عرفت ظاهرة العمل الاجتماعي والتضامني المدني في تونس خلال شهر رمضان الجاري تغييرا ونقلة نوعية، على خلاف "الصيغ" والأساليب المتعارف عليها في التعاطي مع هذه الظاهرة في السنوات السابقة، سواء تعلق الأمر بشهر رمضان أو في فصل الشتاء لمساعدة العائلات المعوزة في المناطق النائية الباردة أو أثناء العودة المدرسية وغيرها من المناسبات الأخرى. فلم تعد المسألة بما تحمله من أبعاد إنسانية واجتماعية ومقاصد سامية، حكرا على الجمعيات الخيرية والمنظمات التي تنشط في هذا المجال بل أصبح توجها لأعداد كبيرة من الناشطين في المجتمع المدني والراغبين في مساعدة المحتاجين. ولعل ما يحسب لخصوصية ظاهرة رمضان الحالي باعتباره شهر الرحمة والبركة الذي يقبل فيه أغلب المواطنين على العمل الخيري والإنساني، هو أن عمليات جمع التبرعات والمساعدات انطلقت منذ بداية الشهر بشكل كبير بعد أن اكتسحت أعداد كبيرة من الشباب من الجنسين، أغلبهم لا تتجاوز أعمارهم العشرين سنة، الفضاءات والمساحات التجارية الكبرى المنتشرة في كامل جهات الجمهورية، في محاولة لتحسيس زوار وحرفاء تلك الفضاءات بضرورة تقديم مساعدات مالية أو غذائية أو غيرها من التبرعات الممكنة من ملابس وألعاب وتجهيزات منزلية وذلك حسب رغبة ومقدرة الراغب في الانخراط في العمل التضامني الخيري بهدف مساعدة المحتاجين والعائلات المعوزة والفقيرة وكبار السن تحت عناوين مختلفة منها الهبات والصدقات أو الهدايا والإعانات. والملفت في هذه الظاهرة أنها شهدت خلال الأيام الأخيرة نقلة نوعية فتنظيميا كان الناشطون فيها يرتدون لباسا موحدا ويحملون بطاقات تحمل أسماءهم والجهات التي يمثلونها. إذ لم تعد أنشطتهم وحضورهم يقتصر على الفضاءات التجارية الكبرى بل كثفت من نشاطها في جمع التبرعات بعد أن اقتحم المشاركون في جمع المساعدات المحلات التجارية الصغرى والأسواق والشوارع والباعة في الأسواق والفضاءات العامة والخاصة. ويكفي الاستشهاد بما يحققه برنامج "القفة" ذي الأهداف الاجتماعية الذي تبثه قناة حنبعل خلال شهر رمضان الحالي من نسب مشاهدة ومتابعة خاصة بعد أن أقدمت المرأة التي تدعى "فرجانية" على التبرع بمبلغ في حدود 7 آلاف دينار للمعوزين كانت تدخره منذ عقود لغاية القيام بفريضة الحج وما تعنيه هذه المبادرة من رمزية ومعان إنسانية. أزمات وسعت دائرة الفقر لئن تكشف هذه الظاهر الحميدة عن مقاصد القائمين عليها والمشاركين فيها لخدمة المصالح العامة لما تحمله المبادرات من منافع وفوائد للفقراء والمحتاجين والضعفاء، فإنها تبين الوضع الاجتماعي المتردي وتوسع دائرة الفقر والفقراء في هذه المرحلة من تاريخ تونس وذلك بسبب التداعيات السلبية لجائحة "كوفيد 19" وما خلفته من إشكاليات اجتماعية تمثلت بالأساس في إحالة آلاف من المواطنين على البطالة وإغلاق لمواطن شغل عديدة من ناحية، تزامنت مع تأزم الوضع الاقتصادي والاجتماعي بسبب الارتفاع الفاحش لأسعار المواد الغذائية والخضر والغلال من ناحية ثانية، وعدم قدرة الدولة على التحكم في ذلك وعجزها عن فرض سياسة تراعي وتكرس العدالة الاجتماعية بما تضمنه من حفظ وضمان لكرامة وحقوق الطبقات المتوسطة والفقيرة في المجتمع من ناحية أخرى. لذلك فإن الإقبال المكثف على جمع التبرعات خلال هذه الفترة وبالشكل الذي سبق ذكره، يكشف حجم الفقر والمحتاجين في المجتمع التونسي اليوم وتزايد عدد المحرومين والعاجزين عن توفير قوت يومهم، خاصة أن الأمر لم يعد خافيا في ظل غياب دور الدولة وعدم القدرة على تقديم منح ومساعدات مالية كفيلة بتغطية احتياجات العدد الكبير من العائلات والأفراد الذي هم في حاجة لاسيما أن قرارات رئاسة الحكومة، استئناسا باللجنة العلمية لمجابهة فيروس كورونا المستجد، بغلق المقاهي والمطاعم واعتماد حظر الجولان منذ الساعات الأولى للمساء كانت جائرة في حق عدد كبير من المواطنين والعائلات التي تعتمد في موارد رزقها على الاشتغال في قطاعات تضررت من هذا الإجراء. استثمار السياسي في الأزمة لعل ما يميز الأنشطة ومساعي فتح أبواب الخير والعطاء أمام الميسورين أو الراغبين في تقديم الصدقات والإعانات والتبرعات هو خلوها "شكليا" وظاهريا من رائحة "السياسي" والحزبي. إذ اقترنت مثل هذه الظاهرة في السنوات الماضية بمحاولات بعض الأحزاب السياسية الاستثمار في الأزمات من خلال توجيه الجمعيات التي تقاطع معها في نفس الأجندات والتوجهات أو الأخرى التابعة لها في تقديم المساعدات والتبرعات خاصة خلال شهر رمضان لشراء ود هذه الشريحة من المجتمع أو الاقتصار في توزيع ما تم جمعه من تبرعات وطنية أو بدعم جمعيات ومنظمات وجهات أجنبية على أنصارها ومواليها دون سواهم. لكن بدا الأمر اليوم مختلفا. ربما يرجع هذا الغياب إلى حالة الغليان والتشتت والصراعات والمناكفات الطاغية على المشهد السياسي والحزبي ثم أن موعد الانتخابات لا يزال بعيدا بالنسبة للمراهنين على استغلال قفة المواطن كمطية لشراء الأصوات. لكن البعض فسر هذا الغياب بأن وعي الجميع بتوسع دائرة الفقر والمحتاجين في مختلف الأوساط الاجتماعية في هذه الفترة تحديدا وتعفف أعداد كبيرة منهم عن طرق أبواب الآخرين لطلب المساعدة كان من العوامل الذي حرك الجوانب الإنسانية في المجتمع ليدفع البعض بأبنائهم إلى ساحة العمل الاجتماعي خاصة من أبناء الأثرياء ليجمع التبرعات. وهي مبادرات من شانها أن تغرس ثقافة العمل الإنساني المساعدة وتكرس مشاركة الآخر في الأزمات لكن دون التشهير بالأوضاع الاجتماعية.