكهف وتدعهم للثورة ومحاربة الظلم وعدم ترك الوطن لمخربيه و"مايا" الراعية التي تحرضهم على الخروج من الكهف ومواجهة مصيرهم بالخارج المرأة في عمل حافظ خليفة وعلي دب كانت مشعلا للثورة إلى جانب "اقليد" الشيخ الحكيم ورجل العقل في العمل فيما عكس"كيداد" شخصية المعلم والمثقف الذي يرفض النظام الحاكم لبلده لكنه يكتفي بالصمت والأمل في زواله - وهي حال أغلب مثقفي اليوم - أمّا "كاسوم" فكان العامل البسيط المضطهد لكنه الواعي كذلك بحقيقة وجوده ويناضل من أجل البقاء والعيش الكريم وهي شخصية لا تبتعد كثيرا في ردود أفعالها عن شخصية "عيرام" تاجر الذهب رغم الفرق الطبقي بينهما فهذا الأخير كذلك يختار الثورة على الحكم الجائر لوطنه ولعّل الشخصية الأبرز بين الجميع والتي لاقت تفاعلا كبيرا من الجمهور هي شخصية "فيراف" العبد الأبكم الذي تميز أدائه بالطرافة والهزل وكان رمزا لثورة الجسد فهذا العبد لم يجد صوتا يصرخ من خلاله ويعبر عن ألامه وأوجاعه فكان صداها في حركاته الراقصة (تجدر الإشارة إلى أن الممثل الذي أدى هذه الشخصية كان راقصا محترفا في أدائه وتماهى مع دوره كما أضافت التقنيات المسرحية المعتمدة من حافظ خليفة للوحته الكثير من الجمالية"). "مراحيل" جسد أدوارها مسرحيون يدرجون في خانة الهواة ويحملون في أدائهم حرفية أبناء المهنة وهم علي قياد وأنور بن عمارة وأسماء بن حمزة ورياض الرحومي وكامل حداد ومسعودة الزرقاني ومحمد أمين قمعون وساعد في إخراج العمل منير هلال. "مراحيل" عرض مسرحي يحيلنا على واقع ثوراتنا العربية بكل تناقضاتها وما آلت إليه أحلام "الربيع العربي" لتكتشف هذه الشعوب أنها تتخبط في متاهات ومنعرجات كان قد وصفها الكاتب والفيلسوف "يوسف زيدان" في كتابه "اللاهوت العربي وأصول العنف الديني" بالانقلاب الخريفي معتبرا حال دول الثورات العربية اليوم أشبه بأسطورة "أهل الكهف".. وهي الفكرة ذاتها الحاضنة لعمل حافظ خليفة وعلي دب وجمعية مهرجان عمر خلفت للمسرح "مراحيل".