"الحرب على الفساد لا تحتمل خيارات.. فإما الدولة وإما الفساد.. والحكومة تتحمّل مسؤولياتها وستقود المعركة إلى النهاية"، بهذه الجملة علّق باقتضاب رئيس الحكومة يوسف الشاهد على حملة الإيقافات الأخيرة التي قادها كرئيس للسلطة التنفيذية وأوقعت برجال أعمال ومهربين وإطارات ديوانية وكسرت شوكة "أساطير" الفساد، والذي اعتقد لوهلة جزء كبير من الرأي العام، أنه لا يمكن الاقتراب منهم أو مواجهتهم لتغلغلهم في الدولة وسيطرتهم على مواقع القرار بما في ذلك مواقع القرار السياسي..، ولكن الحملة الأخيرة أثبتت أنه إذا ما توفّرت الإرادة السياسية، فانه لا أحد فوق القانون وفوق الدولة. وحملة الإيقافات التي انطلقت بتعليمات من رئيس الحكومة، والتي كان هدفها الإيقاع بأكبر "الحيتان" التي باتت اليوم مراجع وعناوين للفساد المالي ما تزال متواصلة ورغم تطابق المصادر حول 7 إيقافات لأكبر رؤوس الفساد، فان هناك أربعة أسماء أخرى –إلى حدّ كتابة هذه الأسطر- أفادت مصادر خاصّة أنه سيتم إلقاء القبض عليها بتهم خطيرة، أبرزها التآمر على أمن الدولة الداخلي والتهريب والإخلال بالصفو العام، وذلك في إطار ما وصفها البعض بالحرب المعلنة على الفساد دون هوادة، والتي يقودها رئيس الحكومة شخصيا. الإيقاع بكبار "النطّارة" لم تكن حملة الإيقافات الأخيرة عشوائية بل كانت حملة تستهدف أساسا "أباطرة " التهريب الذين ينشطون على المعابر الحدودية وكذلك من خلال الموانئ التجارية الكبرى وأساسا ميناء رادس ولذلك أوقعت هذه الحملة بقيادات ديوانية تورّطت في أعمال التهريب و"النطرة" وهو مصطلح "متعارف" يستعمل في الموانئ التجارية والمقصود به هو تبخّر حاويات بعينها من الميناء بعد وصولها دون إخضاعها للرقابة الديوانية، أو تغيير "صبغة" حاوية، كأن تدخل حاوية ميناء رادس محمّلة بالفستق وتغادره وهي محمّلة ب"الحمص" وفق السجّلات الرسمية للميناء.. وقد ذكرت دائرة المحاسبات حرفيا في تقريرها الأخير أن "مصالح الديوانة لا تتوفّر على بنك معطيات بخصوص المهربين ومختلف أعمال الغش التي يقومون بها". وكان ياسين الشنوفي الذي تم وضعه تحت الإقامة الجبرية بتعليمات من رئيس الحكومة، من أكبر ال"النطّارة" في الموانئ التجارية مثله مثل آخرين وكلهم كانوا قد استغلّوا مواقعهم في سلك الديوانة لتكوين شبكات تهريب تعمل لحسابها الخاصّ أو ب"المناولة" لحساب الغير، لقاء عمولات مجزية تختلف حسب الشحنات وحسب نوعية السلع المراد تهريبها. إمبراطوريات الحدود تنهار ليلة أوّل أمس،لم يدر بخلد علي القريوي أمير الحدود الجبلية الغربية أنه يمكن أن يسقط في قبضة الأمن..، هكذا وبكل بساطة ..ف"الشيخ" وهكذا يكنّى للتمويه، كان يعتقد أن ثروته التي تتضخّم يوما عن يوم لتبلغ أرقاما خيالية كفيلة بحمايته من القانون والدولة، فالرجل الذي بدأ حياته كمهرّب لصالح الغير لقاء بعض الدنانير استطاع في ظرف سنوات أن يصبح أمير المعابر الحدودية، وقد جرّب تهريب كل شيء،السجائر،الخمر،المخدّرات، المحروقات، كما أفادت مصادر خاصّة أنه هناك شبهات قوية تحوم حول تورطّه في تهريب أسلحة وعناصر إرهابية فارّة من العدالة، وحسب بعض المصادر الخاصّة فان ثروة علي القريوي تقدّر بالمليارات ورغم ذلك فانه يخشى إيداعها بالبنوك ولا يتعامل أبدا مع المصارف، بل يوظّف ذلك في شراء عقارات فلاحية وسكنية في القصرين وفي سوسة، كما يتداول أبناء حيّه قصّة مفادها أنه إبان أحداث الثورة حاول افتكاك سلاح أحد أعوان الأمن بعد إيقافه من طرف دورية أمنية على أحد المناطق الحدودية. ويوم أمس أيضا تم الإيقاع بالأخوين عادل وفتحي جنيّح اللذين ينشطان في تهريب النحاس وتعدّ شركة "الستاغ" أحد أبرز ضحايا الأخوين الجنيّح حيث تفيد تحريات أمنية أنهما كانا يديران شبكة لسرقة النحاس من "كوابل" الشركة التي تكبّدت جرّاء ذلك خسائر قدّرت بالمليارات. ضرب "إمبراطوريات التهريب" على الحدود الصحراوية والجبلية، بدأ في جويلية 2015 بعد محاولة القبض على حسين معيز، قبل انتحاره بمسدسه، ويعدّ معيز أحد أكبر المهرّبين المتخصصين في تهريب السلاح. وخلال حملة الاعتقالات الأخيرة تم إلقاء القبض على أحد أفراد عائلة "وشواشة" المعروفة بضلوعها في التهريب وهو الشقيق الأصغر، واختصت هذه العائلة التي يسمّى أبناؤها ب"ملوك الصحراء" نظرا لقدرتهم العجيبة في إيجاد مسالك صحراوية آمنة وبعيدا عن أعين الأمن، وتختصّ العائلة في تهريب الأسلحة والشماريخ "الفوشيك" وقطع الغيار ومخدّر الزطلة والأقراص المخدّرة من ليبيا خاصّة، وقد استطاعت عائلة "وشواشة" في السنوات القليلة التي تلت الثورة أن تؤسس الإمبراطورية الأكثر ثراء وغنى وهي إمبراطورية "الوشواشة للتهريب"! مستغلّة الفراغات الأمنية وكذلك شبكة هامّة من العلاقات مع القبائل الليبية الحدودية، ومن أخطر العمليات التي تورّطت فيها عائلة "وشواشة" هي شراء مواد غذائية منتهية الصلوحية بالتواطؤ مع مصانع تونسية، واعادة تعليبها وبيعها في السوق التونسية، حسب بعض المعطيات التي حصلنا عليها من مصادر خاصّة. التهريب طريق إلى الثروة في تقرير مسند لمؤسّسة "ويلث اكس" المختصّة في تعقّب الأثرياء عبر دول العالم والبحث في مصادر ثرواتهم،في أواخر 2014، أشار إلى أنّ 25 مهرّبا يتصدّرون قائمة أثرياء تونس كما أنّ تونس تحتلّ المركز الأوّل في المغرب العربي في قائمة أصحاب الثروات التي تتجاوز قيمتها 58 مليون دينار، وبالنظر إلى مجريات الأمور في تونس فان التقرير لم يجانب الصواب. وإذا كانت أنشطة التهريب معلومة وتشمل كل السلع وكل القطاعات فان مصير الأموال الهائلة المتأتية من التهريب تبقى "مجهولة" خاصّة وأن أغلب المهربين لا يضعون أموالهم في البنوك ولكن عوض ذلك يستثمرونها في عمليات تبييض أموال من خلال شراء العقارات، فبائع العقار يبحث على المال لا على مصدره ومقتني العقار يملك سيولة كافية للشراء وبأثمان مرتفعة وخيالية وهو ما يفسّر الارتفاع الكبير في أسعار العقارات والذهب في السنوات الأخيرة بفعل المضاربة بالأموال المشبوهة. منية العرفاوي جريدة الصباح بتاريخ 26 ماي 2017