دستور 2014 لا يختلف عن دستور 1959، ولم يكن في حجم انتظارات شعب أنجز ثورة، قانون مكافحة الإرهاب الحالي ليس بإمكانه مكافحة الإرهاب، وهو لا يعدو أن يكون سيفا مسلطا على حرية التعبير، اغلاق المساجد لن يحلّ قضية الإرهاب بل سيزيد في تفريخ الإرهابيين ، كل هذه التصريحات وغيرها من المواقف جاءت على لسان أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد الذي عرف بمواقفه النقدية الجريئة إزاء الطبقة السياسية، في حوار ل الصباح في ما يلي نصه: أجرى الحوار :وجيه الوافي *بعد 5 سنوات من الثورة شهدت البلاد خلالها العديد من التقلبات السياسية والأمنية والاقتصادية، كيف تقيمون الوضع اليوم؟ وما مدى نجاح الثورة في تحقيق أهدافها التي قامت عليها؟ - الوضع الراهن هو نتيجة طبيعية للأخطاء التي عقبت الثورة، فمنذ الأسابيع الأولى التي تلت تاريخ 14 جانفي 2011 تم الانحراف بالمطالب الحقيقية للثورة والمتمثلة أساسا في الكرامة والحرية والمواطنة، لكن أطرافا سياسية قامت بتحويل وجهة هذه المطالب ورفع شعارات وهمية لم تكن في اهتمامات الشعب التونسي على غرار المسألة الدينية وقضية الهوية التي حسمها التاريخ منذ عقود طويلة قبل أن تحسمها نصوص القوانين وأحكام الدستور، عندها بدأت الاصطفاف وراء أطراف سياسية استغلت انسياق المواطن وراء قضية الدين والهوية لاضفاء مشروعية على نفسه، مما ولد انقساما عميقا بين مختلف مكونات الشعب وجاءت انتخابات أكتوبر وسط أجواء من الاحتقان وأفرزت مجلسا تأسيسيا وضع دستورا في مشهد اتسم بالصراع حول اقتسام السلطة بين الأطراف السياسية التي سعت إلى تأسيس دستور يرضي مرجعيتها. انتخابات 2011 التي عرفت تزويرا لعقول الناخبين من قبل السياسيين أدى إلى عزوف المواطنين في انتخابات 2014 ولم تحسم نتائجها الصراع على السلطة، وحسب رأيي فان السبب الرئيسي وراء الوضعية الراهنة للبلاد هو أن البناء الذي تم في نص الدستور يكاد يكون هو نفسه الذي وقع به صياغة الدستور القديم، مما أفرز دستورا شبيها بدستور 1959 مع بعض التحويرات الصورية التي لا تغني ولا تسمن من جوع، دستور لا يتماشى مع متطلبات الثورة التي أجهض جزء من مسارها، دستور وضع على مقاس أطراف بعينها على غرار دستور 1959، ويبقى الدستور الحقيقي هو ذلك الذي خطه شباب الثورة على الجدران. *لماذ استفحلت الظاهرة الإرهابية وزادت حدتها في تونس خلال السنوات الأخيرة؟ -استفحال الظاهرة الإرهابية في تونس مرتبط بواقع إقليمي ودولي نتيجة إرادة خارجية لتدمير الدول والتنظيمات الإرهابية ليست سوى معول في يد هذه القوى الأجنبية لتنفيذ مخططاتها في عدد من الدول المستهدفة والتي صارت تشكل خطرا على القوى العظمى لذلك فان معالجتها لا يمكن أن تتم إلا على مستوى شامل بالتعاون مع الدول الأخرى، كما أن قانون مكافحة الإرهاب لم ينجح في الحدّ من الخطر الإرهابي، بل تحول إلى سيف مسلط على حرية التعبير وحرية الإعلام، كما أن ما تروج له الطبقة السياسية ومنظمات المجتمع المدني بعقد مؤتمر لمقاومة الإرهاب ليس سوى حديث للاستهلاك الإعلامي ولن يحقق هذا المؤتمر أي نتيجة تذكر، ولا يعدو أن يكون كلام حق أريد به باطل وسيكون فرصة لتصفية الحسابات السياسية بين أطراف مازالت تتصارع إلى اليوم، لذلك فان معالجة هذه الظاهرة لن يكون ممكنا إلا إذا توفرت الإرادة الصادقة من قبل كل الأطراف. كما أن تفشي هذه الظاهرة في تونس يعود إلى اليأس الذي نخر الشباب ودفعه إلى التوجه نحو الموت الذي وجد فيه أملا للخلاص من واقع مترد، واقع لم يجد فيه نفسه، نتيجة تقصير السلط الحاكمة وانهماك السياسيين في حرب الكراسي. *هل تكفي الحلول الأمنية للحدّ من تفشي الظاهرة الإرهابية؟ -الحلول الأمنية وإن كانت ضرورية في مرحلة معينة لإظهار قوة الدولة في تطبيق القانون وردع الارهابيين، فإنها تبقى غير كافية في ظل الانتشار الكبير والسريع لهذه الظاهرة التي تتطلب معالجة متعددة الاتجاهات، منها التنموي والإحاطة بالشباب وإعطائه فرصة البروز في بلاده، والتونسي اليوم محتاج أن يشعر أنه مواطن ينتمي لهذا الوطن حتى يشعر أنه معني بكل ما يحصل في بلاده لكن للأسف الحكومات المتعاقبة اقتصرت على الحلول الأمنية والمسارعة بغلق المساجد التي تبين عدم نجاعتها بالقدر الكافي، حيث اثبتت تجربة حكم بن علي على امتداد 23 سنة أن اغلاق المساجد والسيطرة عليها لم يؤت أكله وعلى العكس زاد في تفريخ التطرف والنتيجة ما نراه اليوم حيث يمثل التونسيون في التنظيمات الإرهابية النسبة الأكبر، والسلطة الحاكمة اليوم ترتكب نفس الخطأ في هذا الجانب، كما أن الفتاوى التي تحرض على الإرهاب والقتل أصبحت متاحة على مواقع التواصل الاجتماعي ولم يعد الإرهابي في حاجة إلى مسجد أو إمام ليتلقى أبجديات العمل الإرهابي. *هل أن غلق الحدود مع ليبيا حلّ ناجع للحدّ من الخطر الإرهابي؟ -غلق الحدود هو إجراء معقد لأن أغلبية سكان الجنوب التونسي يعتمدون على التجارة مع الجانب الليبي لتوفير قوتهم، وكان بالإمكان اتخاذ إجراءات أخرى لمراقبة الحدود دون الوصول إلى إغلاقها ولا يمكن لهذا الإجراء أن يتواصل بحكم ارتباط الحياة اليومية لسكان الجنوب بالتبادل التجاري مع ليبيا، وغلق الحدود اليوم لن يحدّ بالقدر الكافي من الخطر الإرهابي وكان من الأجدى اتخاذ هذا القرار في وقت سابق وليس الآن بعدما تمكنت الشبكات الإرهابية من تنظيم تحركاتها وتمكنها من خلق شبكة تواصلية لا تتأثر بإغلاق الحدود. *بالعودة إلى الأزمة السياسية التي تعيش على وقعها حركة نداء تونس، ماهي الأسباب التي أدت بهذا الحزب إلى الحالة التي هو عليها الآن؟ - حزب نداء تونس تأسس على اتفاق لرفض جهة سياسية أخرى كانت تسيطر على المشهد السياسي آنذاك، ولم يكن بمقدور مؤسسيه تقديم تصورات اقتصادية وبرامج ناجعة، وحين وصل الحزب إلى تحقيق أغلبية في مجلس نواب الشعب لم تستطع مكوناته الاتفاق حول طريقة العمل لأنها كانت مفقودة منذ البداية، مما يعني أن حالته اليوم هي أمر طبيعي. *أي تأثير لأزمة النداء على الأداء الحكومي والعمل البرلماني؟ -لا تبدو الحكومة الحالية مبالية بالانشقاقات داخل حزب نداء تونس، وهي تعمل بعيدا عن منطق الأغلبية خاصة وأنها تحظى بدعم الطرفين المتنازعين داخل حركة نداء تونس، كما أنها تعمل كأنها امتداد لسلطة قصر قرطاج غير عابئة بالأغلبية الحزبية التي ساندتها داخل مجلس نواب الشعب، ومن التجني على الوطن اختزال قضايا البلاد في أزمة حزب بعينه أو أحزاب أو أفراد، بما يعني أن صراع جناحي نداء تونس لم يؤثر على العمل الحكومي ولا على الأداء التشريعي ونحن نرى أن القوانين تمر بالأغلبية المطلقة وهو دليل على أن هذه الصراعات ليست صراعات حول توجهات الحكومة، بل استعدادات مبكرة للشقين للمعركة الانتخابية القادمة، صراعات حول الزعامة وحول السلطة. *في حال انقسام حركة نداء تونس، هل سنجد أنفسنا أمام مشهد سياسي تهيمن عليه حركة النهضة، خاصة وأن تأسيس نداء تونس كان لخلق توازن سياسي؟ -لا أعتقد في عودة المشهد السياسي إلى المربع الأول الذي مرت به تونس قبل انتخابات 2014 والذي تميز بهيمنة حركة النهضة على المشهد السياسي في ظل غياب طرف قادر على خلق توازن مطلوب في الحياة السياسية، لكن تبقى كل الفرضيات واردة، ويبقى ذلك رهين ما ستقرره الأطراف المتنازعة داخل نداء تونس، ورهين سلوك حركة النهضة في التعامل مع الواقع السياسي المتحرك، ولا أعتقد أن النهضة مستعجلة للانقضاض على السلطة، ورهين التحالفات المنتظرة مع قوى سياسية أخرى. *منذ انتخابات 2011 حركة النهضة هي الحزب الوحيد تقريبا الذي حافظ على تماسكه، حتى بعد خروج حمادي الجبالي الذي يعتبر أحد رموز الحركة فقد ظلت النهضة ذلك الحزب المتين إلى حدّ معين، مقابل تفتت عدد كبير من الأحزاب الأخرى، هل في ذلك سرّ؟ - فضلا عن تقاليده في الانضباط الحزبي، فمن الأسباب الحقيقية لتماسك حركة النهضة هو أنها كانت لفترات طويلة ومازالت إلى اليوم مستهدفة من أطراف داخلية وخارجية، وهذا الشعور بالتوجس فرض على الحركة ومنتسبيها الانضباط بدرجة كبيرة ورغم الاختلاف داخلها فقد استطاعت النهضة الحفاظ على وحدتها وتماسكها، في المقابل انخراط الأحزاب الأخرى في صراعات حول المناصب والصراعات الداخلية. *هل بإمكان تونس تجاوز الأزمة الاقتصادية التي تمر بها في الوقت الراهن؟ - المشكل الاقتصادي في تونس اليوم هو نتيجة طبيعية للعديد من التراكمات العقود الفائتة التي لن تتمكن خلالها البلاد من إيجاد توازنها بسبب ثقل الديون وتفاقم الاقتراض، خاصة وأن المؤسسات الدولية المانحة تفرض شروطها عند منح القروض وهو ما يمس من السيادة الوطنية، ولا يمكن بالتالي القيام بإصلاحات هيكلية لأن القرار الوطني غير موجود، ولا يمكن تجاوز المشاكل الاقتصادية إلا بحلول تنبع من الداخل ووضع أهداف بأياد وطنية وليس حسب ما تمليه المؤسسات الدولية. *غدا سيتسلم الرباعي الراعي للحوار الوطني جائزة نوبل للسلام 2015 وسط خلاف عميق بين اتحاد الشغل ومنظمة الأعراف، هل سينعكس ذلك سلبا على صورة تونس في المحافل الدولية؟ - جائزة نوبل للسلام دائما يقع توظيفها سياسيا، وكان من المفروض أن يقع تجاوز هذه الخلافات حتى لا تأثر سلبا على صورة تونس في الخارج خاصة وأن اتحاد الشغل ومنظمة الأعراف ساهما في حلّ الأزمة السياسية في 2013، لكن يبدو أن انقساماتنا وصلت إلى أوسلو، وهو أمر غير مقبول. جريدة الصباح بتاريخ 9 ديسمبر 2015
