ظاهرة التهرّب من مسالك التوزيع الرسمية وإنتصاب الشاحنات على الطرقات والبطاح وداخل الأحياء تنمو في كل الجهات تونس الصباح: تنامت في الفترة الاخيرة ظاهرة بيع الخضر والغلال بشكل مباشر، ودون التزود من المسالك الرسمية المتمثلة أساسا في أسواق الجملة. وهذا التعامل المباشر في بيع هذه المواد الحيوية يلقى على ما يبدو انتشارا وإقبالا كبيرين نظرا لكون هذه الخضر والغلال التي يروجها بعض التجار من أصحاب الشاحنات أو الفلاحين في أماكن تكون عادة على الطرقات العامة أو قرب الاحياء تتميز بأسعار في متناول الجميع، علاوة على كونها طازجة لانها تروج يوم جنيها من الحقول. فلماذا تنامت هذه الظاهرة بالاساس وما مدى انعكاساتها على مسالك التوزيع الرسمية؟ وهل يمكن السكوت عنها، خاصة وأن القانون يحجر مثل هذه التعاملات نظرا للابعاد الصحية التي يجب توفرها في المعروضات ومراقبتها؟ ثم وفي ظل بعض الصعوبات والتجاوزات المتمثلة في مجال التوزيع هل يمكن العودة الى اعتماد نقاط بيع من المنتج الى المستهلك لتفادي بعض المضاربات والتهرب الضريبي والاداء البلدي؟ الظاهرة واستفحالها والاقبال عليها أينما تجولت على الطرقات الوطنية القريبة من العاصمة، أو جلت في الساحات ، وكذلك داخل الاحياء الشعبية بتونس الكبرى أو المحيطة بها، تلاحظ عددا كبيرا من شاحنات "الاسوزي" قد أرست هنا وهناك، وهي محملة بشتى أنواع الخضر التي يجري عرضها على عامة الناس. هذه الشاحنات وأصحابها من التجار تتولى في كل يوم التزود مباشرة من الفلاحين بشتى أنواع الخضر، ثم تتمركز في أماكن مختلفة من العاصمة لتتولى بيع أنواع هذه الخضر دون المرور بسوق الجملة. ويبدو أن معروضاتها الطازجة وذات الاثمان المتدنية مقارنة بالاسعار التي تعرض بها في الاسواق البلدية اليومية ونقاط بيع الخضر والغلال تلقى الاقبال الكبير من طرف المواطنين على اعتبار جملة من العوامل والحوافز التي يقدمها هؤلاء الباعة لحرفائهم، مثل تمكينهم من اختيار السلع التي تناسبهم، وبيعها بأسعار معتدلة جدا. ولعلنا أيضا لو جلنا في المدن والقرى القريبة من العاصمة مثل قلعة الاندلس وعوسجة والعالية والجديدة وبرج العامري والمرناقية ومرناق وغيرها من هذه الضواحي التي تتميز بإنتاج الخضروات والزراعات السقوية، للاحظنا انتصاب الفلاحين على الطرقات وعرضهم لشتى انواع الخضر مثل الفلفل والبطاطا والسفنارية والجلبانة والفول والقنارية والبصل والسلق وأنواع السلطة. وهي ظاهرة تتواصل على امتداد أشهر السنة ولا تتغير المعروضات فيها إلا بتغير المواسم. ويشار الى أن هؤلاء الفلاحين يتولون زيادة عن بيع الخضر والغلال التي ينتجونها على عين المكان تمكين اصحاب العديد من الشاحنات من اختصوا في هذ التجارة على التزود من عندهم دون التوجه لاسواق الجملة. اعتبارا لجملة من الامتيازات التي تتوفر لهم في التفريط في منتوجاتهم على عين المكان. وقد سألنا البعض منهم عن هذه الظاهرة فأشاروا الى أن عملية بيع الخضر والغلال على عين المكان تعتبر مربحة لهم على جملة من المستويات مثل عملية الترقب في البيع بسوق الجملة بالعاصمة، والعروض المتدنية التي يقابلهم بها التجار، وفوق كل هذا تجنبهم الاداءات العالية التي يتكبدونها بعنوان معاليم مختلفة داخل سوق الجملة، وربحهم أيضا المتمثل في أجر الحمولة. أما بالنسبة لبعض التجار فقد أشاروا الى أنهم تعودوا على مثل هذا العمل، وهو يدر عليهم أرباحا أهم بكثير من طريقة تزودهم بالخضر من المسالك الرسمية. وبين هؤلاء أن علاقتهم مع الفلاحين قد توطدت على مر السنين، وأصبحوا يمثلون الحرفاء القارين لهم، ولا أحد في هذا الطرف أو ذاك يمكنه أن يستغني على الطرف الاخر مادامت الفائدة عامة بينهم ومشتركة. الظاهرة تتوسع لتشمل بعض محلات بيع الخضر والغلال وقد يهون الامر مع تنامي هذه الظاهرة في الاحياء والبطاح وعلى الطرقات، لانها مهما تطورت تبقى معزولة ومحدودة أمام كميات الخضر والغلال التي تمر عبر سوق الجملة ببئر القصعة الذي يمثل المزود الاساسي لبقية الاسواق اليومية ونقاط البيع. لكن هناك ممارسات لا بد من الحد منها وتتمثل في تزويد هذه الشاحنات لاصحاب نقاط البيع من الخضر والغلال. فهذه الممارسات تخل بطرق التزود القانونية والعرض المنظم، كما أنها تطال الاسعار والتحيل عبرها والتلاعب بها. فلا يمكن لصاحب نقطة بيع قارة من الخضر والغلال أن ينشط في هذا المجال دون أن يستظهر بتسعيرة الشراء التي يحصل عليها من سوق الجملة والتي تحدد هامش الربح، كما أن عليه أن يشهرها أيضا ويتعامل بها على قاعدة قانونية. وان كل ممارسة مخالفة لهذه الطريقة تعتبر خارجة عن قانون النشاط التجاري في هذا المجال، وتعتبر مخالفة تعرض صاحبها للعقاب وحتى لغلق المحل. الحل يكمن في بعث نقاط بيع من المنتج للمستهلك إن تنامي هذه الظاهرة واتساع عدد متعاطيها تجارا كانوا أم فلاحين تضر في الحقيقة بمسالك التوزيع الرسمية التي تسعى السلط الى تطويرها وتحسين آدائها وحتى العمل على تكثيفها وتوزيعها على مناطق مختلفة من تونس الكبرى. والكل يعلم أن هناك مشروعا لبعث سوق جملة ثان بإحدى ضواحي العاصمة. لكن في انتظار هذه الحلول، وعملا على تطويق هذه الظاهرة أو تنظيمها على الاقل، كان لابد من التفكير في أسالب جديدة يمكنها أن تحاصر مظاهر هذا البيع العشوائي للخضر والغلال، على اعتبار أن التعامل معها لابد أن يكون خاضعا لمجالات حفظ الصحة ومراقبة هذه المعروضات بشكل يومي ودقيق. وفي نظرنا، فإن المراقبة الاقتصادية لا يمكنها أن تكون شمسا تضيء على كافة أنحاء العاصمة وتحاصر هذه التجاوزات أينما كانت. وكما يقول المثل " اللي يسرق يغلب اللي يحاحي". ولهذا وضمانا لتسويق هذه المواد الاستهلاكية، لابد من أخذ تدابير أخرى يمكنها أن تضمن عرضها في ظروف حسنة، ويمكن أيضا مراقبتها. وتتمثل هذه التدابير في بعث نقاط بيع من المنتج للمستهلك، تكون معروفة، ومحددة الاماكن ويتحمل أصحابها من الفلاحين مسؤولية سلامة معروضاتهم. وقد سبق في سنوات خلت أن تم التعامل بهذه النقاط، وقد لاقت في الحقيقة نجاحا وإقبالا من المواطنين، ومثلت في جانب أخر هام تعديل السوق والاسعار في آن واحد، لان الفلاح في العموم يتعامل داخل هذه النقاط بشيء من الشفافية والقناعة وباسترسال في العرض. فهل تتولى وزارة التجارة التفكير في هذا الاسلوب الذي سيمثل حسب نظرنا حدا للمضاربات وللحد من تدخل الوسطاء والترفيع المجاني للاسعار؟