تقلبات.. تجاذبات.. مدّ وجزر.. صدامات ومشاحنات ..أحزاب اندثرت وأخرى رأت النور ، هذه نتف من عناوين رئيسية طبعت حياتنا السياسية بمختلف مراحلها منذ الثورة إلى الآن.. لكن رغم الهرج والمرج السياسي و الذي كان العنوان الأبرز لمرحلة ما نسميه بالانتقال الديمقراطي الأولى والثانية ،فان هناك تنظيمات سياسية حافظت على ثباتها رغم الرمال المتحرّكة من حولها.. حركة النهضة من بين هذه الأحزاب التى صمدت قبل الثورة وحافظت على وجودها السياسي رغم اضطرارها للسرية ،وصمدت بعد الثورة في تحمّل أوزار فشلها في ادارة شؤون البلاد وهي تحكم.. بين السرية والحكم لم تتغيّر حركة النهضة من الداخل وبقيت ذهنية التنظيم السرّي غالبة عليها ،منتهجة في ذلك سياسة القوقعة إذ رغم الخلافات الداخلية وصراع "العقليات" والأجنحة التي تعاني منه النهضة كغيرها من الأحزاب لكنها من المستحيل أن تنشر غسيلها على حبال شرفة غيرها.. ولئن عرّت تجربة الحكم، حركة النهضة وكشفت الكثير من مواطن الضعف والارتجال في أداءها وتذبذبها بين أن تكون حزبا مدنيا وبين التنظيم الديني الذي يتبنى مواقف متطرفة ومتشددة تسيّرها الايديولوجية والعقيدة (مازالت بعض القيادات التاريخية لحركة النهضة تؤمن بهذا المنحى السياسي) ،ورغم الصعوبات الكثيرة التي واجهتها في السيطرة على الوضع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ،وكبح جماح المعارضة ومحاولاتها المستميتة لإزاحتها عن كرسي الحكم.. حكم بمواصفات خاصّة.. حكم النهضة "تلوّث" رغم أنفها بعدد من الأحداث السوداء و التي ستبقى في ذاكرتنا لوقت طويل..فزمن الترويكا كان بامتياز زمن الاغتيالات السياسية .. و زمن تسلّل الإرهاب إلى ديارنا مع مواجهة مفتوحة بدأت ولا ندري متى ستنتهي تحديدا.. لكن رغم المطبات والعراقيل والأزمات السياسية المتتالية والمتلاحقة استطاعت حركة النهضة في كل مرة الإفلات من فكي الكماشة فمثلما استطاعت أن تتفادى الغضب الشعبي العارم بعد اغتيال شكري بلعيد ،استطاعت كذلك أن تمتص غضب الشارع بعد اغتيال البراهمي ومجزرة الجنود في الشعانبي.. ففي كل مرة تراوغ لتفشل مخططات خصومها السياسيين، فنواب المعارضة الذين باتوا اليوم يستشعرون ورطة حقيقية بانسحابهم من التأسيسي استطاعت بخبث ودهاء سياسي تشتيت جهودهم و افراغ ثقل جبهة الانقاذ من خلال اتفاقات الكواليس التي جمعتها بنداء تونس والتي تستمر في العلن المعركة الصورية بينهما لكن في العتمة والخفاء تعدّ سيناريوهات المرحلة القادمة بكل دقة وتأنّي ..وحتى الرباعي الراعي للحوار كادت تصيبه بالجنون وهم يلاحقون مواقفها المتقلّبة ففي كل مرة تنجح النهضة في بيع "الوهم" لهم..هي تدرك جيّدا حجم خصومها الحقيقي وهي كذلك تعرف ما يعدّ لها سرّا وعلانية كما تدرك أن خروجها من الحكم دون ضمانات للعودة قد ينهي وجودها تماما..وهي تدرك أن تعنتها قد يدفع البلاد نحو المجهول ..لكن رغم ذلك تصّر على الصمود وتبرع في امتصاص الصدمات وفي حشر الجميع في الزاوية وفي تحويل كل انكسار إلى انتصار..فاتورة "بهلوانيات" حركة النهضة تضخّمت أرقامها ووصلت إلى أسعار خيالية..و على ما يبدو أن الشعب وحده هو من سيسدّد هذه الفاتورة !