يتواصل الحوار الشيق مع المناضل الكبير الباهي الأدغم عن فترة حساسة من تاريخ الحركة الوطنية، فيحدثنا عن ذكرياته العالقة بذهنه وهو الذي ساهم بقسط وافر فيها وفيما تلاها من أحداث قبل نيل تونس الاستقلال وبعده فواصل حديثه عن أسباب ومسببات أحداث 3 سبتمبر 1934 مؤكدا بأن جماعة الحزب الحر الدستوري الجديد بزعامة الراحل المرحوم الحبيب بورقيبة قد غيروا طريقة العمل، واعتمدوا طريقة الاتصال المباشر بالشعب خصوصا، بعد مؤتمر قصر هلال في 2 مارس 1934 بأن دعا الى دور أهم للصحافة، والى تنظيم صفوف الحزب، والتشهير بالتصرفات الاستعمارية كلما وقعت، وسن نهج الاتصال المباشر بالشعب عن طريق التنقل بين القرى والارياف فزار بورقيبة أرجاء الجنوب والساحل والوسط وغيرها لاقناع الجميع بحتمية النضال، وهو ما أثار غضب المستعمرين، فتوجه رجال الأمن صباح يوم 3 سبتمبر 1934 الى بيت الزعيم بالمنستير، فوجدوا مجموعة لا بأس بها من المواطنين أمام بيته معتصمين هناك، وأرادوا منع جنود المستعمر وشرطته من أخذ الزعيم لكنه قال لجموع الحاضرين تلك القولة الشهيرة: «ليس المهم في الموضوع حريتي، وإنما المهم صمود الشعب وإقامته الدليل على حيويته بالكفاح المتواصل الذي لا يلين ولا يعرف للاستكانة والخذلان سبيلا، فبالكرّ والفرّ في ثبات وتؤدة يمكن أن أسترجع حريتي وأعمل من جديد للقيام برسالتي وأنا محفوظ الكرامة... ولا فائدة الآن في إراقة الدماء، لأن السلط الاستعمارية تنتظر مثل هذا الجو من الفوضى، لتفعل ما بدا لها، والاصطدام بسبب اعتقالي لا يحقق أية مصلحة». وهكذا أخرج جنود الاستعمار الزعيم الحبيب بورقيبة من بيته وسط زغاريد النسوة وهتاف المناضلين، وتم إبعاده مع بعض الرفاق الى برج البوف بالجنوب التونسي، أمثال المرحوم محمود الماطري والصادق بوصفارة. مواقف بطولية وما كان علينا نحن المناضلين الشبان الا الانقياد لأوامر الحزب وتعليمات الديوان السياسي، ولقد كانت مواقف الدكتور محمود الماطري والزعيم الحبيب بورقيبة وهما في المنفى مواقف بطولية شجاعة، رفضوا بها الاستسلام للمستعمر وكانت رسائل الزعيم الى رفاقه الهادي شاكر وأخيه محمد وغيرهما تدعو الى الثبات على المبدإ والى رباطة الجأش، لأن بعد نظره هداه الى أن يستغل الشعب هذه المحنة، فلابد من توحيد الصفوف، وفرض النظام الحزبي والانضباط وحتى تتقدم مسيرة النضال، وهذا ما أكده الزعيم بورقيبة لنا في احدى رسائله من برج البوف في المنفى، حيث يقول: «لقد دخلنا الحلقة الحاسمة من كفاحنا، وأصبحت القضية قضية حياة أو موت، والأهم اليوم من كل شيء هو الصمود ورد الفعل، تبينوا كيف تتخذون القرارات الحاسمة، وأحسنوا تطبيقها إذ لابد من الدقة في التطبيق، أوصيكم بالنظام والانقياد والشجاعة». وأمرنا الزعيم كذلك بالنظام والاستمرار في إزعاج المستعمر حتى تظهر تونس بفضل كفاح أبنائها ورفضهم للظلم والطغيان أمة جديرة بالاحترام، مدافعة عن شرفها، وكم كان يردد من منفاه في رسائله تلك الآية القرآنية الكريمة من سورة الرعد: {إنّ ا& لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم}. وقد تهيأت أرضية النضال في الحقيقة بفضل عمل الحزب الجديد منذ 2 مارس 1934، فلم يكن غريبا أن تندلع الحوادث وتشب المظاهرات مع اعتقال الزعماء في 3 سبتمبر 1934، فقد جدت حوادث المكنين يوم 5 سبتمبر أي بعد يومين من الاعتقالات، ثم بطبلبة يوم 8 وغيرها من الأحداث في ربوع الساحل والوطن القبلي والشمال والجنوب، وأطلق جنود الاحتلال الرصاص على المواطنين الأبرياء فاستشهد العديد من أبنائنا وجرح الكثير. وأذكر أن السلط الاستعمارية جاءت تغلق نادي الشعبة الدستورية في قربة بعد إيقاف الزعماء وإطلاق الرصاص على المتظاهرين، فقال لهم رئيسها يتحداهم ويواجههم: «حسنا، أغلقوا النادي، ولكن الحزب قائم في قلوبنا ولن تستطيعوا إعلاقها». وهكذا بدأت رقعة النضال والوقوف في وجه الاستعمار تتسع لتشمل كل الجهات والفئات، في داخل الوطن وذلك خارج البلاد، من ذلك النشاط الكبير الذي قام به، في فرنسا، المناضلون الكبار الهادي نويرة والمنجي سليم وسليمان بن سليمان، فقد كانوا يتصلون برجال السياسة الفرنسيين ويعقدون الاجتماعات للتنديد بأعمال الاستعمار وينشرون المقالات الصحفية لإنارة الرأي العام الفرنسي بخصوص حق تونس المهضوم، كما كانوا يربطون الصلة بممثلي الأحزاب المغربية والجزائرية من طلبة شمال افريقيا وكذلك بأقطاب الفكر والسياسة أمثال الأمير شكيب أرسلان، في سويسرا. وتواصلت المظاهرات في البلاد، منها حادثة وقعت في العاصمة أوائل جانفي 1935، وقد صادفت حلول ليلة القدر في شهر رمضان المعظم، فاقتحم المتظاهرون جامع الزيتونة الذي كانت تطوقه العساكر، وكان الباي حاضرا، فعثر بحصير في قاعة الصلاة من شدة الزحام، فما كان منه الا أن أمر بسجن جميع الموجودين بالجامع، فتم اعتقال جمع منهم، في حين فرّ الباقون والتجأوا الى دكاكين الأسواق داخل المدينة العتيقة. وتواصل القمع الاستعماري، وتتالى التضييق على أبناء الشعب في تنقلاتهم وفي معاشهم، وتواصل نفي الزعماء وابقاؤهم مبعدين، وقد تعلل المقيم العام في خطاب يرد فيه على طلب الافراج عنهم وتخفيف حدة التضييق على الناس، مدعيا أنه اضطر لاتخاذ تلك التدابير حفظا للأمن ومراعاة للظروف التي تعيشها تونس من خصاصة وفقر وأزمات اقتصادية متتالية، وتوطيدا لبرامج الاصلاح الاقتصادي الذي جاء به، اذ لا يمكنه، حسب زعمه، تطبيقه الا في جو الاطمئنان، كما ذكر أن الحكومة والرأي العام في فرنسا يعتبر أن تونس سندا ترتكز عليه حرمة فرنسا وسلامة الجمهورية بحكم موقعها في منطقة حساسة من شمال افريقيا الفرنسية، وأن نظام الدفاع بالنسبة للحدود الشرقية، وهو يعني ألمانيا، يعتمد على استعمال القوات الافريقية بالذات. كما عبّر المقيم العام في خطابه، عن عدم استعداده للتسامح مع المشاغبين، وعن عدم اطلاق سراح أي موقوف أو معتقل إلا إذا عبر عن ندمه وتراجعه عن مواقفه، والحقيقة في رأيي أن المقيم العام وأذنابه كانوا يخافون من انتشار الوعي الوطني لدى أفراد الشعب التونسي، لذلك التجأوا الى التهديد والقمع وسياسة النار والحديد. افراج غير أن كل هذا لم يزد الزعماء المبعدين، وبعض الزعماء الناشطين والدستوريين الا عزما وحماسا ومضيا في طريق النضال والكفاح من أجل تغيير الوضع، الى أن ظهرت مناورات وألاعيب داخل الحزب، بقيادة الشاذلي خير ا& الذي افتك رئاسة الحزب وأراد تسييره ولكن بتواطؤ مع المقيم العام، حتى أنه قاد مظاهرة «مفبركة» خرجت تجوب شوارع العاصمة، مخفورة برجال الأمن المدججين بالسلاح في نظام وهدوء وباتفاق مع السفارة الفرنسية. ولكن خير ا& غادر البلاد نهائيا ليستقر في روما، مدعيا أنه اضطر الى اتخاذ قراره تحت ضغط السلط الاستعمارية. يبدو أن أمرين تضافرا أو تزامنا معا ليتم الافراج عن الزعيم بورقيبة ورفاقه سنة 1936، ويعودوا الى سالف نشاطهم السياسي الريادي الثوري الشعبي: أولهما حصول مظاهرات حاشدة واضطرابات قادها طلبة جامع الزيتونة أثر رفض مطالبهم في اصلاح نظام التدريس، وقد انضم اليهم تلاميذ المعهد الصادقي وتلاميذ المدارس الثانوية، والامر الثاني، وهو خارجي، هو فوز حزب الجبهة الشعبية بفرنسا في الانتخابات واعتلاء حكومة يسارية الحكم برئاسة ليون بلوم، قرر على اثر توليه الوزارة الاولى الافراج عن المبعدين، وكان ذلك في شهر أفريل 1936 من دون قيد ولا شرط، فكان هذا القرار وهذا الحدث انتصارا عظيما لا يقارن بما قد كان يفضي اليه برنامج «الاصلاحيين» وجماعة «المجلس الكبير» من اندماج، وبقي الحزب نابضا بالحياة في القلوب، موجودا في عالم الحسّ على الرغم مما حصل من بعض التخاذل والنكران لدى البعض، وهذا شأن الأحزاب والحركات الحية، ولا شك أن العبرة من هذه المحنة الاولى التي تعرض لها الحزب في 3 سبتمبر 1934 وزعماؤه ومناضلوه تمثلت بالخصوص في التخلص من عقدة الخوف والعجز والخضوع والخذلان والرضا بالموجود التي كانت معششة في أذهان الكثير من التونسيين بمفعول الفهم الخاطئ للحياة وللدين الصحيح، إذ كان عموم الشعب جهلاء، يرضون بتلك الحياة الذليلة، وفي اعتقادهم أن ذلك مكتوب مقدّر، حتى جاء جماعة الحزب الجديد وزرعوا في القلوب بذور الأمل والارادة والفعل والقدرة على المواجهة بالصبر والثبات والعناد، فكان لعودة الزعماء من المنفى الأثر الطيب في النفوس لعودة الروح الى جذوة الكفاح الذي سيتواصل رغم تعرض الشعب وقواده الى محن أخرى أكثر ضراوة، لأن محنة 3 سبتمبر 1934 وانتصار أبنائنا فيها، ستولد محنة 9 أفريل 1938، وفيها انتصار آخر لإرادة الشعب ووعيه، لتلد فترة أخرى أقوى وأشد في الثورة المسلحة في 18 جانفي 1952 والتي امتدت حتى حصول تونس على الاستقلال الداخلي في 31 جويلية 1954 وعودة الزعيم من المنفى يوم 1 جوان 1955 والحصول على الاستقلال التام يوم 20 مارس 1956 لنبدأ بتركيز الدولة المستقلة، وتأتي بعدها معارك الجلاء التام عن التراب التونسي في 15 أكتوبر 1963، وقد سلكت تونس فيها جميعا سياسة المراحل التي أثبت التاريخ جدواها ونجاحها.