اسم آخر من جيل الفنانين العمالقة ينطفئ فقد رحل الفنان الكبير وديع الصافي مساء أول أمس في بلده لبنان عن سن تناهز 92 سنة وقد كان مهما جدا بالنسبة لوديع الصافي أن يموت في بلده وهو الذي جرب الغربة وعاش خارج لبنان بعد أن اضطرته الحرب الأهلية التي اندلعت سنة 1975 إلى الهجرة قسرا. ولم يكن وديع الصافي يخفي مشاعر الغضب ومشاعر الحزن على الأوضاع في لبنان كما أنه لما غادرها ازداد ارتباطا بها فقد نقل عنه قوله أنه "ليس هناك أعز من الولد سوى البلد ". هذا الفنان الأصيل الذي يقدر كل حبة من تراب بلاده سخّر حياته للفن. وأهدى الجماهير أجمل الأغاني وأعذبها وأكثرها قربا من النفوس والقلوب ولعله من الشخصيات القلائل التي يتفق حولها اللبنانيون في ظل حالة الإنقسام الواضحة اليوم في البلد. ليس هذا فحسب بل إن وديع الصافي جمّع حول فنه الملايين من الجماهير العربية وهو ما لم تستطعه القيادات السياسية خاصة هذه الأيام. وإن كان الجميع تقريبا يتّفقون على حلاوة صوته وعلى صفائه حتى أنه لقب بوديع الصافي أساسا لصفاء الصوت فإن أبرز ما يبقى في الذاكرة عندما يأتي الذكر على وديع الصافي دماثة أخلاقه وتواضعه وأدبه وذوقه وتحضره وأناقة حضوره وهي خصال لابد من التأكيد عليها في زمن صار البحث فيه عن هذه الصفات عندنا كالبحث عن إبرة وسط أكوام من التبن. فهذه القامة الفنية نموذجا في تواضع الكبار وهذا الاسم اللامع وكل تلك الشهرة التي حظي بها وديع الصافي لم تكن لتزيده إلا تواضعا أمام الجماهير ولم تكن تزيده إلا خلقا فقد كان فنانا كريم الخلق. طلّته الحلوة وابتسامته التي يتهلل لها وجهه بالكامل تبعث الراحة في النفس ولهذه الأسباب كان وديع الصافي محبوبا ومبجّلا عند الملايين من الجماهير العربية وكان كذلك محل تقدير لدى الجماهير الأجنبية التي كانت تقدر فنه وأسلوبه في الآداء وتعترف له بجهده خاصة في مجال تجديد الأغنية اللبنانية التي يجمع النقاد والملاحظون أنها قبل وديع الصافي لم تكن لها هوية واضحة المعالم مثلما هو الشأن اليوم. وديع الصافي نقل البيئة اللبنانية إلى العالم. نقل اللهجة اللبنانيّة وجعل من هذه اللهجة حمّالة فن جميل وراق كذلك. صوته يقطر عذوبة وألحانه تتسلل إلى الروح وأنغامه تبقى في البال وطريقته في الآداء تسلب الألباب. وديع الصافي كان يشكل قصيدة في حد ذاته لذلك فإن رحيله قد أوجع الجماهير التي تربت على صوته أو تلك التي اكتشفته فيما بعد وتعلقت به وكان يملك جاذبية تجعله محبوبا لدى الأجيال جيلا بعد جيل. الفتى الفقير الذي أصبح عملاق الطرب اللبناني والعربي كان وديع الصافي قد ولد سنة 1921 في قرية لبنانية. عاش الفقر والحرمان ثم تنقلت عائلته إلى العاصمة بيروت وتغير حاله بمجرد أن شارك في مسابقة إذاعية سنة 1938 خرج فيها الأول في قائمة تضم أربعين متباريا. ومنذ تلك اللحظة الحاسمة تحول وديع فرنسيس إلى وديع الصافي باقتراح من الأساتذة الذين اكتشفوا صوته. منذ بداية الخمسينات ذاع صيت وديع الصافي وانتشرت أغانيه وشدت الإنتباه لأنها تعتمد على كلمات بسيطة على خلاف العادة لدى المطربين العرب. لحن له عدد من عمالقة الموسيقى في العالم العربي على غرار محمد عبد الوهاب الذي آمن به منذ اللحظة التي اكتشف فيها صوته. مع العلم وان وديع الصافي لما غادر بيروت عند اندلاع الحرب الأهلية انتقل إلى مصر وقضى بها عاما قبل ان يتحول إلى بريطانيا ثم ينتقل إلى فرنسا ويستقر بها. لحن له فريد الأطرش وتعامل مع فيلمون وهبي وزكي نصيف والأخوين الرّحباني وكان بدوره ملحنا جيدا ولحن لنفسه مجموعة هامة من الأغاني. من بين اشهر أغانيه نذكر "عا الله تعود عا الله " و"عندك بحرية يا ريّس" و"لبنان يا قطعة سما" و"الله يرضى عليك" وغيرها من الأغاني التي طبعت الذاكرة بعذوبة الألحان وجمال الكلمات وسحر الآداء الذي لا يعرف سره إلا وديع الصافي. خلعت على وديع الصافي عدة ألقاب من بينها عملاق الطرب العربي وعملاق الطرب الجبلي وغيرها وهو ببساطة كان لوحده عبارة عن مدرسة فنية رغم أنه خرج مبكرا من المدرسة لظروف عائلية ولشغفه بالموسيقى وفق ما تؤكده سيرته الرسمية. قدم عدة حفلات في تونس ولعل أشهرها حفله الذي اقامه في بلادنا يعود إلى الستينات وكان قد غنى فيه بالخصوص "الليل يا ليلى" وموال "كفاني يا قلب ما أحمل" وآخر زيارة إلى تونس تعود إلى سنة 2010 حيث كان قد أقام عرضا في مهرجان قرطاج الدولي ولعله تجدر الإشارة إلى أن وديع الصافي يحظى بمكانة كبيرة لدى الجمهور التونسي الذي يحفظ له الكثير من الأغاني ويقبل على حفلاته بأعداد غفيرة. وكان الفنان الراحل قد عاد إلى الفن بعد عملية جراحية على القلب سنة 1990 وحقق نجاحا كبيرا وبقي يغني حتى بعد ان تجاوز الثمانين من العمر وبرهن عن قدرات كبيرة وعن طاقة جبارة. كان لما أصيب بوعكة صحية مساء اول أمس بمنزل احد أبنائه الثمانية (طوني) شرقي لبنان وغادر الحياة بعد قليل من نقله إلى المستشفى حسب ما ذكرته وكالة الانباء اللبنانية التي أشارت إلى أن مراسم دفن الفنان القدير ستنتظم يوم الغد الإثنين في كاتدرائية مار جرجس في وسط بيروت. مؤكد لا يمكن أن نختزل تاريخ وديع الصافي الفني الكبير في بضعة كلمات لكن ما لا يمكن أن نغفله أنه كانا فنانا كبيرا بأخلاقه وبفنه وأنه رحل وهو يشعر بشيء من الحزن على تراجع الفن عند العرب.