فتح خط جوي مباشر بين تونس و دوالا الكاميرونية    استشهاد خمسة فلسطينيين في قصف لطيران الاحتلال لمناطق وسط وجنوب غزة..#خبر_عاجل    أبطال إفريقيا: الأهلي المصري يقصي مازمبي الكونغولي .. ويتأهل إلى النهائي القاري    حالة الطقس لهذه الليلة..    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    طبيبة تونسية تفوز بجائزة أفضل بحث علمي في مسابقة أكاديمية الشّرق الأوسط للأطبّاء الشّبان    التعادل يحسم مواجهة المنتخب الوطني ونظيره الليبي    بعد دعوته الى تحويل جربة لهونغ كونغ.. مواطن يرفع قضية بالصافي سعيد    عاجل/ ايقاف مباراة الترجي وصانداونز    تسجيل مقدّمة ابن خلدون على لائحة 'ذاكرة العالم' لدى اليونسكو: آخر الاستعدادات    بنزرت: ضبط كافة الاستعدادات لإنطلاق اشغال إنجاز الجزء الثاني لجسر بنزرت الجديد مع بداية الصائفة    مدير عام وكالة النهوض بالبحث العلمي: الزراعات المائية حلّ لمجابهة التغيرات المناخية    توزر: المخيم الوطني التدريبي للشباب المبادر في مجال الاقتصاد الأخضر مناسبة لمزيد التثقيف حول أهمية المجال في سوق الشغل    بطولة الرابطة 1 (مرحلة التتويج): حكام الجولة الخامسة    البطولة الافريقية للجيدو - ميدالية فضية لعلاء الدين شلبي في وزن -73 كلغ    الرئيس المدير العام لمركز النهوض بالصادرات: واقع المبادلات التجارية بين تونس وكندا لا يزال ضعيفا وجاري العمل على تسهيل النفاذ إلى هذه السوق    أكثر من 20 ألف طالب تونسي يتابعون دراساتهم في الخارج    سيدي بوزيد: ورشة تكوينية لفائدة المكلفين بالطاقة في عدد من الإدارات والمنشآت العمومية    منظمات وجمعيات: مضمون الكتيب الذي وقع سحبه من معرض تونس الدولي للكتاب ازدراء لقانون البلاد وضرب لقيم المجتمع    الجزائر تسجل حضورها ب 25 دار نشر وأكثر من 600 عنوان في معرض تونس الدولي للكتاب    المؤرخ الهادي التيمومي في ندوة بمعرض تونس الدولي للكتاب : هناك من يعطي دروسا في التاريخ وهو لم يدرسه مطلقا    وقفة احتجاجية لعدد من أصحاب "تاكسي موتور" للمطالبة بوضع قانون ينظم المهنة ويساعد على القيام بمهامهم دون التعرض الى خطايا مالية    القضاء التركي يصدر حكمه في حق منفّذة تفجير اسطنبول عام 2022    افتتاح المداولات 31 لطب الأسنان تحت شعار طب الأسنان المتقدم من البحث إلى التطبيق    وزارة التجارة تقرّر التخفيض في أسعار فيتورة الصوجا المنتجة محليا    تضم فتيات قاصرات: تفكيك شبكة دعارة تنشط بتونس الكبرى    منوبة: الاحتفاظ بصاحب مستودع عشوائي من أجل الاحتكار والمضاربة    أحدهم حالته خطيرة: 7 جرحى في حادث مرور بالكاف    يلاحق زوجته داخل محل حلاقة ويشوه وجهها    عاجل/ إصابة وزير الاحتلال بن غفير بجروح بعد انقلاب سيارته    القلعة الصغرى : الإحتفاظ بمروج مخدرات    رقم قياسي جديد ينتظر الترجي في صورة الفوز على صن داونز    معتز العزايزة ضمن قائمة '' 100 شخصية الأكثر تأثيراً لعام 2024''    نابل: الاحتفاظ بعنصر تكفيري مفتش عنه    تراجع إنتاج التبغ بنسبة 90 بالمائة    هام/ ترسيم هؤولاء الأعوان الوقتيين بهذه الولايات..    تقلص العجز التجاري الشهري    الشابّة: يُفارق الحياة وهو يحفر قبرا    13 قتيلا و354 مصابا في حوادث مختلفة خلال ال24 ساعة الماضية    السعودية على أبواب أول مشاركة في ملكة جمال الكون    فريق عربي يحصد جائزة دولية للأمن السيبراني    أخصائي في أمراض الشيخوخة: النساء أكثر عُرضة للإصابة بالزهايمر    وزارة المرأة : 1780 إطارا استفادوا من الدّورات التّكوينيّة في الاسعافات الأولية    تُحذير من خطورة تفشي هذا المرض في تونس..    دورة مدريد : أنس جابر تنتصر على السلوفاكية أنا كارولينا شميدلوفا    هرقلة: الحرس البحري يقدم النجدة والمساعدة لمركب صيد بحري على متنه 11 شخصا    أمين قارة: إنتظروني في هذا الموعد...سأكشف كلّ شيء    عاجل : القبض على منحرف خطير محل 8 مناشير تفتيش في أريانة    وصفه العلماء بالثوري : أول اختبار لدواء يقاوم عدة أنواع من السرطان    "تيك توك" تفضل الإغلاق في أميركا إذا فشلت الخيارات القانونية    الرابطة الأولى.. تعيينات حكام مباريات الجولة الأولى إياب لمرحلة "بلاي آوت"    تنزانيا.. مقتل 155 شخصا في فيضانات ناتجة عن ظاهرة "إل نينيو"    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    إثر الضجة التي أثارها توزيع كتيّب «سين وجيم الجنسانية» .. المنظمات الدولية همّها المثلية الجنسية لا القضايا الإنسانية    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    تتويج السينما التونسية في 3 مناسبات في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تزامنا مع الذكرى 13 لوفاة بورقيبة : المنجي الكعلي يصدر كتابا يصف فيه الزعيم بالمجاهد الأكبر
نشر في الصباح نيوز يوم 03 - 04 - 2013

تزامنا مع إحياء الذكرى 13 لوفاة الرئيس الحبيب بورقيبة، اصدر المنجي الكعلي، الوزير الأسبق، كتابا بعنوان "في خدمة الوطن".
وتناول الكعلي في كتابه جوانب مهمة من مسيرته الشخصية وعمله إلى جانب الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، وفي اتصال هاتفي مع "الصباح نيوز" أكّد الكعلي أنّ صفة المجاهد الأكبر والتي خصص لها جزء كاملا في كتابه لا يمكن أن تكون لشخص آخر غيره وقد تقلد الكعلي في عهد بورقيبة عدة مناصب من بينها وزارة الصحة العمومية كما تولى منصب مدير الحزب الإشتراكي الدستوري من1980 إلى غاية 1984. وقد بقي يحمل صفة الممثل الشخصي للزعيم بورقيبة إلى سنة 1986بالتوازي مع احتفاظه بصفته كعضو في الحكومة.
وفي ما يلي مقتطفات من هذا الكتاب :




الباب السادس
المجاهد الأكبر
المجاهد الأكبر

كلنا يعلم أنّه غداة الاستقلال، كان أكثر ما يصبو إليه المجاهد الأكبر هو رئاسة المجلس التأسيسي. ولم يقبل رئاسة الحكومة، في أفريل 1956، إلا بإلحاح كبير من طرف المسؤولين في الديوان السياسي، وعلى رأسهم السيد الباهي الأدغم. فقد توجهوا إليه جميعا طالبين منه تحمل هذه المسؤولية، إيمانا منهم بأنّه الوحيد القادر على تجسيم الاستقلال، الذي ما زال في ذلك الوقت حبرا على ورق. لقد كان فعلا الوحيد الكفيل لمباشرة عملية بناء وتشييد الدولة التونسية، وتقرير مصيرها وإدارة شؤونها وإنقاذها من الفوضى التي تتهدّدها بسبب المحنة اليوسفية.
وكان بورقيبة عند تحمله هذه المسؤولية مقرّا العزم على تشريك جميع التونسيين دون استثناء في هذا المشروع. وقد ذكر لي ذلك خلال إحدى زياراته لعين دراهم عندما كنت واليا بجندوبة، وكان ذلك إثر حديثه عن أحداث 9 أفريل 1938 والشهادات التي أدلى بها اليعض من رفاقه أمام حاكم التحقيق "قيرين دي كايلا" ضدّه والتي كادت أن تؤدي إلى القضاء عليه، موضحا: "رغم كلّ هذا، سامحتهم، وعينت البعض منهم وزراء ومسؤولين سامين في الدولة، لأنني لم أرد إنشاء دولة دستورية أو دولة بورقيبية، بل أردت لأوّل مرّة في التاريخ إنشاء دولة تونسية لكلّ التونسيين."
« Je n'ai pas voulu créer un Etat bourguibien, je n'ai pas voulu non plus créer un Etat destourien, j'ai voulu créer pour la première fois dans l'histoire un Etat tunisien qui appartient à tous les Tunisiens. »
وخلافا لما يدعي البعض، إنّ بورقيبة لم يقص اليوسفيين بصفة قطعية. فقد سمح للبعض منهم، مثل الطاهر عميرة وغيره، تحمّل مسؤوليات في الدولة بعد أن قضوا فترة سجنهم. وأنا شخصيا لم أتلق أبدا من الرئيس بورقيبة تعليمات لإبعاد اليوسفيين من كلّ المسؤوليات في صلب الحزب أو أن أرفض لهم أيّ مساعدة مادية. فخلال مسؤولياتي في إدارة الحزب، لم يكن هنالك فعلا فرق بين اليوسفيين والبورقيبيين. كانت أبواب الحزب مفتوحة أمام كلّ المناضلين.
وخلافا لما يعتقد البعض، لم يكن التوجه العام في تفكير بورقيبة السيطرة على كلّ شيء. ولكن الظروف هي التي جعلته يهيمن على كلّ الميادين وعلى الجميع، بحكم قوّة شخصيته، وشرعيته التاريخية، وآرائه السديدة وإخلاصه وتفانيه في العمل. وإحقاقا للحقّ، فقد ساعده الحظّ على ذلك.
وممّا لا شك فيه، أنّ الاستقلال كان ثمرة سنين عديدة من الكفاح وبمشاركة كلّ التيارات وكلّ التوجهات والقوى السياسية، كلّ حسب إمكانياته وحسب طريقته في العمل وبقسط لا بأس به. ولكن القسط الأوفر كان لبورقيبة، لأنّه جعل من الشعب "القوة الضاربة ضدّ الاستعمار".

الخطة البورقيبية التي أصابت الكيان الاستعماري في الصميم
كان الحبيب بورقيبة منذ شبابه الباكر رجل عمل وجد وعزم وحزم وصدق واخلاص، وكان كذلك فكرا ثاقبا ميزه الله سبحانه وتعالى بقدرة فائقة على استقراء التاريخ وتاريخ تونس بوجه خاص الذي درسه من القديم من عهد يوغرطا إلى فترة محمد علي الحامي. والرئيس لا يدرس التاريخ للاطلاع فحسب او للتسلية بل يدرسه ليستخلص منه العبر ويستنتج الدروس ويتخذ منه مادة للتفكير والتحليل اللذين يستهدفان كل الأحداث التي مرت على الشعب التونسي. ومن جملة ما اكتشفه وهو يدرس الحركات الوطنية السابقة اكتشف امرا هاما جدا وهو أن الخطر كل الخطر بالنسبة إلى الاستعمار يكمن في التقاء قطبين: الفكر السياسي المسير والجماهير الشعبية. فلقد لاحظ الرئيس أن الاستعمار يجن جنونه كلما التقى الفكر السياسي بالشعب وهذا ما وقع فعلا في الأحداث التي مرت في التاريخ التونسي وخصوصا منه، ما مرّ على علي باش حانبة، فكلما اتصل علي باش حانبة صدفة بالشعب سواء بالطلبة في جامع الزيتونة عند قيامهم بإضراب او عند احتفالهم بمناسبة حصولهم على بعض اصلاحات حيث اجتمع بهم وحملوه على اعناقهم أو على وجه الخصوص بالشعب في واقعة الترامواي إلا وقامت قيامة السلط الاستعمارية.
ولذلك السبب عمدت إلى نفي علي باش حانبة وجماعته من الوطنيين، إيمانا منها بأنّ اتصالهم بالشعب إنما يمثل خطرا على الكيان الاستعماري.
اكتشف الرئيس إذن تلك الحقيقة، وكان يعتقد مسبقا أنّ كلّ اتصال مهما كان نوعه يقع بين الشعب والقائد يعقبه حتما سيف الاضطهاد الذي يسلط على صاحب الاتصال باعتبار أنّ كلّ اتصال من ذلك القبيل هو شبيه باتصال النار بالتبن، وإذا بالحريق تضطرم نيرانه وتهدّد النظام الاستعماري، فيظهر التشويش ويشتدّ الهيجان ويتأذى الاستعمار، فيصبّ وابلا من القمع والاضطهاد على الشعب وخاصة على من قام بذلك الاتصال وكان سببا فيه. وكان بورقيبة يعلم ذلك علم اليقين ويعرف جيّدا أنّ الاتصال بالشعب مجلبة للعذاب والمحن. غير أنّه رغم ما كان ينتظره من تنكيل واضطهاد، أقدم على ذلك العمل وكلّه اقتناع وإيمان لأنّه ما كان ليخشى الموت، وأنتم تعلمون أنّ بورقيبة لم يرهب الموت قط، ولم يكترث به لأنّه منذ صغر سنّه نذر حياته إلى تونس وإلى شعبها، فاتخذ، وهو في شبابه الباكر وما يزال طالبا، شعارا له في الحياة، المقولة المشهورة : "عش لغيرك". لقد قال لنا الرئيس في عدّة مناسبات أنّه عندما كان طالبا في باريس، كان يمرّ أمام كلية الآداب "الصربون" بتلك الساحة الصغيرة الموجودة هناك والتي يعرفها بدون شك كلّ الذين عاشوا في باريس، حيث أقيم تمثال للفيلسوف الفرنسي الكبير أغوست كونت، كُتب أسفله : "عش لغيرك". فكان الرئيس عندما يمرّ بتلك الساحة ويقرأ تلك العبارة تنفذ إلى قلبه معانيها وتختمر في فكره أبعادها، فاتخذ لنفسه منها مبدأ وشعارا كان متمسكا بهما ولم يحيد عنهما. ذلك لأنّه آمن بما جاء في الحديث النبوي الشريف الذي يقول: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه".
ذلك هو جوهر نكران الذات الذي آمن به بورقيبة وجسّمه خير تجسيم في كفاحه الطويل ضاربا بذلك أروع مثال في مجال التحلي بالقيم الأخلاقية السامية التي يدعو إليها ديننا الحنيف، وتلك الروح العالية هي التي جعلت الرئيس يدعونا في كلّ المناسبات ومنذ تأسيس الحزب إلى أن نكون مناضلين مخلصين، قائلا لنا : "لا يكون أحدكم مناضلا مخلصا ولا متحزبا صحيحا إلا إذا أراد لأخيه المناضل ورفيقه المتحزب ما يريده لنفسه". وكثرا ما يردّد على مسامعنا قوله أيضا : "لا يكون أحدكم تونسيا حقيقيا مخلصا لبلاده إلا إذا أراد لغيره من التونسيين ما يريده لنفسه".
سياسة عمادها الأخلاق
على هذه الأساس انبنت السياسة التي أتى بها بورقيبة عندما أسس الحزب، وهي سياسة عمادها الأخلاق، تنبذ نبذا قاطعا كلّ ما هو خداع ونفاق. وكثيرون هم أولائك الذين يتوهمون أنّ السياسة تحيل و"تكنبين" ومنافقة، وتكتل. أمّا نحن، فنتمسك بما أوصانا به الإسلام من أنّ الحيلة في ترك الحيل، وهي الطريقة التي اتخذها بورقيبة، والسياسة التي رسمها لنا ، فآمنّا بها ونحن دائما بها متمسكون وإليها داعون. ولا نجاري البتة أولائك الذين يدعون في السياسة فلسفة ويتوهمون أنهم من العباقرة حينما يحيدون عن تلك الأخلاق الإسلامية الداعية إلى أن يحب الواحد منّا لغيره ما يحب لنفسه.
إن السياسة بالنسبة إلينا ليست من هذا القبيل، إنما هي كما علمنا إياها بورقيبة وبثها في قلوبنا، أخلاق قبل كل شيء، فالدستوري المناضل الصحيح يتصف، أول ما يتصف به، بنكران الذات وإن يعمل لصالح غيره لا لصالح نفسه. وحتى إذا ما كان من حقه أن ينال شيئا فإن تحمله لمسؤولية حزبية يفرض عليه أن يتنازل عن حقه في ذلك الشيء. فالمناضل الدستوري هو الذي ضحى في سبيل الشعب بدون أي مقابل وبقي نظيف اليد، طيب القلب.
طريقة الاتصال بالشعب هي الأساس...
اكتشف بورقيبة كما قلت أن الاتصال بين الفكر والسياسة والجماهير الشعبية هو أساس الكفاح رغم ما في ذلك الاتصال من مخاطر إلا أنه اصطدم بمشكل آخر يتمثل في اختيار وسيلة للاتصال بالشعب فكيف سيكون اتصاله بالبشر؟
سبق أن قلت أن بورقيبة رجل عمل وحزم وصدق وإخلاص ولم يكن غرضه التمويه او النفاق أو القيام بأعمال لا معنى لها ولا تأثير أو أشياء لا طائل من ورائها. همه الصادق أن يجد طريقة عملية تمكنه من السعي المثمر خصوصا وأن أجهزة الاتصال بالشعب كانت في ذلك الوقت مفقودة ولم يجد منها في بادئ الأمر سوى الصحافة فبدأ كغيره من الوطنيين الشبان في ذلك الوقت يكتب مقالات ينشرها على الصحف فكتب بجريدة "اللواء التونسي" وجريدة "صوت التونسي" ثم تطور كفاحه الصحافي شيئا فشيئا وتصعدت لهجته وتمكن بورقيبة بعد مدة قصيرة من تكوين جريدة مع نفر من رفاقه هي جريدة "لاكسيون تونيزيان" والجدير بالملاحظة أن هذه الجريدة كانت تختلف عن غيرها من الصحف فلهجتها مغايرة للهجة الجرائد الأخرى. وكانت اللهجة المميزة لها هي لهجة بورقيبة، تلك اللهجة الخاصة الجديدة التي تتمثل طرافتها أساسا في أن الخطاب كان فيها موجها إلى الشعب وجماهيره لتبصيرها بما كانت تعيش فيه من ذل وهوان وجهل وفقر. وكانت الكتابات كذلك تشهيرا متواصلا بظلم المستعمر وجرائمه وفضحا لا ينقطع لمناوراته ومؤامراته. كما ان الهدف الذي كان بورقيبة يرمي إليه من وراء تلك الكتابات غير الهدف الذي يرمي إليه غيره من الوطنيين أو من الصحافيين. فهدف الجماعة كان يحوم حول المطالبة بالرجوع إلى دستور كان الباي في وقت من الأوقات وفي القرن الماضي قد منح الشعب التونسي إياه، أما بورقيبة فكان يعتقد ان الدستور ليس هبة من الباي وأنه لا يمكن أن يحققه إلا الشعب فالطريق الحقيقية إلى الدستور هو الشعب لا الباي، وهذا ما قام الدليل عليه عندما انتصر الشعب وحقق دستوره بعد الاستقلال.
لم يكن ذلك إذن الهدف الأصلي الذي كان بورقيبة يسعى إليه من وراء كفاحه الصحفي. كان همه كما اكد ذلك في العديد من المناسبات أن يفتك الشعب سيادته وسيسترجعها من أيدي الاستعمار الفرنسي.
ذلك هو الهدف الجوهري الذي كان يرمي إليه الحبيب بورقيبة وهو استرجاع سيادة أمة بأسرها وإقرار سلطة شعب بأكمله.
وبدأ كفاحه تحقيقا لتلك الغاية كما قلت بواسطة الصحافة، ومهما يكن من أمر فإن ذلك الكفاح الصحفي لم يكن سلبيا تماما لأنه أتى على كل حال ببعض النتائج الطيبة وأكسب المجاهد الأكبر شعبية لا بأس بها فالناس صاروا يعرفون بورقيبة بل وصاروا يترقبون مقالاته بفارغ الصبر. ولقد ذكر لنا إخواننا الذين يكبروننا سنا وسبقونا إلى الكفاح أنهم، عندما كانوا شبابا في سنوات 1933 و1934 كانوا يتطلعون في شوق شديد إلى الجريدة التي كانوا يقبلون عليها في شغف كبير رغم صدورها باللغة الفرنسية. فكانوا يجتمعون ومن كان يحسن الفرنسية منهم يترجم مقالاتها للآخرين وكانت الجريدة تصل إلى القرى فيلتف القوم حولها جماعات، جماعات.
ومن ثمرات الاتصال بالجماهير عن طريق الصحافة ، دخول الحبيب بورقيبة وجماعته بالإجماع في اللجنة التنفيذية في مؤتمر نهج الجبل الذي عقده الحزب القديم. والجدير بالملاحظة أن ذلك المؤتمر نفسه ما كان لينعقد عام 1933 لولا تأثير المجاهد الأكبر في جانب كبير من الشعب. ذلك لأن الحزب القديم لم يكن من عادته أن يعقد المؤتمرات بل وكان لا يعترف بها ولا يقيم لها وزنا. فجموع الشعب التي تأثرت بكتابات الرئيس هي التي طالبت بانعقاد المؤتمر. وعندما انعقد المؤتمر اقترح المؤتمرون دخول بورقيبة وجماعته إلى اللجنة التنفيذية، فقبل الاقتراح بالإجماع وأصبح بورقيبة وجماعته أعضاء في اللجنة التنفيذية.
إلا أن الثمرة الكبيرة التي أتى بها ذلك الكفاح الذي يعتمد لا محالة الاتصال بالشعب غير أنه اتصال غير مباشر لأنه كان يقع بواسطة الصحافة نظرا إلى أن الطريقة البورقيبية كانت في ذلك الوقت لم تستكمل بعد جميع أركانها تمثلت أساسا في أن الشعب التونسي أصبح يتظاهر ويحدث التشويش وينزل إلى الشوارع ويصطدم مع القوات الاستعمارية ولقد تجلت تلك الثمرة وتبلورت واتضحت معالمها بارزة للعيان في واقعة التجنيس سنة 1933.
وكان التجنيس في الواقع موجودا منذ سنة 1920 بمقتضى قانون كان يمكن التونسي من الانسلاخ عن جنسيته التونسية واعتناق الجنسية الفرنسية. وبداية من ذلك التاريخ وإلى سنة 1933 جعل الكثيرون من التونسيين يدخلون في الجنسية الفرنسية ويدفن الأموات منهم في مقابر المسلمين دون أن يمانع في ذلك ممانع ودون أن يتفطن لخطر ذلك أحد أو تحدثه نفسه بخلق مشكل يضايق الاستعمار من أجل ذلك إلى أن أتى عام 1933 ووقعت حوادث التجنيس. ويرجع السبب في وقوعها إلى عاملين أولهما أن السلط الفرنسية لم يعد يكفيها ألا يتجنس بالجنسية الفرنسية إلا التونسيون الذين لم تكن في حاجة إليهم لأن حملة التجنيس لم تلاق صدى يذكر في الطبقة المثقفة وفي فئة الأعيان على وجه الخصوص لأن الناس كانوا يعتقدون أن اعتناق الجنسية الفرنسية يخرجهم عن حظيرة الإسلام فاجتنبوا ذلك محافظة منهم على عقيدتهم فأرادت السلط الاستعمارية سنة 1933 أن تطمئن الناس على دينهم لأنه لم يعد كافيا في نظرها أن يتعزز جانب الجالية الفرنسية الموجودة آنذاك في البلاد بتجنس بعض الأجانب بالجنسية الفرنسية. وكانت قد أوجدت لذلك الغرض قوانين تجبر الكثيرين من الأجانب على اعتناق الجنسية الفرنسية مما انجر عنه وجود جالية غفيرة من المتجنسين من اليهود أو الإيطاليين أو المالطيين أو الروسيين البيض وغيرهم من الفئات الأجنبية كل ذلك لم يكن كافيا في نظر الاستعمار وكان في رأيه من الضروري أن يدخل التونسيون أفواجا في الجنسية الفرنسية كي يرتفع عدد الفرنسيين في البلاد، وبذلك يتمّ لها القضاء على الذاتية التونسية ومسخ شخصيتها ومحق مقومات الشعب التونسي بصفة عامة.
كان إذن من الضروري أن تسهل السلط عملية التجنس بالجنسية الفرنسية على التونسيين، ولا سبيل إلى ذلك إلا بطمأنتهم على عقيدتهم فالتجأت إلى رجال الدين تستصدر منهم فتوى تبيح ذلك.
صدرت الفتوى واطمأن الناس وظنوا أنّ عقيدتهم لا ينال التجنس منها. غير أنّ بورقية كان بالمرصاد واستغل هذه الفرصة سياسيّا بمناوشة الاستعمار والضغط عليه، وكان ذلك السبب الأساسي في اضطرار فرنسا إلى تغيير موقفها، فاتخذ المقيم العام تحت تأثير ما وقع من تشويش وشغب قرارا، يتمثل في إحداث مقابر خاصة للمتجنسين داخل المقابر الإسلامية.

... ومعركة التجنيس كانت أوّل انتصار سجلته تلك الطريقة
وكالعادة لم يتفطن أحد لأهمية القرار إلا بورقيبة، ولم يكن ذلك المرّة الأولى والأخيرة التي ينفرد فيها بورقيبة بالاهتداء إلى أهمية القرارات، فأدرك في تلك المرّة أيضا أنّ فرنسا اضطرت لأوّل مرّة في تاريخ استعمارها لتونس إلى التراجع وتغيير موقفها لأنها وجدت أمامها قوّة ضاربة، هي قوّة الشعب المتظاهر، النازل إلى الشوارع، ويعتبر الرئيس هذا التراجع أوّل انتصار حققته الحركة الوطنية، كما يعتبره أوّل امتحان اجتازته بنجاح طريقته في الكفاح، تلك الطريقة التي لم تستوف بعد جميع عناصرها والتي تعتمد الاتصال بالشعب عن طريق الصحافة.
وتبلورت طريقة الاتصال المباشر بالجماهير ليلة 3 جانفي 1934
قلت إنّ الخطر على الاستعمار يكمن في اتصال الشعب بالقائد خصوصا عندما يجد الشعب قائدا مثل بورقيبة، مستعدّا للتضحية بالغالي والنفيس في سبيل إنقاذ وطنه. وأمام هذا الخطر الذي شعرت به فرنسا بعد حوادث التجنيس، عمدت إلى نزع آلة العمل من يد بورقيبة، فعطلت جريدته، ثمّ وقع رفته من اللجنة التنفيذية. وسرعان ما جاء يوم 3 جانفي 1934 الذي قال فيه الرئيس في العديد من المرّات إنه كان حدثا فاصلا في تاريخ الحركة الوطنية، والذي شهد اجتماعين اثنين، أوّلهما وقع عشية وأدرك الرئيس بواسطته أنّ العمل الصحفي لا يكفي ولا يمكن أن يكون طريقة موصلة، كما أنّ المقالات المكتوبة وحدها لا تفي بالحاجة ولا تضمن بمفردها خلق شعب جديد وغرس تفكير جديد في العقول. فشعر الرئيس بأنّ الطريقة التي كان ينتهجها منذ مدّة كانت غير كافية لخلق الوعي والحماس والتضحية والثبات والإيمان في صفوف الشعب التونسي.
ودقت ساعة الإفطار ولم يقدّم أهالي قصر هلال إلى المجاهد الأكبر ولو شربة ماء ولم يقوموا بدعوته إلى تناول الطعام معهم عند آذان المَغرب، طالبين منه الرجوع إليهم بعد الإفطار. وعندما وقف على ذلك التحجّر الكبير المسيطر على العقول، عاد أدراجه إلى المنستير متضايقا، حائرا. ولو تناول شربة الماء لاطمأنّ وواصل سيره إلى المهدية. ولمّا اكتشف الطريقة التي بفضلها كوّن هذا الشعب ولمّا اهتدى إلى الخطة التي بفضلها وصلنا إلى النصر وحققنا الاستقلال. وهذا ما أكده لي شخصيا المجاهد الأكبر في مناسبات عديدة.
تلك هي مزية شربة الماء التي لم تقدّم إليه. وعندما لم يتناولها رجع أدراجه ليعود في نفس الليلة إلى قصر هلال لعقد الاجتماع الثاني الذي بقي فيه ساعات طويلة يتناقش كام يقول الرئيس بنفسه: "مناقشة مركزة مع أناس اذكياء دامت ثلاث ساعات" انتهت بحملة على الأعناق. فهذا الحدث فتح أبوابا وآفاقا جديدة أمام بورقيبة، إذ اكتشف أنّ له موهبة في الخطابة وقدرة كبيرة على اقناع الشعب، وما كان قبل تلك اللية يعتقد أنّ الله سبحانه وتعالى منّ عليه بتلك الموهبة وميّزه بتلك القدرة على التأثير الكبير في نفوس الجماهير. كما اكتشف أيضا قيمة الاتصال المباشر بالشعب.
وهكذا وبفضل هذا الاكتشاف الجليل استكمل الرئيس أركان طريقته في العمل وظفر، كما يقول، بضالته المنشودة وأمسك ب"رأس الفتلة" وفي ذلك شاهد على أنّ بورقيبة، كما قلت في بداية الحديث، اكتشف طريقته في خضمّ العمل، شأنه في ذلك شأن العلماء الذين كثيرا ما تسوقهم الصدفة إلى الاكتشافات الجليلة.
وتاريخ الاكتشافات حافل بالأمثلة التي هي من ذلك القبيل. فالمعروف مثلا أنّ ارخميدس اكتشف المبدأ الذي لا يزال إلى اليوم يحمل اسمه صدفة بينما كان يستحمّ في بيته. لقد شعر وهو في غرفة الاستحمام بأنّ الماء يرفعه إلى فوق بمفعول ضغط ينطلق من الأسفل إلى الأعلى، فخرج من الماء صارخا يقول : "وجدت وجدت". فليس من الغريب إذن أن تكون الاكتشافات العظيمة التي تغيّر مجرى العالم وليدة الصدفة. كما أنّه ليس من الغريب أن يكون بورقيبة قد اهتدى إلى طريقة جديدة في الكفاح عرضا وبمحض الصدفة.
لقد كانت طريقة الاتصال المباشر بالشعب فعلا اختراعا بأتمّ معنى الكلمة لأنها لم تكن معروفة من قبل. فالسياسة كانت إلى ذلك اليوم تُمارس بعيدا عن الشعب. وتلك الظاهرة هي التي جعلت بورقيبة يختلف عن الحزب القديم، بدليل أنّ الشيخ الثعالبي رحمه الله قال عندما دعاه قيران دي كايلا شاهدا على بورقيبة وسأله عن الفرق بين الحزب القديم والحزب الجديد : "الحزبان يرغبان في الاستقلال وهما يسعيان إلى نفس الهدف، لكن نحن نريد أن نجعل الشعب بعيدا عن السياسة ولا نرغب تشريكه فيها لما ينجرّ عن ذلك من تشويش وقلاقل. أمّا بورقيبة فهمّه أن يعتمد على الشعب ويشركه في العمل السياسي."
الفرق حينئذ هو أنّ بورقيبة كان يريد أن يعطي الشعب حقه. وعندما اكتشف الرئيس في أعقاب الاجتماع الثاني يوم 3 جانفي 1934 في قصر هلال ضالته المنشودة، زهد في الاتصال بالشعب عن طريق الصحافة. وتوخى طريقة العمل الناجع المتمثل في الاتصال بالشعب مباشرة وأصبح ذلك الاتصال قاعدة أساسية بالنسبة إلى العمل البورقيبي والخطة البورقيبية. وحرص بورقيبة على أن يكون الاتصال بالشعب في كلّ مكان وفي أي زمان، وبقي يتجوّل من 3 جانفي 1934 إلى 3 سبتمبر 1934.
فالملاحظ إذن أنّ الجولات بدأت منذ 3 جانفي 1934 لا بعد مؤتمر قصر هلال. إذ فكرة عقد المؤتمر ذاتها ظهرت، أوّل ما ظهرت، عندما كان بورقيبة يتجوّل. لقد ظهرت فيما أعتقد عرضا بينما كان بمنزل تميم مجتمعا بالقوم، فإذا بأحدهم وهو المرحوم البشير بن فضل، ذكره الله بالخير، يقول : "لماذا لا نجمع مؤتمرا خارقا للعادة ندعو إليه تلك الجماعة (يعني بها جماعة الحزب القديم) فنستجلي أمرها ونناقشها ونقارعها بالحجة ؟" غير أن الجماعة في النهاية لم تلب الدعوة، فوقع رفتها وتم حل اللجنة التنفيذية وتكون الديوان السياسي.
فلم يكن انعقاد المؤتمر يوم 2 مارس 1934 بقصر هلال سوى حلقة سبقتها في الحقيقة حلقة أخرى هي جولات الرئيس بداية من 3 جانفي كما قلت، فكان ينتقل من مدينة إلى مدينة ومن قرية إلى قرية، ومن بادية إلى بادية مستعملا خلافه مع الحزب القديم غطاء واقيا وموصيا الناس باستعماله لتضليل السلط الاستعمارية خصوصا وأن المقيم العام كان يطرب لذلك ويقول في نفسه أن الوطنيين التونسيين يتناحرون فيما بينهم فلنتركهم في شقاقهم. وبتلك الصورة تمكن بورقيبة من أن يظفر بثمانية أشهر قضاها في العمل الدائم.
ولو كان المقيم العام منذ البداية على بينة من حقيقة الأمر لما مكنه من العمل ساعة واحدة، فالرجل كان يتوهم أن تلك الجولات لم تكن في الحقيقة سوى خصومة بين القدماء والجدد وصراع بين "الغرانطة" وجماعة بورقيبة ولقد أوصى المجاهد الأكبر جماعته ببدء اجتماعاتهم دائما بنقد "الغرانطة" على أن يصلوا في النهاية إلى "الصحيح" و"الصحيح" هو تبصير الشعب وتوعيته وبث الإيمان والثقة في قلوب التونسيين الذين كانوا يائسين قانطين لا يؤمنون بأن الاستقلال يمكن تحقيقه. "الكف" في نظرهم لا يمكن أن تقاوم "اللشفة" ولا خير بالنسبة إليهم وإلى الكبار منهم على وجه الخصوص في "الشجاعة التي تؤدي إلى الذل".
إيمان راسخ بنجاعة الطريقة وإصرار فولاذي على استعمالها
والرجل الوحيد الذي كان يؤمن بقدرته على تغيير ما كان مستوليا على الشعب التونسي من يأس وقنوط هو الرئيس بورقيبة. فبورقيبة وحده خصوصا بعد 3 جانفي 1934، كان يؤمن بأن طريقته الجديدة القائمة على أساس الاتصال المباشر بالشعب ستمكنه من القضاء على الاستعمار. وكان يثق بأنه سيقضي على الاستعمار، لكنه لم يكن يعرف متى ولم يكن بالمرة يعتقد أنه سيعيش إلى اليوم الذي سيتم فيه القضاء على الحكم الأجنبي غير أنه كان متيقنا أن طريقته هي الموصلة. ويكفيه أن يكون أول من بدأ العمل بها وركزها على أسس متينة فلا يضطر من قد يأتي بعده إلى الانطلاق من صفر ويتسنى له أن يستأنف العمل من النقطة التي يقف هو عندها.
وفعلا اتضح أنّ عقيدة بورقيبة كانت في محلها، فإذا بذلك الشعب الذي كان يقول إنّ "الكفّ" لا تقوى على مقارعة "اللشفة"، أصبح على درجة من الإيمان والحماس وحبّ التضحية جعلته يقابل الرصاص بالرصاص ويقف في طريق الجندرمي والبندقية في يده ويقابل اللفيف الأجنبي في الجبال بالمقاومة المسلحة.
الفضل في كلّ ذلك يرجع إلى الطريقة الجديدة التي استنبطها المجاهد الأكبر، وهي طريقة كان يعلم علم اليقين أنها مقرونة بالأخطار. واهتدى المقيم العام في النهاية إلى أنها تهدد الكيان الاستعماري، فأرسل إلى الرئيس من يدعوه إلى التخلي عنها بدعوى أنّ حركة الحزب الجديد قد تمّ لها الانتصار على "الغرانطة" خصوصا وأنّ الرئيس كان يعقد اجتماعات في الجهات التي لم يكن الحزب القديم فيها موجودا.
محنة 3 سبتمبر 1934 كرّست فشل الاستعمار في القضاء على الطريقة...
وما كان بورقيبة ليتخلى عن طريقته لأنّ همّه كان منصرفا إلى مقاومة الاستعمار لا إلى مقاومة الحزب القديم. وكان يسعى إلى الاتصال بالشعب في جميع الأنحاء، وحيثما وجد شعبة دستورية جديدة دعّمها، وأينما لم يجد شعبة دستورية جديدة كوّنها. وعندما دُعي إلى الكفّ عن الجولات رفض وصمّم على المضيّ في السبيل التي آمن بها، ولم يكن 3 سبتمبر 1934 إلا نتيجة لرفضه وتصميمه ولم يكن له من الأغراض سوى جبر بورقيبة على قطع صلته بالشعب، لذلك عمد الاستعمار في ذلك اليوم إلى إيقافه ونفيه قضاء على خطته التي خلقها والروح الجديدة التي بثها في صفوف الجماهير التونسية.
ونعلم جميعا ما وقع مدّة النفي. ولقد تحدث الرئيس المرار العديدة عمّا جرى في تلك المدّة من أحداث، إلا أنّ الأهم في نظري هو الدرس الذي يجب استخلاصه من ذلك، وهو أنّ بورقيبة عرف كيف يبقى دائما واقفا على قدميه رغم المؤامرات والمكائد والاضطهاد ورغم تخاذل رفاقه وضعفهم وانصباب جميع وسائل القمع عليه. ولقد ردّ بورقيبة بتحدّ على "بيروطون"، عندما وصفه في خطابه يوم 6 نوفمبر 1934 أمام المجلس الكبير بالرجل "الصريع"، بقولته الشهيرة : "لا تنتظر مني تراجعا ولا خضوعا، فإني اخترت عيشة الغربة والاقصاء لأني أريد أن أبقى واقفا على قدمي"، مستذكرا في ذلك الأبيات الشعرية لفيكتور هوغو :
« J'accepte l'âpre exil n'eût-il ni terne ni fin
Je vivrais proscrit, voulant rester debout »
وهذه هي العبرة التي يمكن لنا أن نستنتجها من محنة 3 سبتمبر 1934.
... وفرضت زعامة صاحبها...
وإني أعتقد أنّ محنة 3 سبتمبر 1934 قد نحتت شخصية الحبيب بورقيبة، وفرضت زعامته، وأبرزت ما بينه وبين جماعته من فوارق جوهرية وبيّنت بالخصوص أن بورقيبة سوّاه الله من معدن خاص يمتاز عن المعادن الأخرى، وميّزه على غيره من البشر وجعله رجلا فذا لا تجود الأقدار بمثله إلا نادرا.
وصار المجاهد الأكبر بعد تلك المحنة وأقولها صادقا بدون أدنى مبالغة زعيم هذه الأمّة بغير منازع، وذلك بفضل ما كان يتحلى به من عزيمة قوية، وإيمان لا يتزعزع وصدق متناهي وإخلاص نادر واستقامة مثالية وثبات لا نظير له، وتضحية سخية في سبيل هذا الشعب والوطن.
ولا بدّ لي في هذا الباب أن أسوق إليكم ما قاله فيه "قيرين دي كايلا" عندما صرّح بالحرف الواحد : "ممّا يزيد في خطر بورقيبة أنه صادق مخلص، مستقيم وثابت على مبدئه ". تلك هي شهادة "قيرين دي كايلا" العدوّ الألد لتونس والخصم العنيد للمجاهد الأكبر. ولقد قال أيضا في جملة ما قاله فيه : "إنّ بورقيبة يستحق الاحترام لا محالة لكن يجب القضاء عليه ". ويعني بذلك القضاء عليه جسديّا رميا بالرصاص لأنّه رجل كان يمثل خطرا قاتلا بالنسبة إلى الاستعمار. فلئن كان بورقيبة في رأي "قيرين دي كايلا" يجسم أكبر خطر يتهدّد الكيان الاستعماري ممّا يستوجب التخلص منه نهائيا فهو جدير بالتقدير ويستحق أن تؤدى له التحية العسكرية لما هو جدير به من تبجيل بسبب صدقه وإخلاصه وثباته.
وموقف "قيرين دي كايلا" هذا مصداق للمثل العامي الذي يقول " يكرهني لكنه لا يحتقرني ". كان الرجل يكره بورقيبة، لكنه يحترمه لما يتحلى به من الخصال الفاضلة في باب الثبات والاخلاص والصدق والتضحية في سبيل هذا الشعب.
إنّ محنة 3 سبتمبر 1934 كانت تستهدف أساسا وبالدرجة الأولى القضاء على خطة بورقيبة، أما محنة 9 أفريل 1938، فلم تكن تستهدف هذه الخطة لأن السلط الاستعمارية أدركت أن الرجل لا شيء يوقفه عما وطد العزم عليه، بل كانت الغاية منها ادهى وأمر لأنها كانت تستهدف القضاء على شخص بورقيبة، أي القضاء على الرجل صاحب الخطة. وقد ألقي القبض على المجاهد الأكبر يوم 10 أفريل 1938 بينما كان مريضا. غير أنّ الطبيب الذي دُعي إلى بيته لفحصه أقرّ بإمكانية أخذه إلى السجن على أن يتناول فيه الدواء. وسيق إلى السجن المدني مع جماعة من رفاقه وقضى يومه هناك. وفي مطلع فجر صبيحة الغد، وفي الوقت الذي ينفذ فيه عادة الحكم على المحكوم عليهم بالإعدام وقع الجماعة من السجن المدني إلى السجن العسكري، إمعانا من السلط الاستعمارية في بعث الرعب في النفوس وسعيا منها إلى تحطيم المعنويات. وعندما وصلت الجماعة إلى القصبة طرق سمعها دوي الرشاش يطلق رصاصا. ولقد عمدت السلط الاستعمارية إلى كل ذلك لإيهام الموقوفين بأنهم سيساقون إلى ساحة الإعدام فاستولى الذعر والرعب عليهم وإذا بالرئيس يقول لهم: "حتى إذا ما وصلنا إلى الموت فإني أوصيكم بألا تضعوا العصابة على اعينكم. أريدكم أن تقابلوا الموت وعيونكم مفتوحة". وفي هذه الوصية تتجلى لنا قوة عزيمة بورقيبة ودرجة صموده وإخلاصه كما يتجلى لنا مدى استعداده للتضحية، بل وبلغ الرجل درجة من البطولة ما هو أروع من ذلك بكثير فعندما أخذه الضابط وأدخله إلى "السيلون" بالسجن العسكري بالقصبة، وهو مريض يرتدي معطفا وضع فوقه برنس لكي يحمي نفسه من شدّة البرد، سمع الحارس يوصد خلفه الباب الأول فالباب الثاني، وبقي في الظلام الدامس يتلمس الفضاء من حوله فلم تقع يده إلا على الإسمنت الصلب البارد، فلم يكن له من بدّ إلا أن يلتف ببرنسه ويستند إلى الإسمنت ويطلق لنفسه عنان التفكير. وفيما كان يفكر؟...الاستعمار عمد إلى كل تلك الأساليب للنيل من معنويات بورقيبة، وبورقيبة، في تلك اللحظة الرهيبة، يفكر في نفسه ويقول "هذه المرة قتل مائة واثنان وعشرون تونسيا ولم يمت فرنسي واحد" ثم يقسم: " إذا ما خرجت من هذه المحنة الثانية سالما فإني أقسم بالله أن اعيد الكرة مرة ثالثة وأن أقابل الرصاص بالرصاص".
وفعلا خرج بورقيبة سالما رغم مكائد الاستعمار وسجونه ومنافيه وعاد إلى الكفاح من جديد وهيأ المعركة المسلحة. فحتى قبل سفره إلى الشرق كلف من سيهيأ لتلك المعركة واندلع الكفاح المسلح يوم 18 جانفي 1952 إثر اعتقال المجاهد الأكبر، ووجدنا من المناضلين المخلصين والتونسيين الصادقين من حملوا السلاح وقصدوا الجبال وقابلوا الرصاص بالرصاص، وكلما قتل تونسي إلا وقتل فرنسي.
إنني أريد أن أقول في خاتمة هذا العرض بأن خصال المجاهد الأكبر يجب أن تبقى نبراسا لنا في أعمالنا وأقوالنا، وواجبنا الأكيد هو أن نتخذ من السيرة البورقيبية دروسا وعبرا، وأن نتخذ بالخصوص من شخص بورقيبة قدوة ومثالا ولنتذكر دائما وفي جميع الأحيان أن ما كان لله دام واتصل وما كان لغير الله انقطع وانفصل.
وقد ساهم إذن في تحقيق الاستقلال جميع التونسيين كلّ بقسطه. أمّا استمرارية هذا الكفاح، فقد كان يستلزم شرطا أساسيا لا بدّ من توفيره، وهو صمود القائد، لأنّ الشعب لا يمكن له أن يصمد ولا يستطيع أن يداوم إن لم يكن لديه قائد صامد، ثابت، لا يتزعزع أمام المحن.
فخصال المجاهد الأكبر يجب أن تبقى نبراسا لنا في أعمالنا وأقوالنا. وواجبنا الأكيد هو أن نستخلص من السيرة البورقيبية دروسا وعبرا، وأن نتخذ بالخصوص من شخص بورقيبة قدوة ومثالا لنا جميعا. وإني لأتمنى أن تخصص الجامعة التونسية "كرسيّا لبورقيبة" يقع فيه تدارس البورقيبية وتدريسها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.